الشباب ليس مزحة

الكاتب:

11 أكتوبر, 2011 لاتوجد تعليقات

قال حكيم: عليك بالشباب السالمي الصدور، المبتدئين بالنظر في العلوم، المريدين طريق الحق.. واعلم أن الله تعالى ما بعث نبياً إلا وهو شاب،  ولا أعطى الحكمةَ أحداً إلا وهو شاب، واعلم أن كل نبي بعثه الله أول من كذبه هم شيوخ قومه..

 * * *

زرت مصر قبل الثورة بما يقارب الشهرين، وتحسست عن قرب كيف كان المناخ “الخانق” سائداً وعاماً؛ فالغالبية في الداخل كانت تشعر بحالة الانسداد الشديدة التي وصل لها البلد. وهي حالة انسداد تأخرت معالجتها لفترة طويلة، فمنذ ما يقارب الثلاثة عقود، أعلن جمال حمدان في مؤلفه “شخصية مصر” أن مشكلة مصر هي أنها “لا تثور أبداً” وإنما أمام الأزمات والضربات المتلاحقة تظل فقط “تنحدر، تتدهور” بلا مواجهة حاسمة.

الانحدار استمر منذ تلك الفترة، ولكن مصر فعلتها أخيرا وثارت. هذه الثورة لها هي تغيير في “المسار”، وهذا هو أهم جزء في الثورة.. أن يتم تغيير المسار ليتحول من مسار انحدار إلى مسار صعود. فالثورة، بحد ذاتها، لا تجلب نجاحاً، ولا تعني تحقيقاً للتنمية ولا غير ذلك من الأهداف، وإنما تعني تعديل وجهة. فكما أن البلد كان يهبط عبر تراكم الصغائر والنقائص بمرور الزمن، فهو قادر أيضاً -حين يتم تعديل مساره- على فعل العكس وحصد مكاسبه بمرور الزمن أيضاً.

بعض أعداء الربيع العربي يعيبون على الثورات هذا الأمر، أي أنها لم تحقق نجاحات إلى الآن، وهذا يبين عدم فهم منهم للثورة!. فالثورة لاتنقل البلد، ولا تحقق المكاسب الفورية، وإنما هي قادرة على تغيير الشروط الموجودة، وإزالة عقبات المسار وتغييره..

أعود لرحلتي تلك إلى مصر. في هذه الرحلة حدث أمامي مشهد فريد. في أحد الأيام كنت قد وصلت إلى الأهرامات بعد منتصف العصر بقليل، وبعد وصولي مباشرة بدأ الحرس، وبعضهم كان بلباس مدني، يطلبون من الموجودين الخروج من المكان لقرب انتهاء اليوم. كنت أريد أن أنعم ببضع لحظات من التأمل في مكان التاريخ هذا، لذا انزويت لحظتها خلف صخرة كبيرة قريبة مقابلة للهرم الأوسط، بحيث لا يراني أحد.. أخذ السياح يغادرون المكان، إلّا شاباً أتى وجلس على صخرة قريبة أمامي. أتاه حارس بلباس مدني يأمره بالخروج فرفض. أخذت استمع للمشادة الكلامية بين الاثنين. وربما بدأ الأمر عبر أن الحارس هدد هذا الشاب أو طلب منه مالاً كما يحدث عادة في هذا المكان. كان الشاب الذي حضر للتو، شاباً مصرياً من أبناء البلد، يرتدي الجينز ويحمل حقيبته القماشية الخفيفة على ظهره، ومتصلباً في رده على الحارس. الحارس كان يهدّده ويقول أنه سينادي على “حضرة اللواء” الذي سيقوم بتأديبه، والشاب كان يرفض ويقول لرجل الأمن اذهب وناد على من تريد يا “مرتشي ويا…”.

مشهد هذا الشاب الذي أراد الجلوس للتأمل أمام الأهرامات، وكأنه يرى مصر للمرة الأولى، ويقف بشراسة أمام القانون “بنسخته السائدة كما هي في البلد”، كان هو بالضبط مشهد فجر مصر الذي تجلّى في أيام الثورة. ففي مشهد غير مألوف، تجد فرداً وحيداً يتحدى رجال الأمن في مكان يعج بهم وبسياراتهم القريبة، ويصر على موقفه الاخلاقي أمامهم. العلاقة المتصلبة بقالبها المزمن مع الرسمي والسياسي، يعاد تشكيلها هنا من جديد، كما حدث أيام الثورة.. لم يكن هذا الشاب ليكون قادراً على إعادة التشكيل هذه لو لم يكن متأملاً لبلاده بأعين جديدة، وبنفس جديد (ألم يكن جالساً عند الأهرامات لهذا السبب، وكأنه يرى بلاده للمرة الأولى؟).. وهذه هي ذات روح الشباب التي تولدت لدى كثير من أبناء مصر، واستطاعوا من خلالها صنع التغيير الاستثنائي، على مستوى “الدنيا” و”أمها”.

 * * *

هذا ما يحتاجه الشباب، النظر إلى بلادهم وأحوالهم بأعين جديدة، تمكنهم من اجتراح التغيير، والجرأة في طلب تحسين واقعهم وشروط حياتهم وبلادهم. لقد حُرم كثير من الشباب من هذه النظرة وهذه القدرة عبر عملية اقناع مزمنة لهم، أنه يوجد من هو أعرف، ومن هو أقدر، ومن هو أكبر.. وكل ما يبقى عليهم، هو مسألة الاتباع والانقياد والتسليم.. ولكن عامنا هذا قلب هذا النسق، وغير هذا الرتم في بعض ما غيّر. أحداث الربيع العربي علمت الشباب الكثير عن أنفسهم وعن قدراتهم، والعجلة بعد ذلك لن تدور إلى الخلف، و”حظاً موفقاً” لمن يريد اقناع الشباب أن يعودوا إلى مربعاتهم السابقة.

قدوم الشباب وتمركزهم في سدة مشهد الربيع العربي لم يأت ارتجالاً أو تجاوزاً لا أساس له،  بل كان أمراً له ارهاصاته المستمرة، كأي عامل حقيقي ومتأصل. ففي مصر على سبيل المثال، بدأت الحركة الشبابية تكتشف نفسها منذ عقد تقريباً، من خلال المشاركات الاحتجاجية المتضامنة مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وخلال منتصف العقد الماضي بدأت الحركة الشبابية في الظهور بشكل أوسع عبر الانضمام إلى حركات اجتماعية وسياسية ظهرت في المشهد المصري، وأعطت الشباب مكاناً مستحقاً في كيانها، كحركتي كفاية و 6 أبريل. وذلك على عكس حركات وتنظيمات تقليدية سابقة في البلد لم تمكّن للشباب مثل هذه المساحة، فعلى سبيل المثال، وقت الثورة حدث تنازع على مستوى حركة “الإخوان المسلمين” بين القيادة التقليدية للحركة وشباب الحركة، بسبب تأخر رتم الأولى في التحرك مقارنة بالحماس والقدرة الشبابية فيها.

وتكون الثورة ناجحة وناجزة الحراك بقدر نجاح الفاعل الشبابي فيها. من خلال تأمل الفرق بين حالة الثورة في مصر واليمن.  فرغم إن المظاهرات في اليمن ضد النظام كانت هي الأولى على المستوى العربي حيث بدأت قبل سنوات، ورغم التضحية والجهد الشبابي العظيم الذي قدم فيها، إلا أننا نشاهد التباطؤ في قدرة الثورة على اسقاط النظام، وهذا يعود إلى إن الثورة في اليمن تم الالتفاف عليها بتجاوز صوت الشباب والتعتيم على حسهم التغيري، بإحالة مشهد الصراع ليكون بين صراعاً بين نخب وقوى موجودة من الأساس في المشهد اليمني. بينما العكس حصل في مصر، ففي مصر كانت الثورة فاعلة وسريعة لقوة عامل الشباب فيها، وحتى الآن لازلنا نرى قوة عامل الشباب في مصر في مشهد ما بعد الثورة.

كما أن قوة الشباب وثمرتهم لا تكمن في تفاعلات الحراك وفي  الثورة فقط.. بل لهم دور فاعل ومطلوب في مرحلة ما بعد الثورة. فكما تمت الإشارة، الثورة تزيل العقبات، وتُسقط الثقل الممانع أمامها، لكن طريق البناء بعد ذلك طريق طويل، فالأمر كما تقول الحكمة المنسوبة لمانديلا: “إحقاق الحق، أصعب من ابطال الباطل”. وعامل الشباب في جزئية البناء، وفي مشوار اكمال المسار الجديد بعد الثورة هو عامل أساس. فالثورة الشعبية تستلهم روح الشعب في مشوارها، والشباب إنما هم جوهر وقلب هذا الشعب، وهم أغلبيته وعماد مساعدته عبر تجديد الدماء وطاقة العمل والرؤى والأفكار الجديدة.

 * * *

قال ماركس أن “أفكار أي جيل هي أفكار نخبته”.. وهذا ينطبق بشكل كبير على أوضاع سابقة تمر بها المجتمعات ولم يكن فيها للشعب ولا للرأي العام تأثير يذكر.. فالنخبة –أي نخبة- تتكلس بمرور الوقت، وتتجمد عند ذات المكاسب التي جعلتها نخبة. يتطور المجتمع، وتتغير الحياة، ولكن النخب تمارس تزويدنا بذات الأدبيات، وتعزز ذات النمط السائد، لأنها تعرف أن أي تغيير في الوضع القائم يكون محفزا لإحلال نخبة جديدة محلها. فتستمر في إعادة إنتاج الوضع القائم كما هو. لذا فالأقرب هو أن المجتمع ينجح حين تكون أفكاره هي أفكار شبابه لأنها أكثر واقعية ولا تعاني من ذات العلة التي تعانيها النخب التقليدية.

ولكن مسألة تمكين الشباب لا تنجح برداً وسلاماً في المجتمعات، بل هناك عقبات حقيقية أمامها، تتمثل في عدم إعطاء مساحة، والتسطيح والتجاهل والاستخفاف بما لديهم. يتحدث “نعوم تشومسكي” عن تأثير الحركات الشبابية في الستينات، أو ما كان يسمى بـ”زمن المشاكل” في أميركا، فيوضح كيف أن الكثير كان يصف هذه الحركات بالسطحية والتهور والمشاغبة، وكيف أن النخب كانت تتخوف من هذه الحركات وأنشطتها. ولكن مع ذلك يصف تشومسكي أن العديد من المغانم التي تم الحصول عليها في الستينات على مستوى الحقوق المدنية، وحركة المساواة بين الجنسين وغيرها، لم تكن لتتحقق لولا اقدام الحركات الشبابية واندفاعها. يبين تشومسكي أن هذه الحركات الشبابية واليسارية منذ الستينات لم تفلح في تغيير “المؤسسات”، ولكنها نجحت في تغيير “الثقافة”.. ولم نكن اليوم لنشاهد رئيساً أسوداً يحكم أميركا لولا هذا النجاح في تغيير الثقافة.

ما يُحسب ضد الشباب اليوم، قد يمثل مكسباً لهم في الواقع. فالخبرة أحيانا تمثل فخاً للتواكل والتكاسل والركون إلى الوضع القائم والاطمئنان إلى ما سلف. بينما لحظات الانسداد في المجتمعات، تبحث عن ذلك النشط المتجاوز، الذي يأتي بنفَس جديد، وذاكرة طرية. ينجح الشباب إن نجحوا لأنهم يتخففون من الذاكرة، ويتجاسرون على الحلم، فأي حديث طائفي وسياسي عقيم إنما يبدأ من “ذاكرة مُثقلة” وينتهي إليها.

لم تكن الثورة الشبابية في مصر وتونس قادرة على النجاح والقفز على المراحل، لو كانت تعطي صوتها للمعارضة “المخضرمة”، أو تُرخي اذنها لتسمع أحاديث ومشاورات النخب والأحزاب القائمة، أو لتمكن نخباً استقرت طبيعتها وترسمت أمورها في ظل نظام سابق ، فكثير من هذه النخب، يصعب عليه أن يقف ضد النظام (فهي قد أصبحت نخباً تحت ظلّه!).

هذا التخفف من الأنماط والأدبيات التقليدية، مكّن من شباب الربيع العربي من تحقيق نجاحاتهم على أرض بالواقع، والانطلاق من بعد تجريبي يتعرّف المشاكل الحقيقية ويتوحد لأجلها، فلاحظنا كيف توحدت جهود هؤلاء الشباب تجاه مطالب مدنية ومؤسسية على الرغم من قدومهم من خلفيات متنوعة. مع النسق الشبابي لم يعد الأمر كما السابق. بمعنى آخر، لم يعد مهماً ما أنت، سواء كنت إسلامياً أو ليبرالياً أو من طائفة أخرى، ما دمنا نتعاضد على نفس الأهداف لتحقيق لمسار تكمن فيه مصلحة الجميع.

هناك دوماً امكانية خلق معايير وملامح جديدة تمكن الشباب من توحيد الجهود، عوضاً عن الملامح النزاعية السابقة التي كانت تصوغها النخب دوماً. هنا أود أن أستعير ملامح للطبقة المثقفة “الانتلجنسيا” كما صاغها المفكر الراحل خلدون النقيب في كتابه “في البدء كان الصراع!، ص404”. يذكر وجود ملامح أربعة تميزهم وهي “الاستقلالية النسبية عن السلطة.. معاداة الوضع القائم (status quo) ونقد النظام الاجتماعي والسياسي.. امتلاك النزعة الإنسانية التحررية.. وأخيراً, الجمع بين التنظير والعقل الاجتماعي والسياسي”. من المفيد أن نضعها كملامح مبدئية نستلهمها ونعمل على تطويرها لتساعد في تطوير الجهود، والتخفف من استلاب الشباب وبعثرة جهودهم في صراعات زائدة ومعارك وهمية.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق