مدن الملح

الكاتب:

24 أكتوبر, 2012 لاتوجد تعليقات

أهم عنصر للحياة هو الماء، وعند تأسيس المدن الكبيرة تاريخيا كانت دائما ما تبنى بالقرب من مصادر المياه، اما على ضفاف الانهار، او على شواطئ البحار. لا توجد في اي من دول الخليج مصادر مياه نهرية، ولذلك فقد تكونت اغلب المدن على ضفاف شواطئ الخليج.

اكتشاف النفط وتصديره غير المورد الاهم لبناء هذه المدن، فتحول اهم مقومات الحياة  من الماء الى النفط. تعتمد غالبية مدن الخليج بشكل شبه مطلق على تحلية مياه البحر كمصدرها الرئيس للمياه، وغني عن القول ان هذا المصدر يحتاج الى جرعات مكثفة من الطاقة لتحليتها، مما يجعلها مكلفة جدا، ولولا التكنولوجيا الحديثة وموارد الطاقة من نفط وغاز لما كان بالإمكان القيام بهذه العملية. بعض المدن، كالرياض، تقع مئات الكيلومترات من سواحل البحر ومن اي مصدر مياه رئيسي، وهذا يحتاج الى تغذية المدينة يوميا عبر نقل المياه المحلاة مئات الكيلومترات من سواحل الخليج الى قلب شبه الجزية العربية الصحراوي.

تاريخيا طالما كان الوضع المائي والبيئي والغذائي في دول مجلس التعاون هشا، فالبيئة في هذه المنطقة قاحلة وتفتقر الى مقومات الماء والزراعة، وهي بذلك غير مهيأة بطبيعتها لتوفير مقومات المعيشة الاساسية لكتلة ضخمة من البشر، ولذلك دائما ما كانت هذه المنطقة ذات كثافة سكانية ضئيلة نسبيا في عصر ما قبل النفط. وفي الماضي القريب كان الجفاف والقحط مخاطر تهدد الحياة بشكل دوري في اقطار شبه الجزيرة العربية، وكانت الكتل البشرية تضطر الى الترحال والنزوح فيما بين ضفاف الخليج و اقطار شبه الجزيرة العربية بشكل دوري (كما حصل مؤخرا في عشرينيات القرن الماضي).

قلما نفكر في هذه الأمور، لأن جيلنا تعود بأنه عندم يفتح الحنفية فالمياه ستتدفق، وعندما نضغط على زر صغير في الحائط سينبلج النور، وان احسينا بالجوع فنذهب الى اقرب دكان ونتبضع ما اردنا من انواع الفواكه والخضروات واللحوم المستوردة من كل بقاع العالم . وننسى ان وراء هذه الخطوات الصغيرة جهود جبارة ومكلفة لتزويد الطاقة واستيراد الغذاء ولتحلية مياه البحر وجعلها صالحة للاستهلاك. وننسى ايضا ان العنصر الأساسي الذي جعل كل هذا ممكنا هو النفط والغاز، فالطاقة الصادرة منهما هي التي مكنت تحلية المياه وانتاج الكهرباء،  وايراداته هي التي مكنتنا من استيراد المواد الغذائية التي نعيش عليها.

تكفي نظرة خاطفة على وضعية المياه في دول الخليج لنبين هشاشة الوضع المعيشي فيها. ارتفعت كمية استهلاك المياه منذ اكتشاف النفط بشكل جنوني، حيث تضاعفت عشرات المرات (في الكويت كمثال، زاد استهلاك المياه اكثر من 150 ضعفا في ثلاثين سنة حسب المصادر الرسمية). واصبحت  دول الخليج تسجل بشكل دوري اليوم اعلى معدلات استهلاك للمياه في العالم (يستهلك الشخص في الكويت حوالي 500 لتر يوميا، بينما في انجلترا، كمثال، يستهلك الشخص 150 لتر يوميا). تنتج غالبية هذه المياه (حوالي الثلثين) بواسطة محطات تحلية مياه البحر، وهي عملية صعبة ومكلفة ليست فقط في انتاجها بل ايضا في تخزينها. في الإمارات، وقد تكون اكثر دول الخليج تقدما في هذا المجال، يكفي المخزون الاستراتيجي للمياه لحوالي ثلاثين يوما، بينما في البحرين فالمخزون الاستراتيجي بالكاد يكفي يوما واحدا.

هذه الارقام في بيئة هي في الاساس صحراوية قاحلة وتفتقر الى مصادر المياه المتجددة كالأنهار تدعو الى الحيطة والتفكير الجدي في استراتيجية النمو الاقتصادي والسكاني المتصاعد في دول مجلس التعاون. فلو لا قدر الله وحصلت كارثة او حرب ادت الى ايقاف احدى محطات انتاج الطاقة او تحلية المياه فمن الصعب تخيل تبعاتها. عاشت البحرين ما يسمى ب”الاثنين الاسود” في اغسطس 2004، حين انقطعت الكهرباء لمدة يوما واحدا في عز الصيف. أدى هذ اليوم الى شبه كارثة في البحرين، فأخذت الناس تدور في سياراتها وتهرع الى اقرب “سوبرماركت” لديه مولد طاقة خاص، حتى يتسنى للناس الوقوف امام ثلاجات الأكل والتبرد. وقد يكون الأخطر من هذا كله ان انقطاع الكهرباء ادى الى توقف انتاج المياه المحلاة التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة، مما ادى الى استهلاك المخزون الاستراتيجي للمياه بشكل شبه كامل في غضون يوم!

كل هذا يجعلنا نتساءل: بما ان بيئة البنية التحتية للحياة من مياه وغذاء وكهرباء تقف على كف عفريت في دول الخليج، وتعتمد بشكل كبير اما على الطاقة او الايرادات النفطية الناضبة، فماذا تواصل دولها في بناء مدن ضخمة جديدة، واستقطاب سكان جدد لسكن هذه المدن، مما يقود الى زيادة مطردة في متطلبات المياه والطاقة والغذاء؟ كل هذا في بيئة هي اصلا غير مهيأة بشكل ملائم لكل هذه الأمور، وتعتمد بشكل رئيسي على مورد ناضب لتمويلها؟

عندما سُئل عبدالرحمن منيف عن سبب تسمية روايته الشهيرة بمدن الملح قال:

“قصدت بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد. الشيء ذاته ينطبق على الملح. فبالرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات، إلا أن أي زيادة في كميته، أي عندما تزيد الملوحة، سواء في الأرض أو في المياه تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار. هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدناً استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي الذي لا يتلاءم وكأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى. وكما قلت مراراً، عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر سوف نكتشف أنّ هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال وليست مكاناً طبيعياً لقيام حاضرات أو حواضن حديثة تستطيع أن تستوعب البشر وأن تغير طبيعة الحياة نحو الأفضل.”

التحدي الجوهري لمدن الخليج هو هل بإمكانها ان تتفادى السيناريو المتوقع، سيناريو “مدن الملح”؟

ينشر في “المقال” بالتزامن مع صحف أخرى

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق