لمَ لا نزال مؤمنين بالربيع العربي؟

الكاتب:

13 يونيو, 2014 2 تعليقان

في العاشر من يناير، 2011، بعد أن أعلن بن علي – قبل الإطاحة به – عن دفعة أولى من الإصلاحات, كتبتُ على تويتر: “سيلجم غضب الشارع التونسي. هذه هي المشكلة عندما تكون حركة الشارع مدفوعة بلقمة العيش. يسهل على المستبد احتواؤها بوعود الرفاه، خاصة إذا ترافق هذه مع قبضة حديدية للسلطة. عكس مطالب التغيير و الحراك السياسي و الحقوق الدستورية”.

في الرابع عشر من يناير، كان شارع الحبيب بورقيبة قد  هذّب هذه الجرأة الوقحة على التنبؤ، و استنقاص المواطن العربي، الذي كنتُ مؤمنة بحقوقه كما هو واضح، بلى؛ لكنني أجهله، و أموّه الجهل باليأس. كنت يومها، أستعد لآخر امتحاناتٍ نهائية أؤديها في قسم الدراسات الاجتماعية، و بالكاد استطعتُ إبقاء عينيّ على الكتاب الذي يناقش قضايا التنمية المعاصرة ببرودٍ نظري. أُعلِنَت مغادرة بن علي تونس مساءاً، و بذهول تابعت طائرته طوال الليل و هي تبحث عن ملاذ. نمت و قد حطت الطائرة في السعودية، و استيقظت فجراً على شريط المحامي التونسي عبدالناصر العويني الذي خرج في مظاهرة تاريخية من رجلٍ واحد، ليُخبر الناس، شخصياً، أن “بن علي هرب”. يمكنني أن أنسى كل الدموع التي ذرفتها في حياتي، فكلّ الأسباب تُنسى أو تتكرر؛ لكنني لن أنسى الدموع التي ذرفتها لأنني رأيت الأفكار التي عذّبتني بالانحياز لها، ثم الشك فيها أو في جدوى انحيازي لها؛ رأيتها تنتصر. و دخلتُ في أطول موجة أرق عرفتها قط، و لأوّل مرّة في حياتي بسبب الأمل، لا القلق، و لا الخوف.

هل جرّبت في حياتك أن يؤرقكَ فرط الأمل؟

 كان هبوب الربيع العربي أكبر موجة أملٍ اجتماعيّ منذ أربعين عاماً على الأقل. تعلقت بأستاره كل الآمال العريضة و العميقة و الساذجة و المتعارضة، لكن فيما وراء الأمل بصفته العمومية، كان هناك اختلافٌ بين من وضع أمله على ما سيُفضي إليه الربيع العربي، و من رأى أن حدوث الربيع هو الأمل. منذ أيّامهِ الأولى، أخذت النظرة إلى الربيع العربي هاتان الطريقتان المتمايزتان: النظر إليه من خلال النتيجة و المآل، أو من خلال المعنى و القيمة. أن تعتقد أن الربيع العربي عملية محكومة بالجدوى و الفاعلية، أو أن تعتقد أنهُ حدث ذو جوهر. و الفرق بين الطريقتين يتجلى اليوم بعد ثلاث سنوات من الهبّة العظيمة و ارتداداتها التي لم تُستكمل بعد: هناكَ من ظلّ يتطلّع إلى نتيجة كوصول الثوار إلى السلطة و كتابتهم الدستور، و هو اليوم منكفئ على شؤونه الشخصية و يشعر أن حماسته عام 2011م كانت رعونة مخجلة يحاول أن يتخفف من خزيها بالسخرية من ذاته، كما يتعامل مدمنو الرهانات مع خسائرهم، فالهبّة كانت بالنسبة له حالة مقامرة لا تنطوي على معنى في ذاتها، و قيمتها مناطة بما تُنتجه. لكن بالنسبة لآخرين، كان المعنى موجوداً و القيمة مُشبعة ابتداءاً في لحظة ميدان التحرير و اللحظات الموازية لها عربياً، بالنسبة لهؤلاء، و لي، لا يفقد الربيع العربي قيمته و لا يتحوّل معناه، و لهذا لا نزال نؤمن به.

لا زلنا نؤمن بالربيع العربي، لأننا ننظر إليه متصلاً بما سبقه، أكثر من صلته بما تلاه (مع الأسى لذلك). إذ لم تتدخل “أيادٍ خفيّة” و “أصابع خارجية” في صناعة الربيع العربي؛ بقدر ما تدخلت أيادٍ و أصابع و أموال و عسكر و طاقات سياسية غير مسبوقة استماتت من أجل صناعة ما بعد الربيع العربي، لأن القضية كانت بالنسبة لها قضية حياة أو موت لنظامها السياسي. أرى ميدان التحرير متّصلاً منطقياً بعهد مُبارك، أكثر من صلته بعهد السيسي. و جُمع الشام ذات صلة منطقية بدولة الأسد، أكثر من صلتها بداعش. و أرى أن ما بعد الربيع العربي بانتخاباته المزيفة و إعادة إنتاج ظاهرة الإرهاب، وثيق الصلة بمناهضي الربيع، لا بالربيع ذاته. و على هذا الأساس، لا زلتُ أرى الربيع العربي كأرقى نموذج أخلاقي و قيمي عبّرت عنه المجتمعات العربية ضد الانحطاط المزمن، و لا أرى أيّ منطق على الإطلاق في لوم المجتمعات العربية لأن قيمها و أحلامها أفضل من الأنظمة السياسية المنحطّة التي تحكمها، و لا أقبل هذا خصوصاً من المتفرغين لتملّق و تلميع تلك الأنظمة السياسية.

 و لا زلنا نؤمن بالربيع العربي، لأنه كان نقطة تحوّل – لا تزال صامدة – في التصوّرات و المعارف، و في الـمُخيّلة السياسية. فما كُنا نتصوره أو نظن أننا نعرفه عن المجتمعات العربية، صُدِمَ و صُوّبَ من خلال الربيع. فهذه المجتمعات قد احتَقَرَتها السلطة و النخب السياسية، و فُرضت عليها صورة مضطربة عن ذاتها الاجتماعية عبر الأذرع الإعلامية التي اجتهدت في خَلقِها و تغذيتها: دراويش، غوغاء، إرهابيون، متعصبون. و كان من السهل نعت هذه الكُتلة الهائلة الـمُصمتة قسراً، المحتجزة في الظلام بالقوّة، بأيّ شيء يجعل قمعها مقبولاً. و ابتلعت الأنظمة السياسية العربية، الدولةَ و المجتمعَ و المؤسسات الأهلية و الخطاب الحقوقي و مؤشرات التنمية و الفضاء العام؛ ثم تقيأتهُ عالماً مزيفاً بالكامل على قياس أغراضها. كان الربيع العربي “لحظة الحقيقة” التي اختبرت و دحضت الكثير من التصورات التي تحتبسُ المجتمع، فظهر أن العنف ليس هو الخيار الطبيعي و لا الأول للمجتمعات العربية، و اتّضح الحجم الحقيقي بلا مبالغات لوزن الأحزاب الإسلامية في الشارع، و اتّضح أيضاً أن المجتمعات العربية ليست مجتمعات من الدراويش و البهاليل و أنها سترفض و تُسقط الأحزاب الإسلامية إذا فشلت عملياً، و خرجت المعارضة السياسية إلى ضوء الممارسة فانكشفت عللها و أمراضها و ذابت كثيرٌ من أساطيرها. و بصفة عامّة، قدّمت التظاهرات و الاحتجاجات الأولى للربيع العربي نموذجاً مرجعياً غير مسبوق، لشكل الاحتجاجات الاجتماعية الطبيعية، يجعل تمييز تلك المصطنعة أمنياً بواسطة السلطة أو الشاذة اجتماعياً؛ أمراً أسهل من ذي قبل.  كان الربيع العربي لحظة حقيقة امتلك فيها المجتمعات العربية صوتها و كشفت عن وجهها، لأول مرة منذ أربعة عقود أو أكثر.

و رغم الـمَقتَلة في سوريا و التّسلّح في ليبيا، لا زالت لحظات الاحتجاج السلمي المدني في جميع دول الربيع؛ مُلهمة للخيال السياسي عند المشتغلين بالشأن العام. ونمو الخيال السياسي يمكنه أن يمثل تطوراً عربياً عظيماً على الأخص في بيئة كالبيئة السعودية، الحقل السياسي فيها مُفرغ و مُجرّفٌ بعنف. فالميادين العربية الممتلئة التي كانت أقرب إلى أدبيات “الخيال العلمي” عام 2010م، هي اليوم احتمالٌ واقعيّ يُمكن التطلع إليه. و حركات الاحتجاج التي كانت تبدو نضالاً بلا أمل، أقصى غاياته “الرّمز”، مثل عملٍ فنّي؛ صارت تبدو كأنوية و مقدّماتٍ لحركة اجتماعية أوسع طالما أنها موجودة في مجتمعات تختزن هذه الطاقة الحركية الكامنة، و تأثيرها اليوم أوسع بكثير و لا يُقارن بما كان عليه في 2010م. مرّ زمنٌ لم تكن جمعية “حسم” تبدو لي إلا كشطحة نبيلة، و سمعت و قرأت سخرية من بيانات الجمعية و مطالبها، و أسئلة ضجرة عن جدواها. من بين مشاهد الربيع العربي الكثيرة كان أكثر مشهد هزّتني رمزيته هو مشهد انتزاع صور الرؤوساء و منحوتاتهم من الشوارع العربية. نفس الصور التي مررنا تحتها باستسلام و إطراق! نفس التماثيل التي بدت قائمة أبدياً على الشارع العربي كزبانية تحرس جحيماً. هل تصدّق أنني لم أتخيل يوماً هذا المشهد؟

 و لا زلت أؤمن بالربيع العربي، بقدر ما غيّرنا كأفراد في العُمق. كانت لحظة الاستقطاب الفريدة من نوعها ضد أو مع الربيع و حمولته في بداياته فارقة، و وضعتنا أمام أسئلة أخلاقية عالية ما كانت الحياة الاعتيادية لتعرّضنا لها بهذه الحدّة و الوضوح. لا أذكر أن حدثاً عربياً أثر بهذا القدر  في الحياة الشخصية لمن من أعرف عن قُرب أو أتابعُ عن بُعد. هناك وظائف تُركت و اهتمامات و نشاطات تغيرت و صداقات انتهت أو بدأت. هناك مساراتٍ دراسيّة أجّلت أو تغيرت موضوعاتها. قضيتُ سنوات العشرين و الثلاثين من عمري أكتب و أتلقى في حياتي الاجتماعية هذا السؤال العبقري: “ما شانكِ أنتِ بهذه القضايا؟!”. و طوّرت انحيازاتٍ و مواقف معيّنة كان التمسك بها و التعبير عنها مُتعباً، فالواقع العربي لا يُقدّم ما يكفي من الشواهد الداعمة لهذه المواقف، و البيئة الإعلامية لا تحبّذها و لا تمررها بسهولة. في يوليو 2010م كتبتُ مقالة في صحيفة (الوطن) حول نشاط صفحة “كلنا خالد سعيد” – التي بعد ذلك بستة أشهر كانت هي من حدد يوم 25 يناير 2011 للتظاهر – و أذكر أنني عند نشر المقال، كنت أنظر إلى الصحيفة و أفكّر: كم شخصاً سيعتقد أنني مخبولة و هو يقرأ هذا المقال؟

أنا اليوم أكثر ارتياحاً بكثير في هويّتي الفكرية، و أشدّ عزماً على تمثّلها، بل و أعلى معاييراً في ذلك أيضاً. لم يحدث هذا بسبب القراءة و لا الاشتغال الفكري النظري، و ما كان ليحدث بسببهما. فقط حدث من نوع و وزن الربيع العربي كان قادراً على تحقيق هذه الانعطافة النفسية لكثيرين أنا مجرّد واحدة منهم. الربيع العربي نقطة تحوّل نفسية-اجتماعية كما هي سياسية، لا يمكن الرجوع إلى ما قبلها، و أزعم أن خوف الأنظمة السياسية في السعودية و الخليج من مثل هذا التحول، كان يعادل خوفها من فقدان الأنظمة الحليفة, و حاربته و أرادت هزيمته بنفس القوة.

 و اليوم، بعد اكتمال صعود السيسي، نمرّ بموسمٍ عامٍ لهجاء “البعير العربي” و “غُمّة الربيع” و “ما سُمّي بالربيع العربي”. نقرأ الكلمات الشامتة و نرى الابتسامات اللئيمة، على وجوه أشخاصٍ لا يدركون أن هذا الربيع فرض عليهم أنفسهم خطاباً سياسياً جديداً، يُمجّدون فيه مظاهرات 30 يونيو و يموتون عشقاً في حشود الجماهير و إرادة الشعب. و هؤلاء أيضاً هم اليوم من يلحّ على التساؤل حول جدوى الربيع العربي، لأنهم يريدون للناس أن ينسوا معنى و قِيَم الربيع العربي. و يتصرّفون كأنهم نجحوا في إعادة التاريخ إلى ديسمبر 2010م، رغم أنهم يتعاملون يومياً مع واقع جديد أنتجه الربيع العربي. و يذكّروننا ساخرين بأحلامنا و آمالنا التي تحطمت، رغم أننا لا نحتاج لمن يذكّرنا بضخامة الأمل الذي حملناه و كيف خاب، فهي آمالنا نحن و نحن نعرفها أكثر من الجميع، لكنهم لا يعرفون كيف أن الأمل الذي فاجأنا بغتة و بلا توقّع، قد فتح أعيينا على قيمٍ و معانٍ كثيرة نتمسك بتمثلها حتى لو غاب عنّا الأمل.

الربيع العربي هو أجمل حدثٍ سياسي عربي معاصر. و ما عساه يكون أجمل منه أو يقترب من جمالياته؟ أحداث الانتخابات المزورة؟ أم الاستفتاء على بقاء الرؤوساء الأبديين؟ أم التوريث و  احتكار السلطة بين الأفراد؟

الربيع العربي هو أجمل و أعظم حدثٍ سياسي عاشة جيلنا بكل جوارحه.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

2 تعليقان إلى “لمَ لا نزال مؤمنين بالربيع العربي؟”