لماذا يلحد بعض شبابنا؟ – محاولة لفهم ومقاربة ظاهرة الإلحاد

الكاتب:

12 فبراير, 2012 لاتوجد تعليقات

ظاهرة الإلحاد من الظواهر المعقدة التي قد تتداخل فيها العوامل الفكرية والنفسية والاجتماعية؛ ولذا فإن تحليلها والبحث في أسبابها يحتاج إلى جهد كبير وبحث دقيق من مختصين في الفكر والدين والفلسفة وعلم النفس والاجتماع، وهذه مجرد محاولة بسيطة لتحليل الأسباب والدوافع التي قد تدفع ببعض شبابنا إلى الإلحاد أو ترك الدين، وهي جهد المقل الذي أرجو أن أقارب به المشكلة التي بدأ كثير من المصلحين يتساءل عنها وعن أسبابها.

قبل أن نبدأ في بحث الأسباب من المهم أن نتساءل هل صار الإلحاد ظاهرة أصلا؟!
من الصعب أن نحكم حكمًا دقيقًا؛ لعدم وجود إحصائية يمكن من خلالها أن نعرف النسبة وربما يكون عمل مثل هذه الإحصائية صعبا، لأن غالبية مَن يلحد أو يترك الدين يكتم هذا ولا يعلنه، خصوصا في مجتمعنا المتدين الذي يصعب أن يعلن فيه الإنسان مثل هذا الخيار، ولكن كثيرا من المؤشرات تؤكد أن الإلحاد واللادينية واللاأدرية والشك موجودة في بلادنا بشكل أكبر مما يتوقعه غالبية الناس، وخصوصا بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين.

سأحاول في هذه المقالة أن أشير إلى أهم الأسباب التي قد تدفع ببعض الشباب إلى الإلحاد أو اللادينية أو اللاأدرية، ولا يخفى أن الإلحاد يختلف عن اللادينية أو اللاأدرية، فالإلحاد هو إنكار وجود الرب، في حين اللادينية هي إنكار المصدر الإلهي للأديان، فكل ملحد هو لا ديني بالضرورة، والعكس غير صحيح، فقد يكون اللاديني ربوبيا مؤمنا بالخالق، وقد يكون لا أدريا، أما اللاأدري فهو الذي يتوقف عند سؤال وجود الخالق ويزعم أن الإجابة عن هذا السؤال غير ممكنة، وهذه الأسباب التي سأذكرها مرتبطة بالإلحاد واللادينية واللاأدرية على حد سواء، وليست مقتصرة على الإلحاد فحسب، وترتيب هذه الأسباب ليس له علاقة بأهمية السبب وتأثيره، وفي الغالب تتضافر عدة أسباب ومؤثرات فتقود الشخص للإلحاد، ويصعب أن يكون سبب واحد فقط هو الدافع للإلحاد.

١- التطرف والجمود الديني:

الغالبية العظمى ممن ألحدوا -في مجتمعنا- كان إلحادهم ردة فعل نفسية من التشدد الديني والاجتماعي!، التطرف الديني والتشدد الاجتماعي الذي يتربى عليه الشخص يؤدي به إلى نفور من الدين والتدين، ولذا نجد كثيرا من هؤلاء الذين ألحدوا قد تربوا في بيئات دينية أو اجتماعية متشددة، بل إن بعضهم قد حفظ القرآن وتعلم الدين وربما تتلمذ على بعض المشايخ ثم صار به الحال إلى الإلحاد!، من المهم أن يدفعنا هذا إلى التساؤل والبحث عن الخلل الذي أدى لمثل ردات الفعل هذه.
ومن الإشكالات التي يسببها التطرف الديني أنه يربي الأشخاص على التطرف والحدية في تبني الآراء فتجد أن عقلية هذا الشخص تتشكل بهذه الطريقة، وحين تتغير بعض أفكاره ويرتبك أمام بعض القضايا أو التساؤلات فإنه يتطرف بالاتجاه المقابل ويتخذ موقفا معاديًا للدين والتدين، وهذا ملاحظ لدى بعض من سلكوا طريق الإلحاد.

والاستبداد الديني بدوره أنتج نفورا من الدين والتدين فحينما يكون الدين خاضعا لسلطة دينية مقدسة ومستبدة، وقد تُوظَّف بوصفها ورقةً داعمة للاستبداد السياسي، فإن هذا قد يدفع الشخص لاتخاذ موقف من الدين نفسه!

ومن المسائل المهمة أيضا هي أن طبيعة الخطاب الديني عندنا تدفع الشخص لأن يعتقد أو يفترض بأنه سيوقن بكل شيء، التربية على اليقين (في كل شيء) لها تأثير سلبي، فبمجرد أن يدخل الشك في مسألة تبدأ المسائل كلها تنفرط لأنها بذات الدرجة من اليقينية! وهكذا يصبح الشك أو الارتباك أمام بعض القضايا سببا أو دافعا لأن يشك هذا الشاب في كل شيء، وهذا أمر خطير، عدد من هؤلاء الذين ألحدوا كانت شرارة الإلحاد بالنسبة لهم هو أن إحدى المسائل التي تربوا على أنها مسألة يقينية ومحسومة اكتشفوا أن فيها خلافا شديدًا بين أهل الدين أنفسهم، فشعروا بأنهم كانوا مخدوعين أو أن ما تربوا عليه وغرس في عقولهم كان خاطئًا، وربما كانت هذه المسألة فقهية وبسيطة كمسألة اللحية أو الإسبال أو صلاة الجماعة ولكن هذا ما يحصل فعلا لدى البعض!

٢- تساؤلات تبحث عن إجابة، وردود فعل تكبت وتخرس:

كثيرٌ ممن ألحدوا كان إلحادهم هو نتيجة لتساؤلات أربكت عقولهم فبحثوا عن إجابات لها ولم يجدوا شيئا، والمصيبة الأكبر هي أن تقابل مثل هذه التساؤلات بالكبت والتخويف والتعنيف، كبت الأسئلة وقمعها وعدم الترحيب بالاختلاف في الرأي ومنع الحوار سبب ردة فعل لدى البعض أدت إلى نفور من الدين والتدين.
من الضروري أن يهتم المفكرون والمربون بحوار الشباب المتسائل، وأن يرحبوا بكل أسئلته أيًّا كانت، وأعني بالحوار هنا الحوار الحقيقي، وهو في أن تعطي وتأخذ، تتحدث وتستمع، لا أن تقدم موعظة فكرية ثم تسمي ذلك حوارا!، بعض المشايخ أو المفكرين يتعامل مع الشباب بطريقة أستاذية بحيث ينتظره يسأل السؤال أو يطرح الشبهة كي يسرد عليه الإجابة التي يفترض هو أنها ستكون مقنعة، ولكن هذه الطريقة ليست مجدية مع هؤلاء الشباب.

ومن المهم أن أؤكد هنا أن طرح التساؤلات لا يصح أن يكون على الملأ؛ لأنه قد يربك عقول أناس لم تطرأ عليها هذه الاستشكالات، ومن الحكمة أن يطرح الشاب هذه التساؤلات لمن يظن أن بإمكانه أن يجيب عنها وأن يستوعبها، ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض هؤلاء الشباب يحاول أن يفرض على الآخرين أن يتبعوا طريقته في الشك والتساؤل وهذا ليس من الحكمة، ليس هناك أي إشكال في الأسئلة الوجودية التي تقلق الإنسان لأن هذا أمر طبيعي، ولكن الإشكال هو حينما يحاول البعض أن يفرض على الآخرين الشك والتساؤل الفلسفي بحجة أنه طريق اليقين، في حين أن إدراكات الناس تتفاوت وطرق وصولهم لليقين تتنوع وتتعدد بتعدد أنفاس البشر!

٣- الثورة على العقلية الأسطورية:

حينما ينتج الخطاب الديني عقلية أسطورية بسبب كثرة القصص والحكايات غير الثابتة التي تروي معجزات وحكايا تتناقض مع القوانين التي وضعها الله في هذا الكون، فإن هذا الأمر يدفع البعض لأحد أمرين: إما أن يعيش بتناقض بين عالم النظرية وعالم الواقع، أو أن يكفر بكل تلك المرويات صحيحها وضعيفها حتى ما ثبت منها في القرآن والسنة الصحيحة! ولذا من المهم ألا يكون الخطاب الديني سببا في تشكيل عقليات أسطورية عن طريق نقل قصص وحكايا لم تثبت ونشرها بين الناس ظنا منهم أنها ستزيد في إيمانهم على حين قد تكون النتيجة هي العكس!

٤- غرس الكراهية باسم الدين:

عندما يأتيك من يوجب عليك بحكم إسلامك أن تكره الآخر الذي قد يكون زميلا في العمل أو طبيبا أو معلما لمجرد أنه يخالفك في الديانة، فمن الطبيعي أن ينفر من هذا الكثير من أصحاب القلوب الطيبة والمحبة للآخرين، لأنهم يجدون هذا الأمر صعبا على النفس ومناقضا لما فطره الله في قلوبهم من حب للآخرين الذين أحسنوا إليهم.
هذه القضية مؤثرة لدرجة أن بعضهم يقرر أن يترك الدين ويلجأ للإلحاد لأنه أكثر إنسانية! وهذا عجيب، فالمصيبة التي يغفل عنها هؤلاء أن الإلحاد يحطم مبدأ الإنسانية تماما؛ لأن فكرة كرامة الإنسان لا يمكن أن تستند إلا إلى إيمان بخالق متعالٍ منحه هذه الكرامة، وإلا فلا شيء يميز الإنسان عن أي مخلوق آخر فكلهم مجرد نتيجة للصراع العبثي من أجل البقاء و(تمرير الجينات)!

لذا نحن بحاجة لأن يكون خطابنا الديني أكثر اعتدالا، وألا يغرس الكراهية في قلوب الناس لمجرد أن الآخر يخالفنا في الديانة، ومن المهم جدا التفريق بين المسالم والمحارب في شأن علاقتنا القلبية والسلوكية معه، وهذا واضح في سيرة النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- وفي آيات الكتاب الحكيم، وأحمد الله أن كثيرا من المشايخ في مجتمعنا صاروا يؤكدون هذه النقطة ويفصّلون في مسائل الولاء والبراء ويفرقون بين المسالم والمحارب.

٥- تقديس الأشخاص:

الحمد لله أن ديننا ليس فيه تقديس وليس فيه كهنوت وهذا يكاد يعرفه كل مسلم، فالعلماء بشر يصيبون ويخطئون وكل يؤخذ من قوله ويرد، إلا رسولنا المعصوم، ونحن نردد هذا ونسمعه دوما، ولكن الواقع أن هناك شيئا من التقديس الموجود لدى البعض، ومن الملاحظ أن من يبالغ بتقديس الأفراد تحصل له ردة فعل عندما يخطئ أحد هؤلاء المشايخ خطأً كبيرا أو يفتي بفتاوى يكتشف لاحقا أنها خاطئة تماما، وفي أشد الحالات تطرفًا قد تحصل ردة فعل لدى الشخص فينفر من الدين نفسه! وهذا عجيب لأننا تعلمنا أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون بالحق، ولكن يبدو أن من الصعب على الإنسان أن يكون موضوعيًّا فيفصل بين الدين نفسه وبين من يدعو له ويتكلم باسمه، ولهذا السبب يحصل هذا الخلط وتحصل مثل ردات الفعل هذه، ومن المهم الإشارة إلى أن ردات الفعل غالبا لا تكون هي السبب الأوحد وراء الإلحاد ولكن تكون بمنزلة المحرض وتصنع لدى الشخص القابلية لترك الدين.

٦- وجود الشر.. كيف يرضى الله بهذا الشر؟ وأين عدل الله في كل ما نراه؟

مسألة وجود الشر من أقدم المسائل التي تحدث حولها الفلاسفة المؤمنون، فالشر حاضر بشكل واضح في عالمنا الذي يملؤه القتل والظلم وتوجد فيه الأمراض والآفات وشتى أنواع الشرور، وكثيرا ما يكون المتسائل أو المتشكك الذي يستشكل هذه الشرور شخصا مرهف الحس لا يستطيع أن يرتاح ضميره ويتقبل فكرة أن الشر جزء أصيل في هذه الحياة، وأن الحياة لا يمكن أن تكون إلا كذلك، وهذه المسألة أجاب عنها كثيرٌ من الفلاسفة المسلمين إجابات متينة ليس هذا موطن ذكرها، ولا شك أن المفترض أن المؤمن الحقيقي يسلم بوجود حكمة وراء كل ما قدره الله وأذن به في هذا الكون.

لكن الإلحاد الذي يكون لهذا السبب هو في الحقيقة إلحاد مبني على موقف عاطفي وليس موقفا فكريًّا، والحقيقة أن بعضهم يستعمله فقط كحجة للتشغيب ولتبرير إلحاده ولو بحثت في العمق لوجدت أن هذا ليس السبب الحقيقي وهو مجرد حجة!

٧- القتل والحروب والعنف الذي يحصل باسم الدين والإله:

على مر التاريخ كانت الحروب تجليا من أقبح تجليات صراع الإنسان مع أخيه الإنسان، ومع أن التنازع والصراع هو طبيعة موجودة في الإنسان إلا أن كثرة الحروب التي كانت لأسباب دينية قد تدفع بعض الشباب إلى النفور من الدين بحجة أنه جعل البشر يقتل بعضهم بعضا، وهذه ردة فعل عاطفية وغير واقعية؛ لأن الصراع طبيعة موجودة في الإنسان كما ذكرت، ولو لم توجد في الأرض أديان أبدا لظل البشر يتقاتلون على الأعراق أو الأوطان، ولو لم توجد أديان ولا أعراق ولا أوطان…إلخ لاختلق البشر أي انتماء يفرق بينهم ثم تقاتلوا عليه! الخلاصة أن الدين ليس هو المسبب الرئيس في وجود الحروب وإنما طبيعة الإنسان نفسه، ووجود حروب لبست بلبوس الدين لا يعني أنها مبررة دينيا ولا يجب أن يحمل الدين مسؤولية ذلك وإنما الأفراد التابعون له.

٨- فكرة القضاء والقدر:

مع أني أرى الإشكال في هذه المسألة سهل إلا أن كثيرًا من الشباب كانت هذه المسألة هي بداية طريقهم للإلحاد! فهو يتساءل أسئلة من قبل:

لماذا يقدر علي الله أن أعصيه ثم يعذبني؟ لماذا يقدر علي أن أكفر ثم يعذبني؟… وغيرها من الأسئلة، والجواب عنها في نظري سهل وهو أن الخالق الحكيم جلت عظمته متعالٍ على الزمان والمكان فهو جل جلاله لا يجري عليه قانون الزمان الذي يجري علينا، والمحصلة يصبح افتراض هذه الإشكالات كلها غير صحيح في الأصل، وهناك إجابات أخرى كثيرة ومتينة ليس هذا موطن ذكرها.

٩- وهم اليقين الكامل / المطلق:

لا يمكن أن يكون يقين أحدنا كيقين إبراهيم عليه السلام الذي أراه ربه كيف يحيي الموتى أو كيقين موسى الذي كلمه الله، أو يقين محمد الذي تنزل عليه الوحي، أو يقين صاحبه أبي بكر…وغيره

درجة اليقين التي كانت عند النبي عليه الصلاة والسلام ليست مثل درجة اليقين التي كانت عند أبي بكر، ودرجة اليقين التي كانت عند أبي بكر ليست كدرجة اليقين التي عند غيره من الصحابة، ودرجة اليقين التي كانت عند الصحابة الذين عاصروا النبي الكريم وشاهدوا معجزاته ليست كدرجة اليقين التي عند من جاءوا بعده ولم يروه!

فليس مطلوبا من المؤمن أن يتوقع بلوغ درجة اليقين الخاصة هذه، إن على الإنسان أن يسأل الله دوما أن يزيده يقينا، لكن من الخطأ ومن العجيب أن ينتظر الإنسان أن يريه الله شيئا خاصا به أو يخرق له قانونا من قوانين الطبيعة كي يؤمن به، ثم إن لم يحصل له هذا صد عن فكرة الإيمان!

١٠- تخلف الأمة:

بعض شبابنا يترك الدين أو يشك به لأجل الواقع السيء الذي يعيشه المسلمون، وبسبب ما نعانيه من تخلف سياسي واقتصادي ونهضوي…إلخ، فهذا الشاب المسكين يتساءل بحرقة وبسذاجة: لو كان الدين الإسلامي هو الحق فلماذا نحن في ذيل الأمم ولماذا نحن الأكثر تخلفا؟! وينسى أن هذه هي سنة الحياة والتاريخ، وأن الأمة التي تأخذ بأسباب القوة والتقدم هي التي تقود الركب الحضاري، وأننا لو سلمنا بمنهجية أن الأمة المتقدمة هي صاحبة المعتقد أو الفكر الصحيح لكنا غيرنا ديننا كل ٢٠٠ أو ٣٠٠ سنة وصرنا كل مرة نتبع الأمة المتقدمة بحجة أنها على حق! ولذا فإن هذه ليست منهجية صحيحة في معالجة الأفكار وبحثها.

١١- تمزق الأمة وتفرقها:

تمزق الأمة وتشتتها وتفرق كلمتها هو مما يدفع بعض الشباب للحيرة والتساؤل، ومع أن هذا التفرق هو مما أخبر به الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلا أنك تجد هذا الشاب يحتار عندما يرى أمامه مذاهب شتى لا يعلم أيها يمثل الحق، وحينها يبدأ بالتساؤل، ومع أن البحث والتساؤل أمر محمود إلا أن بعضهم قد يفضي به التساؤل إلى رفض الدين كله، وهذا حاصل رغم أنه قليل، ولهذا أظن أن هذا السبب ذو أثر ضعيف.

١٢- واقع المرأة:

ربما يكون هذا السبب مفاجئا ولكن عددا غير قليل من الفتيات اللواتي تركن الدين كان الواقع أو الاضطهاد الذي تعانيه المرأة باسم الإسلام هو شرارة البداية التي جعلتهن يتركن الدين ويستاءلن عن مدى صحة هذا الدين أو ملاءمته وعدله.

١٣- الجفاف الروحي:

أؤمن بأن الابتعاد عن الله وعن الاتصال الروحي به سبحانه قد يجعل الإنسان عرضة بشكل أكبر لأن تتقاذفه الشكوك والشبهات فينجرف معها، مع التأكيد على أن  هذا ليس ضروريا فقد تعتري الإنسان شبهات وشكوك تمزق قلبه رغم أنه كثير العبادة وقريب من الله سبحانه.

١٤- الاندفاع والعجلة:

الشخصية المندفعة والعجولة قد تكون أكثر عرضةً للإلحاد بمجرد أن تعتريها بعض الشبهات أو الشكوك وهذا ملاحظ للأسف وهو دلالة على قلة الحكمة والصبر!، أبو حامد الغزالي -رحمه الله- صبر سنوات طويلة من عمره على مرارة البحث والشك إلى أن بلغ درجة اليقين، ولكن بعض شبابنا بمجرد أن تعتريه شبهة أو اثنتان يتعجل ويقرر أن يترك الدين وينفي وجود الرب!

١٥- الاعتداد بالذات والغرور المعرفي:

هذا من أمراض القلوب التي قد تقود الإنسان إلى الزيغ، وأؤمن أن الغرور المعرفي والثقافي قد يقود الإنسان إلى الانحراف الفكري.

١٦- سطوة الشهوات ومحاولة الهروب من وخز الضمير:

ربما لا يمكن أن يكون هذا سببا مستقلا وحدَه، ولكنه قد يكون بمنزلة المحفز للجوء لخيار الإلحاد كي يهرب الإنسان بهذا من وخز الضمير.

من طبيعة الإنسان أن ضميره يؤنبه عندما يقترف ما يرى ويعتقد أنه خطأ، وهذه دلالة على أن ضمير الإنسان ما زال حيًّا، هناك بعض الشباب ممن لا يستطيعون الصبر أمام المد الجارف من الشهوات، وضميرهم يؤلمهم ويؤنبهم إن عملوا المعاصي، وساروا وراء الشهوات، فيلجؤون للإلحاد كي يهربوا به من وخز الضمير ويقترفون ما شاؤوا من الشهوات دون أن يؤنبهم ضميرهم!

أؤكد أن هذا لا يمكن أن يكون سببا مستقلا بذاته، وإنما لا بد من وجود تراكمات وشكوك قبلها، وحب الشهوات ومحاولة الهروب من وخز الضمير دوره فقط هو في أن يجعل لخيار الإلحاد جاذبية أكبر تميل له النفس وتهواه، وربما دون أن يشعر الإنسان بتأثير هذا الهوى في نفسه!

١٧- السطحية الفكرية:

لست ممن يدعو لمنع الكتب وممارسة الوصاية الفكرية، ولكن الواقع أن هناك عددًا من الشباب الذين يتأثرون سريعا بما يقرؤونه دون أن تكون لديهم ملكة نقد سليمة للمقروء، فتجد أحدهم يقرأ في بعض كتب الفلسفة أو الأديان وسرعان ما يتأثر بها ويتشرب هذه الأفكار دون أن يمحصها ويقلب النظر فيها، بل إن بعضهم تبلغ به السطحية أن تتقلب أفكاره مع كل كتاب يقرؤه، فتكون حالته الفكرية الحالية هي انعكاس للكتاب الذي يقرؤه الآن!

ورغم هذا فإني لا أضخم دور هذا السبب كما يفعل كثيرون فما ذكرته من أسباب سابقة أكبر تأثيرا، وقد عنونت لهذا السبب بـ(السطحية الفكرية) لأؤكد أن الخلل هنا في فكر القارئ وليس في ذات الاطلاع على الأفكار المختلفة فهو أمر مشروع.

١٨- الأسباب العلمية الطبيعية:

مع أن فئة قليلة من الملحدين -في بلادنا- هم من يكون إلحادهم لأسباب علمية، إلا أن هذا السبب يغفله كثيرٌ من المفكرين أو الدعاة عندما يعالجون موضوع الإلحاد رغم أنه الأخطر والأعمق تأثيرا في النفس.

القرآن الكريم -بحمد الله- لا توجد به آيات تناقض ما يؤكده العلم بشكل صريح، وهذا من عظمة هذا الكتاب المدهش، أما التوراة فقد تورط كاتبوها بطوام كبيرة فيما يتعلق بالخلق وتفاصيل الخلق، وكثير منها تناقض ما توصل له العلم بشكل قطعي، وهذا ما جعل التمسك بالدين المسيحي أو اليهودي خيارا صعبا للإنسان الذي يحترم العلم، وربما لهذا السبب نجد أن من يلحدون لأسباب علمية في الغرب أكثر بكثير ممن يلحدون لأسباب علمية في بلاد المسلمين.

أهم النظريات العلمية التي قادت كثيرين للإلحاد هي نظرية التطور لداروين؛ لأنها تصادم وتعارض ما جاءت به الأديان من تفاصيل الخلق، وهي السلاح الذي يستعمله بعض الملحدين المتطرفين في الدعوة إلى الإلحاد ونبذ الدين.

إن الخداع العلمي -المقصود أو غير المقصود- الذي يمارسه كثير من المنتسبين للدين أو الفكر الإسلامي فيما يتعلق بنظرية التطور أثَّر بشكل سلبي في كثير من الشباب، فحينما يلقن الشاب أن نظرية التطور تبين خطؤها وبطلانها وأنه حتى العلماء الغربيون أنفسهم صاروا يرفضونها وأن مناصريها كفروا بها وتراجعوا عنها…إلخ الكلام المعروف، حينما يلقن الشاب هذا ثم يكتشف أنه كلام غير صحيح وأن نظرية التطور هي النظرية المعتمدة والمقبولة لدى المنظمات العلمية العالمية، وتطبيقاتها العلمية كثيرة، ويتفق معها غالبية العلماء لا سيّما المتخصصين في علم البيولوجيا والجيولوجيا، حينها من الطبيعي أن تحصل ردة فعل لدى الشاب وقد يتخذ موقفا سلبيا فيقبل بنظرية التطور بشكل كامل ثم يجعل الإيمان بها مناقضا للإيمان بالخالق، فضلا عن الدين!

قد يكون في هذا تعجل واندفاع ولكنه حاصل، ومن المفارقة العجيبة أنك قد تناقش بعض المتخصصين في الأحياء فتجد أنه لا يتحمس كثيراً لنظرية التطور، ربما يقبلها بصفتها نظرية ولكن تجد لديه استشكالات أو تحفظات أو تساؤلات، وحتى إن قبلها تماما فإنه لا يتحمس لها كثيرا وكأنها عقيدة، ولكن في المقابل تجد بعض الشباب المندفعين وغير المتخصصين عندنا ما إن يشاهد حلقتين لريتشارد دوكينز حتى يصبح من أشد المؤمنين بها والمناضلين عن صحتها والمتهكمين بفكرة التصميم الذكي التي تقول بها الأديان، وهذا يؤكد أن ردة الفعل النفسية والاندفاع والتراكمات السابقة لها دور مؤثر في سلوك طريق الإلحاد، ولذا أؤكد أن هؤلاء الشباب الذي يلحدون لأسباب علمية هم في الغالب يعانون من تراكمات جعلتهم يضيقون ذرعا بالدين، ولهذا حين يواجهون هذه الإشكالات العلمية لا يلجؤون لخيار التوفيق بين دلالات بعض الآيات أو الأحاديث الصحيحة التي قد تخالف ما توصل له العلم وإنما يختارون ردها كاملة ورد الدين كله!

ومن المهم هنا أن نشير إلى من يمكن أن نسميهم بالـ(علمويين)، وهم الذين لا يقبلون بأي فكرة أو حقيقة إلا إذا أثبتها العلم، وعقائد الدين غالبها من أمور الغيب فالإيمان بالله والجنة والنار والملائكة كلها من شؤون الغيب، ومثل هؤلاء يصعب عليهم الإيمان بالدين لهذا السبب، ولكني أظن أن هذه الشريحة نادرة.

١٩- الإلحاد كموضة فكرية:

أحيانا تجد أن الإلحاد قد أصبح لدى البعض -في مجتمعاتنا الإسلامية عموما- مجرد موضة ومراهقة فكرية أو وسيلة للفت أنظار الآخرين واستعراض العضلات، وغالبا ما تجد هذا عند الأشخاص محبي الظهور والبروز ولفت النظر.

٢٠- الاضطرابات النفسية:

قبل أن أشير إلى هذا السبب من المهم التأكيد على مسألة أن الاضطرابات النفسية ليست عيبا فهي في كثير من الأحيان تكون نتيجة إشكالات عضوية أو ظروف بيئية خارجة عن إرادة الإنسان ومن يهزأ بمن عندهم إشكالات نفسية هو في الحقيقة يهزأ بما قدره الله على الإنسان وهذه سخرية من قدر الله لا تليق بمؤمن ولا عاقل!

الاكتئاب هو من أهم الإشكالات النفسية التي قد تجعل الأفكار السلبية والسيئة تسيطر على الإنسان وقد تحدث نتيجة لهذه شكوك تربك عقله ولا يستطيع أن يتجاوزها، لا يمكن أن يكون الاكتئاب وحده سببا لذلك ولكن من الممكن أن يكون سببا مؤثرا وبشكل كبير، هناك من الشباب من حاول أن يعالج شكوكه بالفكر فلم ينجح، ولكن كانت حبوب (السيروكسات) أو (البروزاك) كفيلة بأن تمنحهم طمأنينة الإيمان قبل أن تكون علاجا للاكتئاب!

وهناك من كانوا غارقين في بحار الشك والحيرة ولكنهم بعد زواجهم استقرت نفوسهم واطمأنت وامتلأت قلوبهم بالإيمان، هذه الأمثلة تدل على أن للعوامل والظروف النفسية التي يمر بها الشخص تأثيرًا على حالته الإيمانية.

لدي قناعة أن كثيرًا من الآراء الفكرية المتطرفة أو الشاذة هي في حقيقتها مجرد تجليات لاضطرابات نفسية وإشكالات يعاني منها الشخص سواء كانت ميلًا للعنف أو تطرفا دينيا أو تطرفا إلحاديا وشكيا…وخلافه.

ومن الواضح أن معظم الأسباب السابقة التي أشرت إليها هي في غالبها ردات فعل نفسية وغير كافية لاتخاذ موقف من الدين بشكل كامل فضلاً عن إنكار الخالق، ولكن هذه هي طبيعة الإنسان الذي يبني مواقفه بناءً على ردود الأفعال.

قبل الختام، لا شيء يعدل الإيمان
من أخطر ما يمكن أن يواجه حياة الإنسان النفسية ويربك استقراره وطمأنينته أن يفقد إيمانه بالله، لأن الإيمان بالله هو ما يمنح هذه الحياة معنى وهدفا، ودونه يتمزق القلب وتتوه الروح وتغرق النفس في بحار العبثية والعدمية!

من يفقد إيمانه بالله يفقد الجوهر الأساسي الذي يشعره بقيمته وهدفه في الحياة، وهذا أمر مؤلم يمزق القلب ويربك الروح، لذا ليتنا نرفق بمن وصل بهم الحال لهذا الأمر ولا نزيدهم ألما على ألمهم وعذابا إلى عذابهم، وبدلا من أن نعين الشيطان عليهم ونخرس أسئلتهم ونتهمهم بالكفر ومرض القلب، بدلا من هذا كله يجب أن نحتضنهم، ونحاورهم، ونرفق بهم، فإن كثيرا منهم هم من أهل الصدق والنبل وحسن الخلق، وربما كان كثير منهم يتمسك بالأخلاق التي جاء بها الدين أفضل مما يتمسك بها المؤمنون.

ختاما، ما ذكرته في هذه المقالة من أسباب هي اجتهاد شخصي كان نتيجة بحث وسؤال واطلاع وتأمل وإلا فالموضوع أكبر تعقيدا، وقد طرحت هذا الموضوع؛ لأني وجدت كثيرًا من الفضلاء يتساءل عن أسبابه، ولأني أرى أن هناك تحديات كثيرة ستواجه الخطاب الديني في المستقبل، والفكر الديني بشكله الحالي غير قادر على التعاطي معها، وإن لم يهتم المتخصصون ببناء منطق إيماني جديد ومتماسك فإن النتيجة لن تكون مرضية، وستسوء كثيرين من المصلحين.

أسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شر أنفسنا وأن يهدينا إلى الحق وإلى صراطه المستقيم، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم أسبغ على قلوبنا برد اليقين، وطمأنينة الإيمان، وحلاوة مناجاتك والقرب منك سبحانك.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق