الطريق إلى ساحة التغيير (3-6)
الليلة التي أشعلت فتيل الثورة في اليمن

الكاتب:

27 سبتمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

كيف بدأت الثورة؟

من يراقب بدايات الثورات العربية يكتشف بوضوح التأثير الكبير الذي أحدثته كل ثورة على التي تليها.. فتأثيرات ثورة تونس على الثورة المصرية كانت واضحة جداً.. أما الثورة اليمنيّة، فيكفي أن نعرف أن الثورة بدأت في ذات الساعة التي تم فيها الإعلان عن تنحي الرئيس المصري.

في يوم الجمعة 11 فبراير كان ملايين اليمنيين _ كما في كل العالم العربي _ يتابعون دقائق ما يجري بميدان التحرير في مصر.. وفي اللحظة التاريخية الشهيرة التي أعلن فيها نائب الرئيس عمر سليمان عن تنحي الرئيس حسني مبارك عن السلطة.. وفي ذات الساعة.. خرج الشباب اليمني في مدينة تعز إلى الساحة التي أُطلق عليها فيما بعد اسم (ساحة الحرية).. وشكّل الشباب مظاهرة كبيرة هتفت بإسقاط النظام اليمني.. وأعلنوا أنهم سيعتصمون في الساحة حتى سقوط النظام.

محافظة تعز تُعتبر ثاني أكبر محافظة يمنيّة.. وهي المركز الثقافي الأهم في البلاد.. وكثيرٌ من النخب الفكرية والثقافية اليمنية ينتمون إلى هذه المحافظة.. لذلك فإن غالب الذين خرجوا في مدينة تعز مساء يوم 11 فبراير، كانوا شباباً مُستقلين لا ينتمون إلى أحزاب.. ومن كان منهم ينتمي إلى أحزاب خرج للتظاهر بدوافع ذاتية.

ومنذ اليوم الأول لبدء الثورة في اليمن كانت هتافات الشباب تدعو مباشرة إلى إسقاط النظام.. فيما كانت أحزاب اللقاء المشترك تدرس منذ أيام القيام بتصعيد سياسي ومظاهرات، لكنها كانت تهدف إلى سقف مطالب أقل مما طالب به الشباب، كمنع التوريث، وإنهاء حكم الرئيس بنهاية فترته الرئاسية في سبتمبر 2013م، والقيام بعددٍ من الإصلاحات الدستورية.. ولكن خروج الشباب أربك حِسابات اللقاء المشترك.. وبعد أسبوع من بدء الثورة في تعز.. وتحديداً في يوم الجمعة 18 فبراير، انتقلت المُظاهرات والاعتصامات إلى العاصمة صنعاء.. وقد بدأها أيضاً الشباب بدوافع ذاتيّة.. ولأن السُلطة كانت تخشى من انتقال الثورة إلى العاصمة، قامت فور بدء الثورة في تعز _ كما ذكرت سابقاً _ بإرسال مجموعة من البلاطِجة لاحتلال أهم ميدان في صنعاء وهو (ميدان التحرير) الذي يقع في الوسط التجاري.. حيث نصب أنصار النظام خيامهم في كل أرجاء الميدان.. في محاولة لقطع الطريق على اعتصام الثوّار بذات المكان.. لذلك قرر الشباب أن يختاروا الشارع المُقابل لجامعة صنعاء (الشارع الدائري) كي يبدؤوا فيه الاعتصام.. خاصة أن كثيراً من الشباب الذين بدؤوا الثورة في العاصمة، كانوا من طلاب هذه الجامعة.. وبعد ذلك أطلق الشباب اسم (ساحة التغيير) على موقع الاعتصام.

وبعد انتقال الثورة للعاصمة صنعاء بخمسة أيام.. وتحديداً في 23 فبراير.. أعلن تكتل اللقاء المشترك رسمياً انضمامه للثورة.. ثم توالى انضمام العديد من القوى السياسيّة المُعارِضة وغير المُنضوية في اللقاء المشترك إلى ثورة الشباب اليمني.. وبدأت الثورة تنتشر في غالب المحافظات.. ولم يمضِ شهرٌ على بدأ الثورة، حتى انضمّت لها سبع عشرة مُحافظة يمنيّة.. وصار في كل مُحافظةٍ ساحةٌ خاصة للاعتصام.. إضافة إلى الخروج الجماهيري الكبير الذي يحصل بعد صلاة الجمعة في كل المُحافظات الثائرة.

السلطة اليمنيّة بدورها بدأت في مواجهة هذه المظاهرات والاعتصامات، سعياً لإنهاء هذه الثورة قبل استفحالها.. ولم تتوانَ عن استخدام السلاح في المواجهات.. وقتلت في الشهر الأول للثورة عدداً من الشباب.

شهداء من حفظة القرآن

والمتابع ليوميات الثورات العربية، ومسار تطورها.. يلمس بوضوح أن هناك دوماً مُنعطفات مهمة في مسيرة كل ثورة، تُكسبها مزيداً من الزخم والقوة.. ودوماً تتمثل هذه المُنعطفات في الأيام التي ترغب بها السلطة في تخويف الثائرين عبر مزيدٍ من القتل والقمع.. فينتج عن هذا القتل مزيد من الإصرار والاستبسال وانضمام فئات جديدة للثورة.. فالقمع العنيف الذي قامت به السلطات التونسية لمظاهرات مدينة القصرين في تونس _ حيث قتلت أكثر من ثلاثين شخصاً _ كانت واحدة من أهم مُنعطفات الثورة التونسية.. والعنف الذي مارسته السلطات المصرية على المتظاهرين يوم الجمعة 28 يناير _ حيث قُتِل المئات _ ويوم موقِعة الجمل في 2 فبراير، كان هو الوقود الحقيقي لاستمرار الثورة.. والبطش الذي مارسه الأمن السوري تجاه أطفال درعا، هو الذي أشعل فتيل الثورة في سوريا.. وأنهار الدم التي أجرتها كتائب القذافي في ثالث أيام الثورة الليبية، حين قتلت أكثر من ثلاثمائة شخص في بنغازي، وأكثر من مائةٍ وخمسين شخصاً في البيضا، هو الذي أحرق عند الثوار الليبيين سُفن التراجع والعودة.

السُلطات اليمنية في تعاملها مع الثورة ارتكبت ذات الجريمة.. ففي جمعة الكرامة يوم 18 مارس.. وبعد صلاة الجمعة التي أقامها الثوار في ساحة التغيير _ قبل أن تنتقل صلاة الجمعة إلى شارع الستين لاستيعابِ مزيدٍ من الحشود _ قامت السلطة اليمنية بفتح النار على شباب ساحة التغيير في المنطقة الواقعة وسط تقاطع الشارع الدائري مع شارع العشرين.. حيث قتلت عبر القناصة، وخلال ساعات، أكثر من خمسين شخصاً.. وجرحت أكثر من مئتي شخص.

هذه المجزرة كانت منعطفاً كبيراً في مسيرة الثورة اليمنيّة.. فمستوى الغضب الشعبي، والاستياء الدولي، بلغ مداه.. ونتج عن هذه المجزرة أيضاً انضمام عددٍ من القيادات السياسيّة الموالية للنظام إلى الثورة.. ففي يوم 20 مارس.. وبعد المشهد المهيب لتشييع جنازات شهداء جمعة الكرامة.. أعلن اللواء علي مُحسن الأحمر، أركان حرب الفرقة الأولى المدرعة في الجيش اليمني انضمامه للثورة.. والفرقة الأولى التي يقودها الأحمر تُعد أهم فرقة وأضخم فرقة في الجيش اليمني.. وهي المسؤولة عن حماية صنعاء وشمال اليمن.. وبانضمامه كسبت الثورة رصيداً ماديّاً ومعنويّاً كبيراً.. حيث باتت هذه الفرقة هي المسؤولة عن حِماية مُحيط ساحة التغيير، ومنع وصول أي فرق عسكرية موالية للنظام إلى الساحة.

شهداء جمعة الكرامة

وفي الأيام القليلة التي تلت مجزرة جمعة الكرامة، أعلن عددٌ من الوزراء، والسفراء، والمسؤولين، وشيوخ القبائل، وكِبار ضبّاط الجيش، انفصالهم عن السلطة وانضمامهم للثورة.. فمثلاً في الجيش اليمني خمس فرق عسكرية.. أعلنت أربعٌ فرق منها انضمامها للثورة.. ولم يبقَ تحت إمرة الرئيس سوى فرقة واحدة متواجدة في بعض محافظات الجنوب، ويقودها اللواء مهدي مقولة الذي ينتمي إلى نفس قرية الرئيس (واسم القرية “مقولة”، وتقع جنوب صنعاء).. ولكن بقي مع الرئيس أيضاً (الحرس الجمهوري)، وهو جهاز عسكري يبلغ تِعداد أفراده قُرابة الأحد عشر ألفاً، ويمتلك سِلاح طيران، وتجهيزات، وأسلحة متطوّرة لا يملكها الجيش، وتم تدريب عناصره بكفاءة عالية، ويقوده أحمد علي عبدالله صالح _ ابن الرئيس _ .. ومازال الحرس الجمهوري يدين بالولاء للنظام، وهو الذي يُسيطر على المناطق التي مازالت خاضعة للرئيس في صنعاء، كمواقع القصر الرئاسي، ومقر رئاسة الوزراء، وبعض الوزارات، والمطار، وعدد من المرافق المهمة.

ومع كل هذا التحوّل في موازين القوى الداخلية لصالح الثورة.. إلا أن النظام لم يتوقف عن أساليب القتل والترهيب.. ففي يوم 27 إبريل.. انطلقت مسيرة شبابية حاشدة طافت عدداً من نواحي العاصمة.. وكانت المسيرة تهدف إلى الإعلان عن رفض الثوّار للمبادرة الخليجية التي كانت قد أُعلنت قبل أيام.. وعندما صارت المسيرة بمحاذاة (ملعب الثورة) خرجت من داخل الملعب جموع من البلاطجة، يُساندهم رجال الأمن المركزي، وقاموا بإطلاق نارٍ كثيفٍ على المسيرة.. ونتج عن إطلاق الرصاص الحي، قتل 13 شخصاً وجرح أكثر من 220 متظاهراً.

ووسط تباين في الرؤى بين بعض القيادات والشباب في ساحة التغيير حول تصعيد المواجهة، بهدف تعجيل الحسم الثورية.. خرجت مظاهرة كبيرة يوم 11 مايو لبعض الثوّار، تقودها النائبة عن تجمّع الإصلاح توكل كرمان (وهي المعروفة بنزعتها التصعيديّة، وقد قادت المسيرة بقرارٍ شخصي دون موافقة تجمّع الإصلاح) وقررت التوجه إلى القصر الرئاسي ومقرّ رئاسة الوزراء.. وفي شارع الزراعة مُقابل مقرّ رئاسة الوزراء، فتح رجال الأمن المركزي والحرس الجمهوري النار على المسيرة، وقتلوا وجرحوا الكثيرين.. وفي ذات الوقت توجهت جموع من الأمن المركزي والحرس الثوري ومئات من البلاطجة إلى ساحة التغيير من جهة شارع العدل.. وحاولوا اقتحام الساحة، وقاموا بإطلاق النار الكثيف على المُعتصمين هناك.. فرد عليهم بإطلاق النار بعض عناصر الفرقة الأولى المدرعة التي يقودها اللواء علي محسن الأحمر والمُكلفون بحماية الساحة.. ونتج عن هذه المواجهات قتل 15 شخصاً، وجرح 243 من شباب الثورة.

صور لبعض شهداء الثورة

وبين هذه المجازر كان يجري دوماً إطلاق للرصاص من قِبل الأمن المركزي والحرس الجمهوري على المُتظاهرين، وقتل وإصابة بعضهم.. ولم تكن المواجهات المسلّحة للثوّار السلميين تجري في العاصمة صنعاء فقط.. بل جرت مواجهات عديدة وسالت دماء القتلى والجرحى في غالب المُحافظات اليمنية.

أما في محافظة تعز _ التي بدأت الثورة _ فإن كميّة الاعتداءات المُسلّحة التي تعرّض لها المُعتصمون بساحة الحرية من قِبل القوات الموالية للرئيس _ وبسبب عدم وجود قوات من الجيش موالية للثوّار تتكفل بحماية الساحة _ كانت أكبر وأكثر شناعة.. في مقدمتها المحرقة البشعة التي حصلت بساحة الحرية في يومي 29 و 30 مايو.

وقد بدأت قصة المحرقة بقيام مديرية الأمن المركزي المُتاخمة لساحة الحرية بمدينة تعز باعتقال سبعة من شباب الثورة، وذلك في يوم السبت 28 مايو.. وكانت تهدف من وراء هذا الاعتقال إلى استفزاز شباب الساحة كي يبدؤوا بالتظاهر والمواجهة.. ولكن شباب الثورة لم يستجيبوا للاستفزاز.. وفي يوم الأحد 29 مايو قامت مديرية الأمن برفع صورة كبيرة للرئيس علي عبدالله صالح بمواجهة ساحة الحرية، في محاولة أخرى لاستفزاز المعتصمين.. عندها قام شباب الثورة بالتظاهر أمام مبنى المديرية مُطالبين بالإفراج عن رفاقهم السبعة.. فقام الأمن بفتح النار على المتظاهرين.. وقتل منهم خمسة أشخاص، وجرح ما يقرب من 400 شخص.. واستمرت المواجهات بين قوات الأمن والشباب لساعات.. وهنا بدأت الأرتال العسكرية تُحاصر الساحة من الجهتين الشرقية والجنوبية.. وكان بعض شباب الثورة الغاضبين قد قاموا باحتجاز أحد الجنود وسط الساحة لمطالبة قوات الأمن بالإفراج عن معتقليهم السبعة.. عندها بادرت المديرية _ وسط إطلاق الرصاص _ بإرسال عسكريين اثنين إلى الساحة للمطالبة بالإفراج عن الجندي.. وبالفعل وافق الشباب الذين احتجزوا الجندي على الإفراج عنه.. لكن وبعد ذلك بدقائق _ وكان الوقت في الثانية بعد مُنتصف الليل _ قامت القوات العسكرية التي تُحاصر المكان بالطلب من الثوّار مغادرة الساحة.. وبالطبع رفض الثوار مغادرة موقع اعتصامهم.. فبدأت القوات بإطلاق القذائف والرصاص الحي على الشباب.. ثم قام الجنود بإحراق بعض الخيام.. ووصلت بعض الجرّافات.. واشتعلت النيران في كل أرجاء الساحة.. وارتفع اللهب وسط صُراخ الجرحى والمصابين الذين تجاوز المئات.. ووسط حالة الهَلَع التي سادت المكان، نجح الشباب في إنقاذ بعض المُصابين.. فيما اشتعلت النيران بأجساد بعض الجرحى الذين لم يستطيعوا الهروب.. واستمرّت النيران تلتهم كل شيءٍ في ساحة الحرية حتى بدايات النهار.. ونتج عن هذه المحرقة المروّعة وفاة 88 شخصاً، وإصابة أكثر من 1700 جريح.. إضافة لوجود عددٍ من المفقودين.

يقتلنا بالرصاص ونحن نتوعده بالقصاص

وكان هذا الهولوكست الذي ارتكبته السُلطة بقرارٍ وتخطيطٍ مُسبق، أبشع ما عاشته الثورة اليمنية منذ بدايتها.. ولم يعُد شباب الثورة للاعتصام مُجدداً في ساحة الحرية سوى عقِب أسبوعٍ من المحرقة، بعد أن تكفّلت مجموعات قبليّة مُسلحة وموالية للثورة بحماية الساحة من قوّات النِظام.

*    *    *    *

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق