حتى أنت يا تشومسكي!

الكاتب:

20 يوليو, 2014 تعليق واحد

أغلب المهتمين بالشأن السياسي يعرفون تشومسكي ويقدرون آراءه، ولا يستطيع أحد أن ينكر دوره وأثره الكبير في الساحة السياسية. وأنا شخصيًا معجبة بتشومسكي وأقدره كثيرا كلُغوية ومهتمة بالسياسة، ولكن تقديري تشومسكي لا يعني موافقته على جميع آرائه؛ لا سيما مقالته الأخيرة التي نشرت في صحيفة The Nation والتي انتقد فيها حملات المقاطعة الفلسطينية وتنبأ بفشلها.
يبدأ تشومسكي مقالته بالتركيز على الدور الرئيسي الذي تقوم به الولايات المتحدة من دعم عسكري واقتصادي ودبلوماسي وايدلوجي للكيان الصهيوني، ثم ينتقل للحديث عن حملات المقاطعة الاسرائيلية التي بدأت بالظهور احتجاجًا على ممارسات الكيان العنصرية والاستيطانية. بعد ذلك ركز تشومسكي في بقية مقالته على انتقاد حملة المقاطعة الفلسطينية BDS والتنبؤ بفشلها، حيث يقول تشومسكي بأن سبب تنبؤه بفشل الحملة هو عدم وجود دعم كافي لها. أما الحجج التي يبني عليها تنبوءه هذا فهي حجتان: الأولى عدم وجود تشابه بين نظامي الفصل العنصري بين اسرائيل وجنوب أفريقيا، والثاني بنود الحملة الثلاثة.
بدأ تشومسكي انتقاده لحملة المقاطعة الفلسطينية BDS بأنها غالبًا ما تعتمد على التشابه بين نظامي الفصل العنصري في اسرائيل وفي جنوب افريقيا، حيث يقول أن الاختلافات بين هذين النظامين أكثر جوهرية من نقاط التشابه بينهما.
ويضع ثلاث نقاط لهذا الاختلاف:
١. الدعم الاقتصادي.
٢. الدعم العسكري.
٣. سوء نظام الفصل العنصري.
أن الحجة التي يبني عليها تشومسكي تنبؤه حجه واهية وغير ملزمة مطلقًا. فكون النظامين مختلفين لا يعني ضرورة فشل حملة المقاطعة الفلسطينية. كل ما يعنيه الأمر أن النظامين مختلفين وبهذا من الطبيعي أن تختلف طبيعة حملات المقاطعة الموجهة نحو أي منهما، وفي المقابل، هذا لا يعني ضرورة وجود تشابه بين النظامين لكي نضمن نجاح حملات المقاطعة!
أما بالنسبة لنقاط الاختلاف التي ركز عليها تشومسكي فسوف أقوم بتفنيدها على التالي:
يذكر تشومسكي في مقالته أن أحد أسباب انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا هو المقاطعة الاقتصادية له، ولكن الاختلاف بين نظام الفصل في جنوب افريقيا ونظام الفصل في اسرائيل، هو أن العديد من الدول قررت مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا مما سبب ضغوطات اقتصادية كبيرة عليه، أما في حالة الكيان الصهيوني، فنجد أن الولايات المتحدة تقدم له دعم اقتصادي شامل حيث تضخ ٣ مليار دولار سنويًا له. ومن هذا المنطلق يتوقع تشومسكي فشل حملة المقاطعة الفلسطينية. بالنسبة للدعم الاقتصادي الأمريكي للكيان الصهيوني، فأنا أتفق مع تشومسكي على ضرورة الضغط على الحكومة الأمريكية لإيقاف هذا الدعم، ولكنني لست من السذاجة بحيث أتوقع أن تقوم الحكومة الأمريكية بهذا، فاسرائيل ليست في حقيقتها إلا جيب استعماري غربي يضمن المصالح الغربية في المنطقة ولن يتم التنازل عنه بسهولة. قد لا تنجح حملة المقاطعة الفلسطينية في تدمير الاقتصاد الاسرائيلي ولكنها بالتأكيد نجحت في التأثير عليه تأثيرًا كبيرًا، فقد نجحت حملة المقاطعة مؤخرًا- على سبيل المثال لا الحصر- في إغلاق مصنع اسرائيلي للمشروبات الغازية، ومنها نجاحهم المشهود في دفع الإتحاد الأوروبي للموافقة على مقاطعة المنتجات الاسرائيلية، وتهديد الكيان الصهيوني بفرض عزلة دولية عليه، وفك ارتباط العديد من الشركات والبنوك الأوروبية ارتباطها معه. هذا بالإضافة إلى أن توقع فشل المقاطعة اقتصاديًا لا يعني فشلها المطلق. فالمقاطعة تعمل على أكثر من صعيد؛ اقتصادي وثقافي وأكاديمي ورياضي وفني، أهمها من وجهة نظري الخاصة هي حملات المقاطعة الثقافية والأكاديمية. وذلك لأن أخطر ما تقوم به اسرائيل ليس فقط حملات الإبادة البشرية المستمرة، بل خطرها الأعظم يكمن في محاولاتها الدائمة لمحو الوجود الفلسطيني من التاريخ عبر تزييفها المستمر للتاريخ والثقافة الفلسطينية والتي نراها كثيرًا في محاولاتها اليائسة في نسبة كل ما هو فلسطيني لها لتضفي على وجودها الاستعماري بعض الشرعية التاريخية والجغرافية، آخرها كان محاولتها نسب الكنافة النابلسية لاسرائيل. وعلى خلاف ما ذكره تشومسكي فإن جرائم اسرائيل الانسانية لم تكن الدافع وراء حملات المقاطعة الثقافية والأكاديمية، إنما هي بسبب ما تقوم به اسرائيل من سعي حثيث لتزييف التاريخ وسلب هوية وتراث وتاريخ شعب بكامله، فالحملة تهدف لمحاصرة الاحتلال والتمييز العنصري لا معاقبته على جرائم الحرب التي يرتكبها. قد يكون نجاح المقاطعة الاقتصادية غير ذا أثر كبير بسبب دعم الولايات المتحدة، ولكن المقاطعة الأكاديمية نجحت في تجريم اسرائيل عالميا وزيادة الضغط الدولي عليها الذي نتج عنه إعلان العديد من الجامعات والمعاهد البحثية عبر العالم لوقف التبادل العلمي والبحثي مع جامعات ومعاهد الكيان، كما تم منع الكيان من استضافة دورة الألعاب الأوروبية لعام ٢٠١٤، وغيرها من نماذج النجاح المبهرة لهذه الحملة والتي تجدونها على موقعهم*. إن لم يكن هذا معيارًا واضحًا لنجاح حملة المقاطعة الفلسطينية BDS فلا أعلم ما هو معيار تشومسكي للنجاح! خاصة إذا ما نظرنا إلى عمر الحملة الصغير مقارنة مع تلك التي قامت في جنوب أفريقيا. ولم يجد تشومسكي غرابة في أن ينتقد حملة المقاطعة الفلسطينية على قلة نجاحها وهو الذي يذكر في بداية مقارنته أن العقوبات الدولية لم تفرض على نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا إلا بعد عقود طويلة من النضال! ألا تستحق الحملة الفلسطينية أن يشاد بالإنجاز السريع الذي حققته مقارنة بجنوب افريقيا؟
أما النقطة الثانية من نقاط الاختلاف بين نظامي الفصل العنصري، وهي الدعم العسكري، فيذكر تشومسكي أن كوبا كانت تقدم دعما عسكريًا للمعارضين في جنوب افريقيا بينما يفتقر الفلسطينيين لذلك. لا أعلم حقيقة على ماذا بنى تشومسكي افتراضه هذا! فلا يخفى على أحد أن إيران توفر الدعم العسكري لحماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة. حيث تمد إيران الفلسطينيين بأسلحة وصواريخ إيرانية الصنع عبر أنفاق تصل بين القطاع ومصر. كما قامت إيران بإعطاء الفلسطينيين تكنولوجيًا تصنيع الصواريخ الإيرانية مثل فجر واحد مما مكن الفصائل الفلسطينية من تصنيع أسلحة وصواريخ محلية. وبهذا نجد أنه إذا ما اتبعنا أسلوب المقارنة الذي يعتمد عليه تشومسكي في تنبؤه بفشل حملات المقاطعة فإنه لا يوجد اختلاف في هذه النقطة على غرابتها.
وأخيرًا، تشومسكي يتنبأ بفشل حملة المقاطعة الفلسطينية BDS في نضالها ضد نظام الفصل العنصري في الكيان الصهيوني، وذلك لأن الأخير أسوأ بكثير من قرينه في جنوب افريقيا. وهذه حقيقة لا يستطيع أي مطلع على تفاصيل الصراع الفلسطيني إنكارها. ولكن مالا يفهمه تشومسكي هو: أن هذا الاختلاف يجب أن يكون دافعًا للاستمرار في حملات تجريم هذا الاحتلال العنصري لا سببًا في توقع فشله!
هذا بخصوص الحجة الأولى، أما حجة تشومسكي الثانية التي بنى عليها تنبؤه وانتقاده، فتتمحور حول شروط حملة المقاطعة الثلاث؛ وهي: أولًا: المطالبة بإنهاء الاحتلال الاسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحددة عام  ١٩٦٧م، ثانيًا: إنهاء التمييز العنصري ضد الفلسطينيين العرب داخل اسرائيل ومساواة حقوقهم كمواطنين اسرائيليين، وآخرًا: المطالبة بعودة اللاجئيين الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم بعد النكبة. يبدأ تشومسكي انتقاده بضرورة حذف الحرف S من الاختصار BDS والذي يرمز لكلمة Sanctions عقوبات، وذلك لأن المطالبة بفرض عقوبات على اسرائيل لن يتحقق في أي وقت قريب! وكأن صعوبة تحقق هذا المطلب على المدى القريب يعني استحالة تحققه على الإطلاق!
لا يعترض تشومسكي على المطلب الأول ويرى أنه منطقي ولا إشكال فيه. ولكن المشكلة تكمن في البندين الثاني والثالث، حيث أن البند الثاني غامض وقد يفتح الباب لمناظرات من نوع البيت الزجاجي وضرورة مقاطعة أمريكا لدعمها لاسرائيل، وهذه فكرة ساذجة لحد كبير وتتناقض مع توقع تشومسكي بفشل الحملة، حيث يطرح هذا التساؤل، بعد وصفه للزخم الكبير لحملات المقاطعة في الجامعات الأمريكية والضغط عليها لمقاطعة الكيان الصهيوني بسبب جرائمه اللا إنسانية التي يرتكبها، “أليس من باب أولى أن يتم المطالبة بمقاطعة الجامعات الأمريكية ذاتها بسبب جرائم أمريكا اللا إنسانية؟” كيف يتنبأ تشومسكي بفشل حملات المقاطعة وهو يقول بأنها تنجح في ضغطها على الجامعات الأمريكية؟ هذا أولا، ثانيًا، ارتكاب أمريكا لجرائم ضد الانسانية أمر حقيقي ويجب تجريمه، ولكنها ليست معركة حملة المقاطعة الفلسطينية BDS التي تركز فقط وتعمل فقط من أجل تجريم الكيان الصهيوني وفضح ممارساته الارهابية ولم تزعم يومًا أنها حركة تطالب بحقوق الانسان في المجمل. كما أن تركيزها على اسرائيل لا يعني أنها توافق على الفظائع التي ترتكبها أمريكا كما يلمح لذلك السؤال. فلماذا يقوم تشومسكي بخلط الأوراق بهذه الطريقة الغريبة هنا؟ إن في سؤاله هذا تسطيح واستخفاف بالدور الكبير الذي تقوم به حملات المقاطعة في فضح هذا الاحتلال وممارساته. كان من الأولى أن يطالب تشومسكي بتنظيم حملات مقاطعة متخصصة في فضح الجرائم الأمريكية بدلا من أن ينتقد حملة المقاطعة الفلسطينية على تركيزها على فضح اسرائيل. حيث أن تعدد حملات المقاطعة وتعدد القضايا التي تعمل من أجلها لا يتعارض مطلقًا مع حملة المقاطعة الفلسطينية BDS أو يلغي أحدهما الآخر. أيضًا، لم يشرح تشومسكي نقاط الغموض في البند الثاني واكتفى بوصفه بالغموض مع أنه لم ينفي وجود عنصرية ضد العرب في اسرائيل. وقد قامت نادية أبو يوسف بالرد على هذه النقطة باستفاضة في مقال بعنوان: “كيف يحجب تشومسكي حقيقة اسرائيل” نشر في نفس الجريدة*. قامت نادية بتفصيل الممارسات العنصرية الاسرائيلية الموثقة قانونيًا عبر مركز عدالة (المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في اسرائيل)، وذكرت ضرورة فضح هذه الممارسات ودور حملة المقاطعة الفلسطينية BDS المهم في عمل ذلك.
أما البند الثالث وهو المطالبة بحق عودة اللاجئين، فتشومسكي يعتبر أن الإصرار على المطالبة بهذا الحق – على الرغم من أن الأمم المتحدة أقرت هذا الحق للفلسطينيين- سيؤدي إلى فشل الحملة بالتأكيد، ذلك لأن الطريقة الوحيدة لتحققه – حسب تشومسكي- هي بإزالة الحدود التي فرضتها بريطانيا وفرنسا عقب الحرب العالمية الثانية. أما سبب الفشل فهو لأن اسرائيل ترفض الانصياع لقوانين الأمم المتحدة. مما سبق يتضح أن توقعات تشومسكي لا مبرر لها سوى صعوبة تحقيق شروط الحملة مباشرة أو خلال فترة قصيرة.
أن يكون استردادك لحقوقك صعبًا لا يعني ضرورة التخلي عنها، أو أن يكون خصمك متجبرًا لا يعني ضرورة التنازل له.
حملة المقاطعة في جنوب أفريقيا لم تنجح مباشرة خلال فترة قصيرة كما ذكر تشومسكي بنفسه في ذات المقالة- بل استمر صراعهم ضد نظام الفصل العنصري أكثر من أربعة عقود قبل أن ينجح في تفكيكه تماما عام ١٩٩٤م، واستلزمهم الأمر عقدين قبل أن تتحرك الأمم المتحدة وتصدر قرارات لمقاطعة هذا النظام عام ١٩٦٢م.
وأخيرًا ..  يتنبأ تشومسكي بفشل حملة المقاطعة الفلسطينية BDS، ويزعم أنها ستضر بالقضية الفلسطينية أكثر من افادتها، بينما الحقيقة هي أن حملات المقاطعة إن لم تنجح في إنهاء نظام الفصل العنصري في الكيان الصهيوني فإنها لن تضر القضية مطلقًا، وذلك لأن كل ما يساهم في فضح هذا النظام وتجريمه سيساعد القضية بغض النظر عن الكيفية أو الأسباب.
Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

رد واحد إلى “حتى أنت يا تشومسكي!”