ثورات نجم البحر العربية

الكاتب:

17 أكتوبر, 2011 لاتوجد تعليقات

هذه الثورات ليست كغيرها من الثورات.. هي نبت جديد على هذه الأرض لا شبيه له من قبل.. هي روح الشرق وقد وحانت لحظة ميلادها، وتحررها من سجون الطغاة، فما ارتكب الطغاة جريمة في هذا الشرق مثل سجنهم لروحه الساحرة، باعثة النور ومشعلة الحرية في نفوس الشعوب.. فبدون هذه الروح الثائرة غدا الشرق ساحة لأشباح هم أقرب للموتى منهم للأحياء.

وهي، هذه الثورات، صرخات المظلومين التي تتردد عبر القرون وقد أزفت ساعة انصافها… وفتحت لها السماء ابوابها، وحانت ساعة الاستجابة لها وما شباب العرب، الا جنودا من جنود القدر يضرب بهم الظلم والجور و يرفع بهم الانكسار والخيبة ويغسل بهم عار الهزيمة الحضارية وذلها، ليعلنوا بهذه الثورات نهاية لقرون من التيه الكسروي الجبري.

ولكن هل تتنصر ثورات الشباب العربي في نهاية أمرها؟ أم تتم السيطرة عليها واحتوائها؟

الثورات عبر التاريخ يمكن تقسيمها الى نوعين أو نموذجين: نموذج الثورات المركزية التي تخضع لقيادة وهيكلية تنظيمية صلبة، والنموذج الثاني الثورات اللامركزية والتي لا تخضع لقيادة واحدة ولا يجمع أفرادها الا الحلم بالمستقبل.

النماذج الثورية القائمة يغلب عليها النوع الثاني، حيث هي أقرب لما يسمى بنموذج نجم البحر وقد تحدث عن هذا النموذج كلا من Ori brafman  و Rod beckstorm  في كتابهما The starfish and the spider.

وتشبيه ثورات الربيع العربي بنجم البحر لأن هذا الحيوان بدون رأس، وأي محاولة لتقطيعه من اجل قتله سيكون نصيبها الفشل فهو ينقسم مباشرة الى نصفين ,وكل نصف يتحول الى نجم بحر جديد وبدلا من مواجهة نجم بحري واحد تصبح المواجهة مع نجمين، وما تظنه وسيلة من وسائل القتل يتحول مع نجم البحر الى وسيلة من وسائل الحياة.

في التسعينات الميلادية ومع انتشار الانترنت والمواقع التي تُمكن المتصفحين من إنزال الافلام الجديدة بعيدا عن شركات الإنتاج التي تحتفظ بالحقوق الفكرية لها، قامت شركات الانتاج برفع دعوى قضائية على أكبر هذه المواقع حينها في المحاكم الأمريكية فكانت النتيجة أن حكمت المحكمة بإغلاق الموقع نهائيا باعتباره مخالفا للقانون، لكن المشكلة لم تنتهي بذلك بل زادت وتفاقمت وخرجت عشرات المواقع الجديدة التي استفادت من الأخطاء والمخالفات القانونية التي كشفتها محاكمة الموقع الأول وذلك بتجنيها والتكيف معها فأصبحت شركات الإنتاج أمام مواقع تتكاثر بشكل سرطاني ولا تستطيع ايقافها لأنها استطاعت التغلب على نقاط الضعف الأولى.

وتكرر هذا الأمر مع موقع ويكليكس فبعد أن قامت الحكومة الأمريكية بإغلاق الموقع الأصلي تناسلت مئات الموقع التي تحوي ذات الوثائق المسربة وعندما تم التضييق على مؤسس الموقع تم ارسال كل الوثائق الى مئات وربما الاف النشطاء حول العالم ليقوموا بنشرها بأنفسهم فأصبح استهداف الموقع الأصلي  واستهداف مؤسسه محركا لمزيد من الكشف ومزيد من الفضح وليس مانعا أو معيقا لها.

ومن التاريخ الاستعماري في أمريكا عندما غزا الأسبانيون أمريكا الجنوبية واجهوا مقاومة شرسه من قبائل الاباتشي ولم يستطيعوا هزيمتهم، فهذه القبائل تعتمد على لامركزية مفرطة وهي أقرب الى الفوضى في تنظميها ومقاومتها لعدوان الغزاة، فكل فرد هو قائد ومحرض ولا توجد بنيه هرمية او هيراركية يمكن استهدافها من قبل خصومهم، ولكن بعد 200 سنة تم إنهاء مقاومة هذه القبائل البدوية بحيلة بسيطة وغير مكلفه تقوم على تحويلهم من النموذج العشوائي الفوضوي اللامركزي إلى نموذج مركزي هرمي تقوم علاقات قوة وسيطرة بين افراده، لقد قام الغزاة الأمريكيون بمنح كل طبيب عدد من الأبقار فاحتاج الطبيب إلى الاستقرار لرعاية ابقاره ثم تحولت علاقته مع شعبه من الاباتشي من علاقة ذات بعد معنوي إلى علاقة قائمة على تبادل مادي عبر توفير الحليب والبقر واللحم وهنا كانت لحظة التحول من نموذج نجم البحر اللامركزي الفوضوي إلى نموذج ذي بنية هرمية هيراركية تتركز فيه القوة عند الطبيب وهو يقوم بإعادة توزيعها وعندها أصبحت هذه القبائل تنتمي إلى ذات النموذج الذي ينتمي إليه خصومها وكانت الهزيمة بعد 200 سنة من المقاومة العنيدة في جبال المكسيك وسواحلها.

هذه النماذج  تشرح لنا لنا كيف أن الثورة التي تعتمد نموذج البحر في بنيتها وحركتها تستطيع الإنتصار ومن الصعب هزيمتها والالتفاف عليها فهي كلما ضُربت في موقع انتقلت إلى موقع آخر وتنقسم لتزداد قوة وتتشظى لتكون أكثر شراسة.

نشهد هذا النموذج واضجا وجليا في الثورة السورية التي عجز النظام القمعي في سوريا بجيشه وميليشياته عن إخمادها والقضاء عليها رغم أنه قام باعتقال عشرات الألوف من شباب سوريا، وقتل الالاف منهم، وحاصر المدن واغتال العديد من الرموز، لكن ذلك لم يؤثر على زخم الثورة بل زادها تجذرا ووسع دائرة التأييد لها وربما قريبا يصل مداها الى حلب ودمشق.

أبرز ما يميز هذا النموذج الثوري هو الحلم.. الحلم هو القائد وهو الذي يؤلف بين الأفراد وليس التنظيم الحديدي أو القائد الكاريزماتي الملهم، إذ يذكر أحد نشطاء الثورة المصرية عمرو عزت في مقاله بعنوان: عندما طارد الخيال الواقع في أرض مصر وأسقطه، كيف أنهم خلال ثمانية عشر يوما صمدوا أمام كل محاولات السلطة القائمة لتفريقهم عبر عروضها المتوالية، فلم يكن سبب الصمود أن هناك قائدا صمد، بل كثيرون منهم سايروا عروض السلطة وكادوا يقبلوا بها، فكان الذي صمد هو الحلم والخيال الذي جمعهم وأجبرهم على مواصلة الثورة حتى اسقاط الرئيس.

ولكن هل يمكن هزيمة هذا النموذج الثوري واضعافه وتطويقة؟ في الحقيقة أنه من الممكن حصول ذلك بأحد ثلاث وسائل:

أولاً: تشويه الحلم أو تغيير الايديولوجيا الجامعة، وأبرز الأمثلة على نجاح هذه الوسيلة ما حصل في إحدي الدول الأفريقية مع عصابات إرهابية فوضوية، كانت تستقطب الشباب لأن الشباب كان شعارهم  بما أن الحياة لا امل فيها فلننضم لعصابات الجريمة والفوضى، وبعد أن سعت الحكومة إلى تبديل هذه القناعة أو الايديولوجيا اليائسة، أصبح الشعار السائد بين الشباب هو: هناك أمل في الحياة ولذا نستطيع أن نجعل حياتنا أفضل، مما أدى إلى ضعف التحاق الشباب بالمنظمات الارهابية الاجرامية وانطلقوا يصنعون الحياة لبلدهم.

وفي الثورات العربية الصراع قائم بين من يريد أن يجعل من هذه الثورات اشراقة أمل للمستقبل ومبعث لروح الحرية في أمة طال غيابها وأذنت ساعة حضورها، وبين فريق آخر يبث دعاية مضادة مضمونها أن هذه الثورات ليست إلا نهاية للأمن وبداية لشقاء وجحيم الشعوب. إذ يسعى الفريق الأخير من وراء ذلك إلى منع التحاق المزيد من الشباب إلى هذا الربيع الجاذب لهم.

ثانيا: تحويل هذه الحركات التغييرية اللامركزية إلى حركات مركزية لتكون جزءًا من علاقات القوة القائمة لتسعى وراء تحقيق مصالحها الخاصة وتصبح حساباتها حسابات فئوية لا حسابات ثورية، مما يفقدها تفوقها الأخلاقي من جهة، كما أنها من جهة أخرى ستظل غير قادرة على حسم الصراع  في ظل وجود قوى النظام القديم التي لم تغير عقيدتها بعد.

وكمثال لهذا النموذج نشهد أن حركة 6 ابريل ـ أيقونة الثورة المصرية ـ ترفض التحول إلى منظمة سياسية وتصر على استمرارها على طبيعتها في مرحلة ماقبل الثورة المصرية، بل إنها قررت عدم الدخول في الانتخابات القادمة لتستمر قوة ضاغطة بخطابها وأداءها الغير خاضع لجاذبية المصالح والمكاسب الحزبية والملتزم بالحلم الثوري.

ثالثا: أن تتحول الثورة المضادة إلى النموذج اللامركزي ونصبح أمام صراع بين نجوم بحر متعددة وليس نجما بحريا واحدا ولكن هذا التحول يظل صعبا على سلطات تمثل المركزية جوهر وجودها وبدونها تفقد قدرتها على الاستمرار.

ورغم أن هذه الوسائل الثلاثة يمكن أن تؤدي مجتمعه أو منفردة إلى احتواء الثورات العربية وإضعاف زخمها إلا أن هذا الأمر أيضا تكتنفه العديد من المصاعب وذلك لأن دخول الشبكات الاجتماعية زاد من قوة الطبقة الوسطى الحاملة للثورة في مقابل تعطيلة لقدرات السلطة التقليدية بل وقتلها في كثير من الأحيان. وهذا خلق ما يسميه بعض الباحثين ومنهم كلاي شيركي الباحث الأمريكي البارز في الاعلام الجديد  “معضلة المحافظين” أو “معضلة الديكتاتوريين” وذلك في مقاله في الفورين افيرز،  فالانظمة المحافظة المستبدة تعودت على احتكار الخطاب العام وانتشار الشبكات الاجتماعية جعل من هذه السلطات تحت مسائلة ورقابة من الجمهور لأول مرة في تاريخها، فهي أمام خيارات جميعها صعبة، فإما أن تضطر للدعاية الترويجية المضادة وقد ثبت عدم فاعليتها في السيطرة والمنافسة أو أنها سوف تضطر الى سياسة حجب الانترنت وربما ايقافه ومنع الهواتف المحمولة وإذا فعلت ذلك سوف تستثير الموالين لها من الشعب وتغضبهم.

تعودت السلطة الاستبدادية أن تحكم سيطرتها على ثلاثة أمور:

1. شبكة انتقال المعلومات والتراسل ( البريد، الهاتف، البرقيات، الخ )

2. وسائل الترابط والتنظيم ( مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب، المساجد، الخ )

3. وسائل التعبير والاحتجاج ( مظاهرات، اضرابات، بيانات، اعتصامات، خطب الجمعة الخ)

إن أي نخبة تمتلك هذه الوسائل الثلاث متحررة من نفوذ السلطة وهيمنتها فإنها قادرة على صناعة حركة تغييرية اذا توفر لهم عنصري الحلم الخلاق والارادة الصلبة فهذه العناصر  الثلاث تشكل اسس حركات التغيير وبدونها لايمكن لأي تغيير شعبي أن ينجح سواء كان تغييرا جزئيا أو شاملا .

السلطة الاستبدادية تعودت أن تسيطر على هذه الأشياء الثلاثة، ومن خلالها تحكم جمع القوة بيدها، ولا تسمح بتشتت القوة وتوزعها داخل المجتمع بعيدا عنها وعن ما تسمح به، فقد كان هذا التحكم قبل عصر web2.0 ولكن الأمر قد تغير مع الفيسبوك وتويتر واليوتيوب تغيرا جذريا ينذر بانهيار نسق القوة التقليدي وتحول القوة الى عنصر متحرر من السيطرة يستطيع الجميع امتلاكه، إن هذا التحول يشبه ما لو كان مجتمعا تقليديا يسيطر عليه كاهن عبر سحره وتعاويذه ثم جاءهم من نشر كتب السحر وأسراره بين الناس، فأصبحوا جميهم قادرين أن يكونوا سحرة وكهانا، هنا لن يستطيع هذا الكاهن السيطرة كما كان يفعل في سابق عهده، واسحاره وكهانته ما أسرع اكتشافها وإبطالها، إننا في الحقيقة نعيش لحظة انكشاف السحر السياسي وتوزعه بين الملايين من البشر، فما فعلتة ثورة الانترنت وخصوصا مواقع الشبكات الاجتماعية يحاكي الأسطورة اليونانية “أسطورة بروميثوس” الذي سرق شعلة المعرفة من زيوس كبير الآلهة ليمنحها لكل البشر، فالإعلام الاجتماعي سرق سر القوة والسيطرة على العقول من آلهة السياسة وسحرتها ليجعله ملكا لكل البشر.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق