اعتصام المشايخ عند الديوان: محاولة لقراءة المُضمَر من تويتر

الكاتب:

17 يناير, 2013 لاتوجد تعليقات

في السعودية، العالم الافتراضي حقيقي أكثر من العالم الحقيقي. كل القُوى التي لا تُعطيها السلطات الأمنية في السعودية المساحة الكافية للتحرُّك والتعبير عن نفسها، تجد نفسها في تويتر. فمن خلال تويتر، يومًا بعد يوم، يتعرّف المجتمع السعودي على نفسه وأطيافه أكثر فأكثر. تختلف حول الحدث الواحد ردود الأفعال وتنشأ الاصطفافات في المواقف. تُختبَر الاتجاهات الفكريّة المتنوعة وتبرُز أولويّات مبادئها ورؤاها. كل توجُّه فكري فيما هو رؤية وتحليل وأهداف، يبدأ في التمايُز عن التوجه الآخر، وعبر الأحداث تتمايز حتى التوجّهات المتقاربة التي ربما كانت تظن أنها متجانسة معاً.

 بداية الهاشتاق:

كان في البداية #زيارة_المشايخ_للديوان مبتدئًا بتغريدة برق نيوز مُلحقة بتغريدات أخرى فيها بعض أسماء الحاضرين من (المشايخ والعلماء) ومن المطالب: “حل ملف المعتقلين، التجاوزات المخالفة للشرع ونظام البلد”. حصلت متابعة بسيطة على تويتر. ولم تحصُل أي استجابة للمشايخ ولم يُقابلوا أي مسؤول، فبعدها بأربع ساعات تحول الهاشتاق من مجرد خبر الزيارة إلى #اعتصام_المشايخ_عند_الديوان مبتدئاً بتغريدة أخرى أيضاً لبرق نيوز هي أول تغريدة في الهاشتاق، والتي فتحت باب التفاعل وأتت بعدها بدقائق تغريدة الشيخ يوسف الأحمد الموضّحة أكثر للمطالب، وبعدها ظهر الفيديو المعروف.

لماذا هذا الحدث بالذات أثار كل ما أثاره من ردة فعل؟ ربما كان الجواب في الكلمات الثلاث في عنوان الهاشتاق:

فهو أولاً: (اعتصام) وهو -من حيث المبدأ والأصل- حق من حقوق حرية التعبير وسلوك سلمي مدني حضاري. وكونه مفقود ممارسةً في السعودية يُعطي أغلب أحداث الاعتصامات وهجًا إعلاميًّا ما -ولو اقتصر على حدود تويتر، فالإعلام الرسمي لا يلتفت كثيرًا للتوجّهات المخالفة للدولة-.

وثانيا: لأنه من هذه الحركة الإسلامية -المعبّر عنها اصطلاحا وفي الهاشتاق بـ(المشايخ)، وأغلب الرموز التي ظهرت منها مرتبطة بالحركة السرورية- والتي لها مطالب محدّدة ومواقف مُسبقة وتنبيهات وتحذيرات سبَق أن أعلنَت كثيرًا عنها.

وثالثاً: لأن طرَف المواجهة الآن هو (الديوان الملكي)، وليس (وزارة الداخلية)، الشيء الذي يجر وراءه ماضيا طويلا من توجُّس المشايخ (الحركات الإسلامية بمختلف تياراتها) من خالد التويجري رئيس الديوان الملكي بادّعاء أنه (قائد التغريب) في السعودية.

ورابعا: يُضاف لهذا كلّه أن هذا الحدَث حصل سريعاً (الثلاثاء 15/1/2013) بعد أربعة أيّام من إعلان الأوامر الملكية (الجمعة 11/1/2013) الخاصة بتعديل مواد نظام مجلس الشورى والمتضمّنة إشراك30 سيّدة فيه.

المشايخ ومحاولة لإعلان الاستنفار:

– كتبت الداعية السلفية الشهيرة الدكتورة نوال العيد عدّة تغريدات، حظيَ بعضها بريتويت الشيخ يوسف الأحمد، بنفس الوقت الذي كان ينشط فيه هاشتاق الاعتصام، استهدفت التغريدات بالهجوم (أدعياء الليبرالية) وأن مطالبهم الحقوقية للمرأة متعلقة بالكاشيرات وفصل الحواجز، وأنهم غير وطنيّين تحرّكهم أجندة خارجية، وقامت في تغريدة من التغريدات باستحضار حدَث (بهو الماريوت) باعتباره دليلاً على “انحلال أدعياء الليبرالية”.

استحضار د. نوال لحادثة (بهو الماريوت) لا يشير إلى ما أرادت الاستدلال عليه فقط، بقدر ما يشير إلى استحضار المعركة القديمة الجديدة: الليبرالية/ الإسلامية؛ التي تضمّنها حدَث الماريوت، ومطالب المشايخ (=الإسلاميّين) المتعلّقة بإعادة (البلد إلى النهج الذي كانت عليه) والرافضة لقرارات المشاركة النسائيّة في الشورى، وقبلها مشكلة وزارة العمل والسماح للمرأة بالعمل في المحلاّت النسائية، وقبل هذا كله مشاكلهم التي لا تُحصى مع وزارة الثقافة والإعلام شاملة توجيه كتّاب الرأي لاحترامهم وكفّ السخرية عنهم، والاستجابة لمطالبهم في تنقية دُوَر معرض الكتاب مما يسمونه “دور نشر إلحادية وتغريبية”، وتشديد الرقابة على الأندية والأنشطة الثقاقية، والقنوات الإعلامية.

شمِلَت تغريدة الشيخ يوسف الأحمد بخصوص مطالب الاعتصام (قنوات الفساد، الشورى، التغريب). والمتتبّع لسياقات حديث الشيخ -وغيره- عن مفردات (الفساد، التغريب) سيجد أنها مطالب تدور حول قضايا المرأة والانفتاح الثقافي، وهذا -بالإضافة إلى اختيار المشايخ للتوقيت- ما حدا بأكثر المنتقدين إلى اعتقاد أن الحدث كلّه بسبب إشراك المرأة في مجلس الشورى لا علاقة حقيقية له بباقي القضايا التي قد يُسانَد المشايخ فيها.

– أيضا في وقت نشاط الهاشتاق، يوجه رسالة قوية الشيخ ناصر العمر عبر ثلاث تغريدات مخاطباً الدولة ومتّبعاً فيها هذا التسلسل:

1- التذكير بأحداث الربيع العربي والتحذير من امتدادها إلينا.

2- التذكير بعهد الإمامَين محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود.

3- التنصيص على ابتعاد الدولة عن الشريعة “أو لنقل: ابتعاد الدولة عن مطالبات المشايخ باسم الشريعة”.

4- تحذير الحاكم من التجاهل أو العنف، وتوصيته بالاستجابة.

استخدَم الشيخ ناصر العمر نفس هذا التسلسُل ونفس هذه اللهجة في التحذير والرغبة في إخضاع الدولة لمتطلباتهم، في درسه بالمسجد أثناء إشعاله لقضية حمزة كاشغري، تماماً قبل سنة من مثل هذه الأيام. يبدو الخطاب في صرامته كأشدّ ما يمكن أن يقوله الشيخ ليُلفت نظر السياسي بجدّية إلى مطالبهم. لا يبقى له بعد ذلك، إذا لم يُستجَب له، وأصرّ على موقفه، إلا نشاطاً حركياً يحرّك فيه الحشود. وفي مجتمع مثل المجتمع السعودي، يحظى رجل الدين بقوّة وتمكين على التحكُّم بالحشود يُخيف ويُقلق السياسي طوال الوقت. التذكير بأحداث الربيع العربي “وتنحية الشريعة وظلم الشعوب” مقصودٌ منه، بحسب تعبير الشيخ، “أن يعتبر” السياسي في السعودية. والتذكير بعهد الإمامين وتحالفهما، باعتبار الشيخ ومطالبه كخلفاء لدعوة أحد الإمامين وهو الشيخ محمد بن عبدالوهاب، في مقابل الإمام الآخر محمد بن سعود، شيئا يضيفه الشيخ ليزيد من قلق السياسي والضغط عليه للاستجابة للمطالب.

– من جهة أخرى، كتب الشيخ عبدالعزيز الطريفي تغريدة ملمّحا فيها للكثير: ( من الحكمة الشدة مع دولة كانت قريبة من الحق ثم بدأت تبتعد واللين مع دولة كانت بعيدة عن الحق ثم بدأت تقترب ولوكانت الأولى أقرب للحق من الثانية).

المعادلة عند الشيخ الطريفي يمكن صياغتها بهذا الشكل: السعودية دولة قامت على حلف والتزام بالدعوة السلفية، أي ابتعاد لها عن هذا النهج، من الحكمة أن تُخاطَب بشدّة لتوجيهها للعودة إليه. مصر دولة حكَمها مُبارك طويلاً وسجن واضهد فيها الإسلاميّين ونحّى الشريعة والتزم بـ”قوانين وضعيّة”، وعادت الآن إلى حكم الإسلاميين، فمن الحكمة استخدام الخطاب اللين لتوجيهها، إشارةً إلى زيارة العريفي وما أبداه من حث على التسامح والتعايش والبحث عن الاستقرار وغضّ الطرف عن الاختلافات.

مشكلات الحرية والحقوق في ردود الفعل:

كل ردة فعل في حدث كهذا مبنية على رُؤى وتصورات وبُنى فكرية توجّهها–خفيّة كانت أو ظاهرة، كل حكم على الحدث هو نتيجة فهم ما للحقوق وللحريات-. استقراء ردود الفعل سيُخرِج بتصوّر واضح عن العوامل المؤثّرة على الفكر في المجتمع السعودي.

عناصر الحدث الثلاث هي: (الاعتصام السلمي)؛ الذي هو بحد ذاته، حق إنساني يُشمل تحت حرية التعبير، لا يجرؤ أحدٌ على انتقادِه بحد ذاته. و (المطالب) التي بسببها كان الاعتصام؛ والتي كان الأساسُ فيها الاعتراض على قرار مشاركة المرأة بالشورى ولكنها خُلِطَت بقضايا الاعتقال والفقر لتُعطى شرعية أكثر قبولاً. و (المشايخ الذين قاموا بالاعتصام) وأشرفوا عليه ونقلوا أخباره وشجّعوه. أغلب الآراء المتفاعلة في الهاشتاق تشكّلت حول (المطالب) نفسها، وكون (المشايخ) هم من خلفَ هذا الحدث.

اتجهت بعض الآراء إلى انتقاد (المطالب) بوصفها “تخلفية ورجعية”، وإلى انتقاد (المشايخ) بوصفهم “عنصريين ومتطرفين يمثّلون نفسهم لا المجتمع يبحثون عن سيادة اجتماعية”، كانت المشكلة عندما مالَت بعض هذه الآراء من انتقاد المطالب إلى التأييد الصريح لقمع الدولة لهم، لأنه، وبحسب تعبير صاحب أحد هذه الآراء “لا بد أن يكون الرأي متوافقا مع القيم الحقوقية العليا والتي منها مناهضة العنصرية، فأي شخص يريد اختراقها؛ لا حرية له”. ووُصِفَت (مطالب) المشايخ بالعنصرية من باب أنها مطالب رافضة لدخول المرأة لمجلس الشورى. فالحدث الذي حصل فيما هو (اعتصام) يستندِ على مكوّن من مكونات الحرية، وفيما هو (اعتراض على مشاركة المرأة بمجلس الشورى) فهو يستنِد على الرغبة في تقييد وتضييق مكوّنات هذه الحرية. ومن هنا كانت المشكلة.

الشعار المعروف: (لا حرية لأعداء الحرية) مقولة تُنسب لفولتير، وحين تُستخدَم في سياق رفض هذا الاعتصام السلمي المشروع للمشايخ، بسبب ما تتضمّنه مطالباتهم، يوهم بأن رأس هرم مشكلة الحرية في السعودية هو هؤلاء المشايخ. هذا التوظيف لمقولة فولتير يُضمِر إحباطاً ويأساً وهروباً من المشكلة الحقيقية: عدم وجود نظام دستوري يحمي الحريات للجميع ويكفلها. فمشكلة الحرية، في البداية، أنها غير موجودة أساساً. ليست مشكلة الحرية، إساءة استخدام (المشايخ) لها، أو تضمُّن خطابهم لما يجعلها تتوافق معهم وحدهم. أولوية من يحمل “همّ الحرية” إيجاد نظام يحمي الحرية ويمارسها على أرض الواقع، ثم بعد ذلك سيهتم بما يجب فعله تجاه “أعداءها”. الحرية تحمي نفسها، ومعنى هذا أن النظام الدستوري الذي يكفل الحقوق والحريات هو القادر على حمايتها من “أعدائها”. لا يملك أحد سُلطة تحديد مفهوم “أعداء الحرية”. ثم هو مفهوم قابل للتحوّل -كما حدث بعد الثورة الفرنسية- إلى شمّاعة لإقصاء كل معارضة، فما يبدأ بـ”لا حرية لأعداء الحرية” يتحول إلى “لا حرية لأعداء حماة الحرية”. مثله مثل شمّاعة: معاداة الشيوعية في الدول الاشتراكية، معاداة السامية،..إلخ.

أثار الموقف المُسانِد لقمع المشايخ وعدم الاستجابة لمطالبهم، عديدًا من المغردين المتطلّعين لمفاهيم المجتمع المدني لإعادة الكتابة حول مفاهيم الحرية؛ كونه، هذا الموقف، يخالف مفهوم حماية الحريات للجميع دون تمييز ولو كان خصماً ويتبنى مطالب لا يُوافَق عليها.

ومن نفس هذا المنطلق (حماية حرية المختلف)، صادف هذا المفهوم –في نفس اليوم- حضورًا آخر على هاشتاقين: الأول: هاشتاق #الحرية_للحمد للمطالبة بالإفراج عن الدكتور تركي الحمد، المعتقل من 24 ديسمبر الماضي، بلا أي أسباب أو مبررات معلنة. والآخر: هاشتاق #إلغاء_محاضرة_العودة الذي أُعلِن فيه خبر إلغاء محاضرة للدكتور سلمان العودة في محايل عسير، دون مبررات معلنة. وكانت التغريدات التي تحملُ هذا المفهوم تستحضرُ القصة الشعبية (أُكِلتُ يومَ أُكِلَ الثورُ الأبيض) للتحذير من عدم الفرح أبداً من انتهاك حرية أحد ولو كان خصماً مختلفاً. قالت إحدى المغرّدات: (الدولة التي منعت العودة من محاضرة، هي نفس التي اعتقلت تركي الحمد من أجل تغريدة. أي تبرير لحماقاتها، ربما يحولك أحد ضحاياها، فهي تتخبط دون بوصلة!).

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق