الطريق إلى ساحة التغيير (5-6)
حشود مليونية تُطالب بـ (الدولة المدنيّة الديمقراطيّة)

الكاتب:

29 سبتمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

بعد جولة صباحية في ساحة التغيير.. التقيتُ بـ هاني القحطاني ونادر العريقي في حدود الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الجمعة.. واتجهنا سويّاً إلى شارع الستين، حيثُ تقام صلاة الجمعة.

منذ بدأت الثورة، كانت صلاة الجمعة تُقام في نفس مكان الاعتصام (ساحة التغيير).. ولكن بعد توالي الأيام.. وازدياد أعداد المنضمّين إلى الثورة.. ضاقت ساحة التغيير _ المُمتلئة أصلاً بخيام الاعتصام _ عن استيعاب كل هذه الأعداد.. فقرر قادة الثورة نقل صلاة الجمعة إلى شارع الستين القريب من منطقة الاعتصام.. لكونه شارعاً كبيراً.. وفي نفس الوقت فارغ من أي خيام قد تحد من استغلال المساحة لاستيعاب الأعداد المليونية التي صارت تخرج في كل جمعة.. وأول صلاة جمعة أقيمت في شارع الستين كانت بتاريخ 24 إبريل.

خلال النصف ساعة التي يستغرقها الطريق سيراً على الأقدام من ساحة التغيير وحتى شارع الستين.. إضافة إلى بعض الوقت الذي قضيناه في مطعم شعبي على الطريق.. كنت أتحدث مع هاني القحطاني _ الذي ينتمي إلى التيار السلفي _ عن بعض تفاصيل المشهد السلفي اليمني.. وتنوعاته.. وموقفه من الثورة.

مطعم على أطراف الساحة.. والمعلّم قايد يُخلي مسؤوليته

فالتيار السلفي في اليمن شهِد منذ عقدين تباينات واضحة وانقسامات.. برغم أن التيار نشأ موحداً على يد الشيخ مقبل الوادعي بعد عودته من السعودية عقِب حادثة اقتحام جهيمان للحرم المكي.. وعلى إثر وفاة الوادعي عام 2001م اتسع الخلاف بين مجموعتين رئيسيتين من تلامذة الشيخ _ إضافة لوجود مجموعات أخرى صغيرة _ محسوبين على التيار السلفي التقليدي، على رأس الأولى الشيخ أبو الحسن المأربي (وهو مصري يقيم في اليمن منذ زمن، وقد أسس جمعية دار الحديث بمأرب)، أما الثانية فكانت مع الشيخ يحي الحاجوري الذي يقيم في منطقة دماج بمحافظة صعدة (وهي ذات المنطقة التي كان يقيم بها مقبل الوادعي)، وقد شابَ هذه الخلافات كثيراً من التوتر والحِدة.. أما التيار السلفي الحركي، فأبرز واجهاته هي (جمعيّة الحِكمة اليمانية)، التي انفصل مؤسسوها عن خط الشيخ مقبل الوادعي عام 1990م، وأسسوا في نفس العام هذه الجمعيّة التي تُعتبر أقرب إلى خط الشيخ المصري المقيم في الكويت عبدالرحمن عبدالخالق.. وبعد عامين فقط من تأسيس جمعيّة الحكمة.. وبسبب اختلافِ عددٍ من مؤسسيها مع بعض أفكار عبدالرحمن عبدالخالق، انشقّت مجموعة منهم عام 1992م وأسسوا جمعيّة أخرى أسموها (جمعيّة الإحسان) تُعتبر أقرب إلى الخط السلفي الحركي السعودي (الذي يُطلق عليه اسم السروريّة).. أما التيار السلفي الجهادي في اليمن فهو يحوي مجموعات عديدة مُختلفة (“جيش عدن / أبين الإسلامي”، “كتائب جند اليمن”، “أنصار الشريعة”، “الجهاد الإسلامي في اليمن” …الخ) بعضها مُستقل عن تنظيم القاعدة، والبعض الآخر أعلن انضمامه لهذا التنظيم.

*    *    *    *

حشود تتجه لشارع الستين

طوال سيرنا باتجاه شارع الستين، كنّا نرى أعداداً كبيرة من الناس تأتي من كل الطرقات والأزقة، وتتجه إلى نفس الشارع.. وفي قرابة الساعة الثانية عشرة وصلنا إلى شارع الستين الذي كان مكتظاً بالحشود بشكلٍ لا تكاد تُبصر آخرها.. وكما هي عادة أيام الجمعة في اليمن _ وفي عدد من الدول العربية الثائرة _ يُطلَق على هذا اليوم اسمٌ يُلائم الظرف الزمني الذي تعيشه الثورة.. وقد أطلق الثوّار على هذه الجمعة _ التي أقيمت في 15 يوليو / 14 شعبان _ اسم (جمعة من أجل دولةٍ مدنيّةٍ ديمقراطية).

وقصة هذا الاسم تعود إلى تصريح للشيخ عبدالمجيد الزنداني _ وهو من القيادات التقليدية لتجمّع الإصلاح _ قاله يوم الثلاثاء 5 يوليو في مجلسٍ شرعي دوري، ذكر فيه أنه يرفض إقامة (دولة مدنيّة) لأنه مفهوم غربي يدعو إلى علمَنَة المجتمع المسلم، وإزاحة النموذج الإسلامي في السياسة والحكم.. وأن بدل ذلك يدعو إلى إقامة دولةٍ إسلاميةٍ تقوم على الشورى.

بعد هذا التصريح للزنداني ضج الوسط الثقافي والسياسي اليمني.. وبدأت الردود والنِقاشات تتوالى حول هذا المفهوم.. وكان من أبرز من ردّ على الشيخ الزنداني الدكتور عبدالملك المتوكل (القيادي في اللقاء المشترك) الذي قارن كلام الزنداني بوثيقة الأزهر التي كانت قد صدرت قبل أيام، وتتبنّى بوضوح قيام دولة مدنيّة ديمقراطيّة.

لذلك قرر قادة الثورة تسمية هذه الجمعة بـ (جمعة الدولة المدنيّة الديمقراطية) من أجل حسم الجدل حول موقف الثورة اليمنية من مدنيّة الدولة.. وكان من أبرز المؤيدين لتسمية هذه الجمعة بهذا الاسم قياداتٌ في تجمّع الإصلاح الذي ينتمي إليه الزنداني.

منذ أن دخلنا شارع الستين ونحن نسمع الهتافات الثورية عبر مكبّرات الصوت الممتدة على طول الشارع، والحشود لا تكف عن الترديد.. حاولنا تجاوز الصفوف، والاقتراب بقدر الإمكان من موقع الخطيب، الذي يُلقي خطبته عادة من فوق سطح (شاحنة نقل) يتم إيقافها في بداية الشارع، وتوضع عليها مكبرات الصوت، وتكون أشبه بمنبرٍ للجمعة.. وطوال عبورنا للصفوف كنت أرى كثيراً من اللافتات، بعضها مُعلّق على الجدران المحيطة بالشارع، والبعض الآخر يحمله المُصلّون الذين يفترشون أرض الشارع.. وكانت جميعها تتحدث عن أن مطلب الثورة هو تأسيس دولة مدنيّة ديمقراطيّة، تتعامل مع الناس بالعدل ودون تمييز لفئة على فئة.. ورغم اعتدال درجات الحرارة.. إلا أن سطوع الشمس جعل كثيراً من المصلين يجلبون معهم مظلاّتٍ تقيهم أشعة الشمس.. وكان هناك كثيرٌ من الشباب المتطوعين يحملون على ظهورهم خزّانات ماء بارد، وفي أيديهم خراطيم تنشر الرذاذ المُنعش على وجوه المصلين، رغبة في تخفيف الحرارة عنهم.

جانب من المصلين في جمعة الدولة المدنيّة

الشيخ عبدالله صعتر يخطب الجمعة

الحشود ممتدة حتى الأفق

متطوعون يرشون الرذاذ على المصلّين

بعد دقائق صعد الشيخ عبدالله صعتر _ وهو من تجمّع الإصلاح _ لخطبة الجمعة.. وتحدث بكلامٍ تأصيليٍ رائع حول مفهوم الدولة المدنيّة، وانسجامها مع الشريعة، وأنها أساسٌ للعدل والحقوق والشورى والمساواة بين الناس.. وتحدث أيضاً عن الثورة وأهدافها وصمودها.. وحيا الشباب المُعتصمين على صبرهم ورِباطهم.. وقال كلاماً جميلاً عن وحدة الشعوب العربية.. وأن اليمنيين والخليجيين شعبٌ واحد.. وأنه يجب ألا نغضب من الشعوب بسبب قراراتٍ يتخذها الحكّام دون إرادة الناس.. وقد ختم الشيخ خطبته بدعاءٍ طويلٍ ومؤثر، يثبِّت فيه الشباب، ويدعو الله أن يُعجل بساعة النصر، وأن يقي اليمنيين إراقة الدماء.

أعتقد أن من سمع شيئاً من خُطب الجمعة التي تُنقل أسبوعيّاً عبر القنوات من شارع الستين، لعددٍ من خطباء الثورة.. سيعرف تماماً ماذا يعني الحديث عن البلاغة اليمنيّة.

جنائز عديدة صلّت عليها الحشود

وما إن أتمّ الشيخ صلاة الجمعة.. ومن بعدها صلاة العصر _ جمعاً _ .. حتى أقبلت جنائز بعض الثوّار الذين قضوا في مواجهاتٍ مع الأمن.. فصلى عليهم الشيخ، وحشود الناس وراءه تدعو لهم بأن يتقبلهم الله في الشهداء، وأن يُلهِم ذويهم الصبر.. وحين فرغ الشيخ من صلاة الجنازة.. اعتلى المنبر أحد قيادات الثورة.. وبدأ بما يُمكن اعتباره تقليداً ثورياً بعد كل صلاة جمعة.. حيث بدأ يهتف في الحشود.. ومئات الآلاف يهتفون خلفه بصوتٍ واحدٍ مجلجل.. وبعد قليلٍ طلب منهم أن يرفعوا أصبع السبّابة عالياً في السماء.. ففعلت الحشود ذلك بتناغمٍ وانسجامٍ كبيرين.. ثم بدأت هتافات الرجاء والتضرّع إلى الله أن يكتب لهم النصر والتمكين.. وأن يُعجِّل ساعة الحسم.. وبعد لحظاتٍ طلب خطيب المنصة من الحشود أن يفردوا أكفّهم ويرفعوها إلى السماء.. وهنا فعلت الحشود ذلك، وأخذت تُردد هتافات العهد والميثاق بأن يُكملوا الثورة مهما كانت التضحيات.. ثم طلب الخطيب منهم أن يقوموا بتشبيك اليدين ورفعهما عالياً.. وهنا بدأت هتافات الثبات والصمود والتحدي لفلول النظام وأركانه.. كلُ ذلك كان يتم خلال دقائق بقدرٍ عالٍ من الانضباط.. وكأنك أمام فرقة عسكرية خَضَعت لتدريبات دقيقة وصارمة.

رفع الأكف والترديد وراء الخطيب

رفع قبضات الأيدي

تشبيك الأيادي ورفعها للأعلى

كانت الهتافات التي لم تتوقف في شارع الستين منذ وقت الضُحى، وحتى بعد الصلاة بساعة، تهتم بالاسم المُعلن لكل جمعة.. فمع ترديد عددٍ من الشعارات الثورية المعتادة.. كان الهتاف لـ (الدولة المدنية) حاضراً طوال اليوم:

ثورتنا عزّة وحُرية .. ودولتنا دولة مدنيّة

الشعب .. يُريد .. دولة مدنية

الشعب .. يُريد .. الجيش يحمي الثورة

اعتصام اعتصام .. كي يُحاكم النظام

وبعد جولة من الهتافات.. اعتلى المنبر مرّة أخرى خطيب الجمعة الشيخ عبدالله صعتر.. وحكا للناس بعضاً من مُعاناة إخوانهم النازحين في مُحافظة أبين.. وطلب منهم التبرّع لهم بالمظلات التي أحضروها معهم.. وحثّهم الشيخ على البذل.. ثم قال: أنا أول المتبرعين.. فمن أراد أن يتبرّع بمظلته فليرفعها.. وهنا رُفِعت بلحظةٍ عشرات الآلاف من المظلّات.. ثم بدأ كل شخصٍ يُعطي مظلّته لمن يقف أمامه.. فصرنا نرى زحف جيشٍ من المظلّات إلى المنصّة الأمامية.

وبخصوص ما حصل في محافظة أبين.. فكنتُ قد ذكرتُ أن في الجيش اليمني خمس فِرق عسكرية.. أربعاً منها موالية للثورة.. وفرقة واحدة مازالت موالية للرئيس.. هذه الفرقة الأخيرة هي التي تُسيطر على محافظة أبين الواقعة بقرب عدن في اليمن الجنوبي، وعاصمتها زنجبار.

قامت هذه الفرقة الموالية للرئيس _ بحسب ما ذكره بعض المحللين _ بتسهيل سيطرة مُسلحين ينتمون لتنظيم جهادي مُقرّب من القاعدة اسمه (أنصار الشريعة) على بعض مُدن وقرى مُحافظة أبين.. وكان هذا الفعل من ضِمن الإستراتيجية التي اتبعها الرئيس علي عبدالله صالح منذ بدأت الثورة.. وذلك عبر تخويف الغرب من انتشار تنظيم القاعدة.. من أجل توصيل رسالةٍ مفادها: أنه هو الضمانة الوحيدة لضرب التيارات الجهادية في اليمن.

وبعد سيطرة أنصار الشريعة على أجزاءٍ من مُحافظة أبين، نشبت عدة مواجهات عسكرية بين هذا التنظيم وكتائب من الجيش رفضت تسهيل مهمة المسلحين، وقررت مواجهتهم.. ونتج عن هذه المواجهات نزوح أكثر من خمسين ألف أسرة (قرابة المئتي ألف) إلى مُخيمات في العراء تفتقر إلى أبسط الاحتياجات الإنسانية.

بعد دقائق من اكتمال تجميع المظلّات.. بدأت الحشود تتحرّك كأمواجٍ بشرية ضخمة باتجاه ساحة التغيير.. فيما اتجهتُ مع هاني ونادر إلى منزل الصديق شوقي القاضي الذي كان قد دعانا لتناول طعام الغداء.

الشعب يُريد بناء دولة مدنيّة

لوحاتٍ يحملها المصلون تُعبّر عن عنوان هذه الجمعة

دولة مدنيّة ديمقراطيّة، العنوان الشامل لثورتنا السلميّة

اليمن ولاية سعودية، وثورتنا تُريدها حرّة في دولة مدنيّة ديمقراطية

الدولة المدنيّة هي المشروع الحضاري الذي أسسه الرسول

وفي الطريق أخبرني هاني عن أن الحشود الضخمة التي رأيتها في شارع الستين تُعتبر الآن نِصف ما كان يأتي سابقاً في بدايات الثورة.. والسبب في ذلك ليس قلة الحماس بالطبع.. بل بسبب انقطاع البنزين.. حيث بات لا يستطيع القدوم للصلاة في شارع الستين سوى من يسكنُ في مكانٍ يستطيع معه أن يأتي سيراً على الأقدام.. أما من يُقيمون في مناطق بعيدة.. فقد تعذّر على كثيرٍ منهم المُشاركة مع حشود الثورة في صلاة الجمعة، بسبب توقف غالب وسائل المواصلات.

*    *    *    *

هل ما يجري في اليمن ثورة سِلميّة؟

بالطبع هي ثورة سلميّة.. بل هي من أكثر الثورات العربيّة سلميّةً وإبهاراً من ناحية كثافة توفر السلاح عند الناس (أكثر من ستين مليون قطعة سلاح في اليمن).. وشدة بطش السُلطة وقتلها للمتظاهرين.. ومع ذلك حافظت الحشود الثورية على أقصى درجات ضبط النفس، وعدم الانجرار لرفع السلاح.

لماذا إذن هذا السؤال؟.. كان القصد من هذا السؤال هو إبراز أن الوضع في اليمن له وضعية خاصة لم تتكرر في الثورات العربية.. فرغم سلميّة الثورة منذ بداياتها.. إلا أن هناك قطاعاتٍ عسكريةً وقبليّةً مُسلّحةً باتت مواليةً للثورة.. وتقوم بدور الحِماية لبعض ساحات الاعتصام.

فمثلاً في صنعاء.. تبدو العاصمة مُنقسمة إلى شطرين.. أحدهما تُسيطر عليه القوات الموالية للرئيس (وفيه يقع القصر الرئاسي، ومقر رئاسة الوزراء، وعددٌ من الوزارات والمرافق الحكومية، والمطار، وسوى ذلك).. والشطر الآخر تُسيطر عليه قوات الفرقة الأولى المدرّعة الموالية للثورة (وهي فرقة الجيش المُكلفة أساساً بحماية صنعاء) والتي يقودها اللواء عليّ محسن الأحمر.. وتقوم هذه الفرقة بالسيطرة على أجزاء واسعة من العاصمة، من ضمنها مركز الاعتصام والثورة (ساحة التغيير).. لذلك، ومنذ أن انحازت الفرقة الأولى للثورة بعد مجزرة جمعة الكرامة في 18 مارس.. لم تعد قوات الحرس الجمهوري الموالية للرئيس تستطيع الوصول إلى ساحة التغيير، لأنها لو حاولت الوصول، فستواجه أولاً قوات الفرقة الأولى المدرعة.

وطبعاً هذا لا ينفي حصول بعض المواجهات والقتل في ساحة التغيير، عن طريق بلاطِجة وقنّاصة موالين للنظام، يستطيعون الوصول إلى الساحة باعتبارهم مدنيين.. ولكن لا تستطيع قوات عسكرية موالية للرئيس أن تصل إلى حدود الساحة.

أما المجازر التي حصلت بعد ذلك في صنعاء.. ففي غالبها تتم ضدّ مسيرات احتجاجية تنطلق من ساحة التغيير، وتسير باتجاه القصر الرئاسي أو مقر رئاسة الوزراء.. أي أنها تصل إلى المناطق التي تُسيطر عليها القوات الموالية للرئيس.

وبالطبع ليست كل ساحات الاعتصام في محافظات اليمن محميّة بقوات عسكرية موالية للثورة.. بل بعض الساحات مازالت مكشوفةً ومُعرّضة لقمع قوات عسكرية موالية للنظام.. ففي تعز مثلاً، ورغم وجود قوات من أبناء القبائل تقوم بحِماية ساحة الحرية _ أتت بعد محرقة تعز الشهيرة _.. إلا أن منطقة الساحة مازالت عُرضة لتدخلات دائمة ومواجهات ترتكبها قوات النظام.

أيضاً من يتابع أخبار الثورة في اليمن، يسمع باستمرار عن المواجهات الدائمة في منطقة (أرحب).. وهي منطقة جبليّة يسكنها أبناء القبائل، وتقع شمال العاصمة صنعاء.. وفي أرحب يوجد أكبر معسكر لقوات الحرس الجمهوري، يُسمى معسكر (الصمع).. وقبل بضعة أشهر (تحديداً في منتصف شهر مايو) حاولت قوات الحرس الجمهوري المُتمركزة في معسكر الصمع أن تزحف باتجاه ساحة التغيير بوسط صنعاء لقمع المُعتصمين.. عندها تدخلت قبائل أرحب (وغالبها من فروع قبيلة بكيل)، وقامت بعمل درع بشري أمام مدخل معسكر الصمع.. وقالوا للحرس الجمهوري إن الشباب المعتصمين في ساحة التغيير هم أبناؤنا.. وأننا لن ندعكم تخرجون لقمعهم سوى بعد أن تعبروا على جُثثنا.. هنا تراجعت قوات الحرس الجمهوري عن الخروج من المُعسكر لبضعة أيام.. وبقي الدرع البشري السلمي معتصماً أمام مدخل معسكر الصمع.. ولكن بعد مرور أكثر من أسبوع، قررت قوات الحرس الجمهوري أن تفضّ هذا الدرع البشري، وأن تخرج من المعسكر.. فبدأت بمواجهة أبناء القبائل المُعتصمين أمام مدخل المعسكر.. وقتلت وجرحت منهم الكثير.. عندها قررت قبائل أرحب أن ترفع السلاح وتواجه قوات الحرس الجمهوري.. ومنذ ذلك الوقت، والمواجهات المُسلحة في منطقة أرحب لا تكاد تتوقف بين أبناء القبائل، وقوات الحرس الجمهوري التي لم تستطع حتى الآن مُغادرة المنطقة.

*    *    *    *

في منزل الأستاذ شوقي القاضي، جلسنا على مائدة العامرة، بصحبة هاني القحطاني، ونادر العريقي، وفؤاد الحِميري، وعدد آخر من الشباب اليمني.. دارت أحاديث عديدة حول ما يجري في اليمن، وسألتُ الشباب عن عددٍ من تفاصيل يوميات الثورة في ساحة التغيير.. وبعد جولة من الحديث والحوار.. قلتُ لهم ضاحكاً: دعوني أسألكم عن قصة القات في اليمن.. فمن كان بمثل حالتي، يزور اليمن لأول مرة، يلحظ أن منظر تخزين الناس للقات لافت جداً ومُفاجئ.. خاصة في فترات الظهيرة بعد تناول وجبة الغداء، حيثُ لا تكاد ترى في كل مكانٍ _ وحتى وسط ساحة التغيير _ سوى الأفواه المتورّمة في أحد جانبيها بفعل تخزين القات.

الغداء في منزل الصديق شوقي القاضي

وهنا بدأت التعليقات الطريفة من الشباب.. فأحدهم قال لي إن مُشكلتكم أنكم حكمتم على القات دون أن تجربوه.. ثم أضاف بِمكر: ما رأيك أن تجرّب أولاً ثم تحكم عليه بنفسك.. خاصة أنك تعرف أن الحُكم على الشيء فرعٌ عن تصوره.. أجبته ضاحكاً: (لا يا رجل.. مش ناقصين مشاكل الله يرضى عليك).. ثم قلتُ له: إنني أحكم على القات دون أن أجربه بمثل ما تحكم أنت على الحشيش والهروين _ مثلاً _ دون أن تُجرِّبه.. وهنا رويتُ لهم قصة كتبها مرة د.حمد الماجد في جريدة الشرق الأوسط _ بعد التأكيد مراراً على أنها قصّة مع الفارق 🙂 _ .. حيث حكا أنه رأى مرة على إحدى المنصّات في حديقة الهايدبارك اللندنية الشهيرة رجلاً يتكلم عن الشذوذ الجنسي، ويدعو له.. يقول د.حمد فبدأتُ بمحاورته، وقمتُ أطرح عليه بعض الحجج العقلية، ولماذا حرّمته جميع الأديان، وأستعرض له الأمراض التي قد تُصيب الشاذين جنسيّاً، وسوى ذلك.. يقول: وكان الرجل يستمع إليّ وهو في غاية الإنصات.. وعندما فرغت من كلامي.. التفت إليّ وقال: سأسألك سؤالاً واحداً.. قلت له: بالطبع، تفضل.. فقال لي: هل جربت؟.. يقول د.حمد: هنا فوجئتُ بالسؤال.. وقلت له: لا طبعاً.. فرد عليّ: وكيف تحكم على أمرٍ لم تُجربه؟!

حينئذٍ قلتُ لصاحبي ساخراً: إنني أخشى أن منطِقك في لزوم أن تجرّب بنفسك كل شيء قبل أن تحكم عليه، سيوقعك يوماً في ورطة.

بعدها استمرت التعليقات الطريفة.. فأحدهم صار يقول: (إنما القاعِدةُ عِندنا أن القات لما خُزِّن له).. أما الآخر فقال: (القات عندنا تجري عليه الأحكام الخمسة.. فهو مُحرمٌ وقت العمل في الصباح.. ومكروهٌ أول الظهر.. ومُستحبٌ بعد الغداء.. ومُباح فيما وراء ذلك).. وأضاف ثالث: (قال بعضُ الشباب لطبيبٍ مشهور: يا دكتور حدثنا عن مضار القات.. فأجابهم: هذه قصة طويلة، تحتاج إلى جلسة وحزمة قات).. وفي آخر الجلسة، وقبل أن نعود مُجدداً إلى ساحة التغيير، قال لي أحدهم بمكر: (صدقني يا نواف.. لن تكتشف الثورة الحقيقية سوى بعد جلسة تخزين).. عندها قلتُ لهم مازحاً: بصراحة أنا لا أرى حلاً للقات في اليمن سوى أن يأتي لكم حاكمٌ ويصنع مع مخزّني القات كما صَنَع ماو تسي تونغ مع مُتعاطي الأفيون في الصين.. ثم أضفت: ولن أقول لكم ماذا فعل ماو.. ولكنني أطلبُ منكم ألا تبحثوا عمّا فعله مع متعاطي الأفيون سوى بعد مُغادرتي لليمن.

*    *    *    *

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق