الطريق إلى ساحة التغيير (1-6)
في زيارةٍ أولى إلى صنعاء .. أقتفي آثار قومٍ ثائرين

الكاتب:

25 سبتمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

عند الساعة السادسة مساءً.. ووسط ضجري من إتمامِ أعمالٍ مُملة.. نفضتُ يدي من بين أكوام الأوراق.. ودخلت إلى أحد المواقع الإخبارية لأقرأ آخر المُستجدات.. وإذ بأخبار الثورة اليمنيّة تتصدر صفحة الموقع.. لحظتها فقط لا أدري كيف مرّ بخاطري طيف الصديق اليمني شوقي القاضي (هو إمام وخطيب، ونائب في البرلمان، ومن قيادات التجمع اليمني للإصلاح “الإخوان المسلمين”، وأحد أبرز قادة ثورة ساحة الحرية بمدينة تعز).

قمتُ من مكتبي.. ووقفت أمام النافذة المُطلة على طريق الملك عبدالله في الرياض.. فتشتُ في جوالي عن هاتف شوقي.. واتصلت عليه.. وإذ بدل رنة جواله أسمع صوتاً يمنياً جميلاً يشدو بقصيدة أبي القاسم الشابي (إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. فلا بُد أن يستجيب القدر).. تمنيتُ ألا يرد سريعاً كي أستمتع بسماع أكبر قدر من القصيدة.. وهذا ما فعله.. وبعد السلام الحار وسؤاله عن أخبار ما يحدث في اليمن.. قال لي بصوتٍ مُلتهب وسط ضجيج الهتافات التي تتردد من حوله: (لا تكتفي يا نواف بأشواق الحرية _ ولشوقي مع كتابي “أشواق الحرية” قصة سأذكرها لاحقاً _ يجب أن تأتي لتعيش الحرية بنفسك.. تعال يا نواف وصدقني لن تندم.. الشباب هنا يصنعون مستقبل اليمن، ويعيشون أجواءً من الحريةِ والحماس لن تتكرر).

لا أدري لحظتها كيف سرى تيارٌ كهربائيٌ من ساحات الثورة في اليمن إلى عروقي.. بدأت أشعر أن ما أفعله هنا مضيعة للوقت.. في حين أن التاريخ يُصنع في مكان آخر.. وكنتُ أعرف يقيناً أنني سأندم كثيراً على تفويت هكذا فرصة.. لذلك.. لم أختم مكالمتي مع شوقي إلا وقد قلتُ له: (سآتيكم بحول الله يا صديقي.. أيام فقط وأكون عندكم).

وبعد أيام.. وفي يوم الاثنين تحديداً.. اتصلت على شوقي، وقلتُ له: في الساعة الثامنة من صباح الخميس (14 يوليو / 13 شعبان) سأكون بحول الله على متن الرحلة القادمة من القاهرة إلى صنعاء.. أجابني بترحيب: خيراً فعلت.. وسنكون بانتظارك.

وفي ليلة الخميس الموعود.. وتحديداً في الساعة العاشرة والنصف من مساء الأربعاء.. كنتُ في مقهىً قاهري مع بعض الأصدقاء.. وإذ برسالة جوال تصلني من شوقي: (اشتعلت المعركة، وبدأ القصف في صنعاء بين الحرس الجمهوري التابع للرئيس وقوات صادق الأحمر.. الأفضل أن تُلغي رحلتك).

كانت رسالته مُربكة.. فقد حزمتُ أمري على الذهاب.. وإن لم أذهب الآن فلا وقت آخر لدي لزيارة اليمن _ التي لم أزرها من قبل _ بسبب ارتباطات أخرى.. لم أُجب شوقي لحظتها.. وأخبرتُ أصدقائي بمضمون الرسالة.. وبعد ربع ساعة.. فتحتُ صفحتي بالفيس بوك من جهاز الآيفون.. وإذ برسالة من صديق يمني آخر كنتُ قد أخبرته بموعد قدومي، يقول فيها: (اليوم الأربعاء انتهت هدنة الشهر التي كانت مُبرمة بين الرئيس وعائلة الأحمر.. لذلك بدأ القصف المتبادل بين الطرفين.. والمُتوقع هو اشتداد القتال بينهما.. لذلك ليس هذا وقتاً مناسباً لزيارة صنعاء.. الأفضل أن تؤجل رحلتك أسبوعاً أو اثنين حتى تتضح الأمور وتهدأ المعارك).

اتصلت من فوري على شوقي وقلت له: (إذا لم أقدم الآن فلا أظنني أستطيع خلال شهرين).. ثم أضفتُ وأنا أضحك: (بصراحة أنا مُتهيئ تماماً للقدوم.. فلا تُثبّط عزيمتي).. وسألته عن المعارك إن تدور في كل صنعاء أم في مناطق محدودة.. فأجابني أن المعركة تدور حالياً بوسط صنعاء بين منطقتي الحَصَبة والحِدّة من جهة “حيث مواقع الأحمر”، وجبلي نُقُم والنهدين “حيث مواقع الرئاسة”.. ولكن المعارك قد تمتد إلى أي مكان آخر في العاصمة.. سألته: (وهل هناك معارك بجوار ساحة التغيير).. أجابني: (لا.. منطقة الساحة مازالت هادئة).. قلت له وكأنني وجدتُ المَخْرَج: (وهذا هو المُهم).. عندها اتفقنا على أن يكون بيننا اتصال أخير فجر اليوم قبل أن أتجه إلى المطار، كي يُخبرني كيف تبدو الأمور في صنعاء.. وبالفعل.. قُرابة الساعة الخامسة والنصف فجراً اتصلتُ على شوقي.. فقال لي: (المعارك هدأت الآن.. إذا كنتَ مُصِرّاً على القدوم.. فأهلاً بك).. حملت حقيبتي.. واتجهتُ إلى المطار.

*    *    *    *

تعرفتُ على شوقي القاضي قبل عامٍ في مؤتمرٍ جمعنا في القاهرة.. وكان لتعرّفي عليه قصة ظريفة.. فبعد مُدة من حضورنا لهذا المؤتمر قضينا خلالها عدداً من الجلسات، كنّا فيها أنا وشوقي وصديق يمني آخر هو جمال المليكي وعدد من الأصدقاء الآخرين نتحاور دوماً، ثم صرنا نجلس مع بعضنا في فترات الاستراحة بين الندوات الرسمية، نتحدث، ونضحك (شوقي يملك حسّاً فكاهياً ساخراً بشكل لا يوصف).. وبعد يومٍ ونِصف من المؤتمر، وكأنَّ شوقي انتبه فجأة لاسمي، فقال لي باندهاش: (أنت نواف القديمي صاحب كتاب أشواق الحرية؟!).. قلت له ضاحكاً: (يا رجُل صار لنا يوم ونصف مع بعضنا.. ما هذا السؤال المُتأخر؟!) ثم أضفت: (وما بالك تتحدث عن أشواق الحرية _ وهو كتيب صغير يقع في 128 صفحة ويتضمن تأصيلاً شرعياً للفكرة الديمقراطية _ وكأنه موسوعة قصة الحضارة؟!.. بصراحة أشعرتني بأنني إنسانٌ مُهم).. عندها التفت شوقي لصديقنا جمال وقال: يا جمال هذا مؤلف كتاب أشواق الحرية الذي اشتغلنا عليه.. جمال بدوره لم يكن قد ربط الاسم مع الكتاب _ رغم أنني التقيت به قبل هذا المؤتمر _ .. وعندها أخبرني شوقي بأنهم قاموا بعمل دورات تدريبية عديدة للأئمة والخطباء وبعض المتخصصين الشرعيين في اليمن على كتاب “أشواق الحرية” _ الذي صدر بطبعة يمنيّة إضافية من مركز المعرفة للتنمية الفكرية بصنعاء _.. وأن عدد الذين تدربوا عليه تجاوز الـ 450 شخصاً.. ثم أضاف بلكنة يمنيّة ساخرة: (يا رجُل كنا نظنّك شيخاً سلفياً متقدماً في العمر، وإذ بك صحفي شاب يلبس الجينز ويرتدي الـ تي شيرت).. قلت له ضاحكاً: (أستر عليّ الله يستر عليك.. ولا تُخبر أحداً بذلك).

*    *    *    *

في الساعة الثامنة من صباح الخميس 14 يوليو أقلعت طائرة الخطوط المصرية متجهة من القاهرة إلى صنعاء.. وبعد الإقلاع دُهشت من طول المُدة التي ستقضيها الرحلة.. ففيما كنت أظن أن المسافة لن تطول أكثر من ساعتين.. وإذ بها تمتد لثلاث ساعات ونصف!.. (مرة سافرت من القاهرة إلى موسكو وكانت مدة الرحلة أربع ساعات فقط.. فكيف تستغرق الرحلة من القاهرة إلى صنعاء ثلاث ساعاتٍ ونصف؟!).. وفي الساعة الثانية عشرة والنصف _ بعد احتساب ساعة إضافية كفارق للتوقيت بين مصر واليمن _ لاحت لي جبال صنعاء من وراء ضبابٍ خفيفٍ يشوب الرؤية من بعيد.

حكا لي صديق سعودي سافر إلى صنعاء قبل شهر من رحلتي هذه، أن رجال الأمن في مطار صنعاء _ الموالين للرئيس _ استوقفوه عند مدخل الجوازات.. وسألوه عن أسباب قدومه في هذا التوقيت، وعدد من الأسئلة الأخرى.. وذلك خشيةً من أن تكون له علاقة بالثورة وقياداتها.. وكنتُ قلِقاً من أن أمُرَّ بذات السؤال.. ولذلك حملتُ معي حقيبة صغيرة إضافية وضعتُ فيها عدداً من إصدارات دار النشر التي أديرها، وبعضاً من قوائم الكتب الصادرة من الدار.. وذلك حتى يكون مُبرر القدوم ـ في حال سألني الأمن ـ أنني أتيتُ بمهمة عمل لها علاقة بالنشر والتوزيع ولقاء بعض المؤلفين.

وبعد دخولي لصالة القدوم، بدا لي مطار صنعاء متواضعاً وقديماً.. ويفتقر إلى كثيرٍ من المرافق الخَدميّة.. وقفتُ في الصف الموصل إلى مدخل الجوازات.. ثم مررتُ بعد دقائق قليلة على ضابط الجوازات الذي ختم جوازي دون أن يسألني أحدٌ عن أسباب الزيارة.. فحمدت الله على ذلك.. وعند مكان نزول الحقائب، استلمت حقيبتي.. وخرجت من البوابة الرئيسيّة للمطار.

في الفناء الخارجي للمطار وجدتُ شاباً ثلاثينيّاً يحمل لوحةً صغيرةً مكتوبٌ عليها اسمي الأول.. ولكنه يحمل اللوحة بالمقلوب!.. فاتجهت له مباشرة وقلت له مبتسماً: (لماذا تحمل اسمي بالمقلوب؟!).. قال وقد بدا عليه الامتعاض: (أنت نواف؟!).. قلت له: (نعم).. قال لي: (ولكنني لم أقلب اسمك.. أنت فقط أتيت من الطائرة ورأسك مقلوب).. قلت له باندهاش: (أووف.. ألم ترَ اللوحة مقلوبة).. هنا أضاف بلكنة يمنية صميمة: (بعدين بصراحة أنا ما أعرف أقرأ ولا أكتب).. هنا زادت دهشتي وقلت له: (ليش طيب؟!.. مازلت صغيراً في السن وتستطيع أن تتعلم).. أثناء هذا الحوار كنّا نسير مُبتعدين عن مبنى المطار باتجاه مواقف السيارات.. وإذ بعد قليل بدأ مُرافقي بالابتسام.. وإذ بالصديق شوقي القاضي يظهر أمامنا فجأة.. وهنا بدآ بالضحك.. فسلّمتُ على شوقي وعرفتُ أنه أحد مقالبه.. وبعد السلام عرّفني بصاحب اللوحة.. وإذ به خريج كلية شرعية، وإمام وخطيب لأحد الجوامع.. واسمه هاني القحطاني.

ركبتُ السيارة بصحبة شوقي وهاني.. واتجهنا إلى وسط صنعاء.. إلى حيث ساحة التغيير.

*    *    *    *

لوحة إرحل في أحد مداخل الساحة

لوحة إرحل في أحد مداخل الساحة

التاريخ السياسي لليمن ..

_ منذ أن قدِم الإمام يحيى بن الحسين (هو يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب) من الحجاز إلى اليمن في عام (284هـ / 897م) من أجل الصلح بين القبائل المتنازعة.. ثم استقرّ في شمال اليمن (صعدة) وسمّى نفسه بـ (الهادي)، وحكم أجزاءً من اليمن.. وحتى عام (1382هـ / 1962م) _ أي قرابة الألف ومئتي عام _ حيث قامت ثورة سبتمبر المسلّحة على حُكم الإمامية.. خضعت اليمن في هذه المدة (وبفترات مُتفرِّقة، حيث يتسع حكمهم للمدن أحياناً، ويتراجع للأرياف أحياناً أخرى) لحكم الأئمة الزيديين.

_ وبعد أيامٍ من وفاة الإمام أحمد بن يحيى حميدالدين في 19 سبتمبر 1962م وتولي ابنه البدر مقاليد الحكم.. قامت ثورة سبتمبر في 26 / 9 / 1962م (أو ثورة السلّال كما يُسميها البعض).. حيث خضع اليمن بعدها لحكمٍ عسكري على يد أحد قواد الثورة (عبدالله السلال) الذي كان قائداً للحرس الملكي.

_ في عام 1967م، نشبت معارك بين قوات الثورة، وقواتٍ عسكريةٍ موالية للنظام الملكي.. ونتج عنها حصار صنعاء لمدة سبعين يوماً.. وأثناء فترة الاضطرابات.. وقبل حصار العاصمة.. تمّ الانقلاب على عبدالله السلال أثناء قيامه بزيارة للعراق.. وتمّ تعيين القاضي عبدالرحمن الأرياني _ الذي كان أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة _ بدلاً عنه رئيساً للبلاد.

_ خلال فترة حكمه نظّم عبدالرحمن الأرياني انتخاباتٍ حرة.. وتشكل مجلس شورى مُنتخب بنزاهة.. ثم لما كثرت الاضطرابات في البلاد، وتأزم الوضع السياسي، وازداد معارضوه.. قدّم استقالته طوعاً عام 1974م.. ولكن العسكريين أخفوا الاستقالة.. وأعلنوا عن قيامهم بانقلابٍ أبيض على الرئيس.. وعندما طالبه بعض قادة الجيش وزعماء القبائل الموالين له بأن يتدخل ويمنع الانقلاب.. قال الأرياني كلمته الشهيرة: (لا أرغب في أن يُسفك من أجلي دمُ طائر).

_ بعد تنحي الأرياني حكم البلاد أحد القادة العسكريين الذي أعلنوا قيامهم بالانقلاب الأبيض.. وهو العقيد إبراهيم الحمدي، الذي كان في بداية الثلاثينيات من عمره.. وقام الحمدي بإقصاء عددٍ من القادة العسكريين المناوئين له.. وفي الوقت نفسه قرّب بعض العسكريين، من بينهم المقدّم أحمد الغشمي، والرائد علي عبدالله صالح.. وكان الحمدي عروبيّاً بامتياز.. ومن أكثر الرؤساء شعبيّة في تاريخ اليمن الحديث.. وحتى في الثورة السلميّة القائمة حالياً، تجد صور إبراهيم الحمدي مُعلّقة في كل مكان بساحة التغيير.. ففي عهده تحسن الوضع الاقتصادي لليمن بشكلٍ ملحوظ.. وبدأ إنتاج البترول.. لكن الحمدي انتهج سياسية مُعادية لزعماء القبائل.. وهو ما أدخله في خصومات ومناوشات كثيرة.. كما أنه انتهج سياسةً مُستقلة عن دول الخليج، ومُقربة من الحكومات العربية القومية.. وبسبب تواضعه، كان يتحرّك دون حِراسات تُذكر.. حتى جاء اليوم الذي تعرض فيه لاغتيالٍ غامضٍ في عام 1977م.. وكانت الشكوك تدور حول تورّط الغشمي وعلي عبدالله صالح _ المُقرّبين من دول الخليج _ في هذا الاغتيال.

– وفي عام 1977م تولى أحمد الغشمي مقاليد الحكم.. ولم يبقَ في السلطة سوى سبعة أشهر.. حيث تم اغتياله في العام 1978م بشنطةٍ مُفخخةٍ مُرسلة له من رئيس اليمن الجنوبي سالم ربيع علي.. وكانت علاقة البلدين سيئة بسبب اشتراكية اليمن الجنوبي، وقرب اليمن الشمالي من دول الخليج.

_ بعد فترة انتقالية من مقتل أحمد الغشمي امتدت شهراً، تولى الرئاسة في يوليو 1978م علي عبدالله صالح.. الذي كان رئيساً لليمن الشمالي.. ثم صار أول رئيسٍ لليمن بعد الوحدة التي جرت في عام 1990م.

طبعاً هذه الخطوط العريضة من التاريخ السياسي لليمن تخُص تحديداً (اليمن الشمالي).. أما اليمن الجنوبي فله تاريخ مُختلف، منذ استقلاله عن بريطانيا في نوفمبر 1967م _ بعد 128 عاماً من الاستعمار البريطاني _ وحتى اتحاده مع اليمن الشمالي في مايو 1990م.

*    *    *    *

عندما تجول في صنعاء.. تبدو لك العاصمة مدينةً فارغةً.. ففي الشوارع عددٌ محدود جدّاً من السيارات.. والدكاكين مُغلقة.. والقليل من الناس يسيرون على أقدامهم.. ولكن أثناء تجوالك قد تقع على زِحامٍ مُفاجئٍ وسياراتٍ متراصةٍ تمتد كيلومتراً أو كيلومترين.. لتكتشف أن هذا الزِحام ما هو إلا طابور انتظارٍ أمام محطة وقود.. فبعد الثورة.. عمدت السلطة إلى تضييق منافذ العيش على الشعب، بهدف تأليب الناس على الثوّار، وجعلهم سبباً في الأزمة المعيشية.. لذلك انقطع البنزين، والديزل، والغاز _ إضافة للكثير من السِلع الغذائية وسواها _ وصار البنزين المحدود الذي يتمّ تهريبه، مساحة للاقتتال والتنافس، إضافة للارتفاع الجنوني بالأسعار.. حيث ارتفع سعر صفيحة البنزين _ التي تحوي عشرين لتراً _ من 7 دولارات، إلى قرابة الـ 70 دولاراً (أي أن سعر اللتر الواحد ارتفع من 1،3 ريال سعودي إلى حدود الـ 13 ريالاً).. وحصل ذات الارتفاع مع كثيرٍ من السِلع الأخرى.. لذلك إذا وجدتَ في صنعاء وسط الشوارع الفارغة طابوراً طويلاً من السيارات، فاعرف أنك ستجد في آخره محطة وقود!.. وطبعاً وجود هذا الطابور الطويل لا يعني أنه يتوفر حالياً بنزين في هذه المحطة!.. فربما تكون المحطة فارغة من الوقود.. ولكنها موعودة بأنه سيأتيها بعض البنزين خلال أيام.. لذلك تصطف السيارات بشكل مُبكر.. وتبقى تنتظر أحياناً لعدة أيام.. وتظل السيارات المُصطفّة في الطابور دون سائقين.. وفي حال وصل الوقود، ينتشر الخبر باعتباره حدثاً مُهماً.. ويبدأ أصحاب السيارات بالمجيء للتقدم في الصف.. وأحياناً تحدث اشتباكات بين المصطفّين بسبب خلافاتٍ على حصص البنزين.. ودائماً ما تنقل الصحف المحليّة حصول عمليات اقتتال ينتج عنها بعض الجرحى _ وأحياناً قتلى _ عند محطات الوقود.

لذلك غدا البنزين سلعة ثمينة في اليمن.. فصارت الصحف ترسم كاريكاتيرات ساخرة حول الموضوع.. فمثلاً في كاريكاتير يظهر شابٌ متقدمٌ للزواج، يحاول إغراء والد العروس بالموافقة عليه، فيقول له: سأدفع لك مهراً كبيراً عبارة عن ثلاث صفائح بنزين!

وبسبب انقطاع الوقود وعددٍ كبيرٍ من المواد المعيشيّة، توقفت كثيرٌ من الشركات والمحال التجارية والفنادق عن العمل.. وذلك لصعوبة التنقل.. ولانقطاع الكهرباء غالب اليوم.. ولعدم وجود وقودٍ للمولدات الكهربائية الاحتياطية.. إضافة إلى أنك تلحظ بوضوح أكوام القمامة في الطرقات، بسبب توقف شركات التنظيف عن العمل.

خيام الاعتصام في ساحة التغيير

خيام الاعتصام في ساحة التغيير

ولأن المعارك مازالت تدور في صنعاء بين قوات الجيش أو القبائل الموالية للثورة من جهة، وقوات الحرس الجمهوري الموالي للرئيس من جهة أخرى.. بدت صنعاء وكأنها بيروت أيام الحرب الأهلية _ التي كانت مقسومة إلى شرقية وغربية _ .. ففي صنعاء هناك مناطق خاضعة للفرقة الأولى في الجيش الموالية للثوار، التي يقودها اللواء علي محسن الأحمر.. وهناك مناطق خاضعة للحرس الجمهوري الموالي للرئيس.. وعلى من يُريد التجوّل في صنعاء، أن يعرف الطرف الذي يُسيطر على المنطقة التي سيتوجه إليها.. وفي طريقنا إلى ساحة التغيير، مررنا بعدة مفارِز عسكرية وسط الطرق السريعة، وعند مداخل المناطق، بعضها تابع للرئيس، وبعضها تابع للثوار.

قبل وصولي لصنعاء بيوم، قال لي الصديق شوقي القاضي أن 80% من فنادق العاصمة توقفت عن العمل.. وإن أنسب الفنادق المُتاحة لإقامتي هما فندقا الشيراتون والموفيمبيك _ وهما الفندقان الوحيدان في صنعاء من تصنيف الخمس نجوم _ .. وأضاف: ولكن المُشكلة أن هذين الفندقين يقعان في المناطق الخاضعة للرئيس.. إضافة إلى كونهما بعيدين عن ساحة التغيير.. ولا تتوفر دائماً وسائل نقل.. عندها قلت لشوقي إن مدة إقامتي في صنعاء لن تتجاوز اليومين وبضع ساعات.. ولا أودّ إضاعة أي ساعة.. لذلك أريد أن أسكن في ساحة التغيير.. في أي مكان وسط الساحة أو قريبٍ منها.. قال شوقي: ولكن الأماكن المتوفرة هناك متواضعة جداً.. قلت له ضاحكاً: يا رجل أنا أتيت بهدف الاقتراب من ثورة، لا لقضاء رحلة سياحية.. أوجد لي مكاناً للنوم حتى لو كان في خيمة.. وبالفعل.. استأجر لي شوقي غرفة في فندق شعبي داخل ساحة التغيير، ويُطل على خيام الاعتصام.

وفي الدور الرابع بفندق بسيط _ بالطبع لا يحتوي على مصعد _.. وفي غرفة متواضعة قيمة استئجارها اليومي تعادل 35 ريالاً سعودياً (قرابة الـ 10 دولار) _ وبالطبع أيضاً هي دون تكييف ولا دولاب ولا مرآة ولا …الخ _ وضعتُ حقيبتي.. وفتحتُ النافذة.. وبدأت أرقب بعض الأبنية والأزقة المُتاخمة لساحة التغيير.. عندها رَبَت شوقي على كتفي، وقال بسخريته المعهودة: أهلاً بك في جمهورية الثورة.

غرفتي المطلة على ساحة الاعتصام

غرفتي المطلة على ساحة الاعتصام

*    *    *    *

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق