أيتها الديمقراطية من رآك

الكاتب:

19 نوفمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

وصف أمين الريحاني في مذكراته مدينة عنيزة في المملكة عندما زارها في عشرينيات القرن الماضي بأنها “باريس نجد”، وقد استخدم باحثا علم الاجتماع دونالد كول وثريا التركي هذا الوصف على عنيزة في رصدهما للتغيرات التي مرت بها تلك المدينة وذلك في الفصل الذي شاركا به في كتاب “المجتمع العربي” الذي أعده كل من سعد الدين إبراهيم ونيكولاس هوبكنز. وأبرز ما يلفت النظر هو رصد كل من دونالد كول وثريا التركي لتأثير التغيرات الاقتصادية التي مرت بها المملكة على الواقع الاجتماعي، فعنيزة في بدايات القرن الماضي اعتمدت على نظام اقتصادي منتج بشكل فعال جعلها نقطة تجارية رائجة وكانت أغلب احتياجاتها الغذائية من إنتاجها الزراعي، وهذا النظام الاقتصادي الذي عاشته مدينة عنيزة في بدايات القرن العشرين ولد نظاما اجتماعيا اختصره أمين الريحاني بوصفها مرة بأنها “قلعة حرية” وأنها “باريس نجد”، لقد كانت القاعدة الاقتصادية السليمة التي عاشتها عنيزة في بدايات القرن العشرين هي التي جعلت المدينة تعتمد على نفسها في إنتاج ثروتها وهو ما ولد بالتبعية نظاما اجتماعيا وسياسيا قادرا على التعبير عن هذا النظام الاقتصادي المتشارك بين الجميع، واختلال النظام الاقتصادي في مراحل التغيرات الاقتصادية اللاحقة هو ما قلب المعادلات الاجتماعية للمدينة. ربما لم تكن عنيزة في بدايات القرن العشرين جنة ديمقراطية في قلب نجد، وربما لم يكن في عنيزة برلمان أو صناديق انتخابات ولكنها كانت تملك أشكال أخرى من التعبيرات الديمقراطية، كانت التعبيرات تختلف ولكن جوهر الديمقراطية كان حاضرا.  

الديمقراطية مفهوم هلامي أكثر من كونه مفهوما صلبا لتنظيم الدولة، الانتخابات وغيرها ليست سوى أشكال تعبير وأدوات للمجتمع الديمقراطي، فصندوق الانتخابات لا يصنع مجتمعا ديمقراطيا، المجتمع الديمقراطي هو الذي يصنع الصندوق، وكثير منا في المملكة مع فورة الربيع العربي جعلنا من أشكال التعبير هذه حلا في حد ذاته، فقدمنا العربة على الحصان وأخطأنا في ترتيب الأولويات، ليست المسألة جدالا عقيما حول أهلية المجتمع للديمقراطية الآن أو أهمية الانتخابات في حد ذاتها وإنما إعادة تأصيل لجذر المشكلة وإيجاد بذرة الحل الحقيقي لا الهلامي للإصلاح الذي بات العنوان الرئيس للنقاش.

جاء الربيع العربي حاملا معه شعارات الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية كمفاهيم عامة أساسية شكلت الوعي العربي في هذه اللحظة التاريخية الحاضرة، وأصبحت الديمقراطية بين يوم وليلة هي الحل السحري لكل المشاكل، وقد تكون كذلك، ولكن مفهوم الديمقراطية ظل متمحورا حول أشكال التطبيق لا حول مضامين الجوهر، ومن ثم لنا أن نتساءل: إلى أي مدي مطالبتنا بالديمقراطية هي مجرد رد فعل على الواقع وليست منطلقة من رؤية حضارية متكاملة؟ إلى أي مدى نحن نحاول استبدال شكل من أشكال تنظيم الدولة بآخر دون تغيير حقيقي لجوهر المنظومة أو القاعدة المؤسسة للمجتمع؟ هل المشاركة الشعبية اليوم كفيلة بتحويل واقعنا لواقع مشابه لأحد الدول الاسكندنافية مثلا؟

الديمقراطية نشأت في الغرب استنادا على قاعدة نظام اقتصادي قوامه الفردية واقتصاد الأسواق، هذه القاعدة الاقتصادية والاجتماعية هي التي تبلورت وتطورت مع الوقت لتتخذ شكلا من أشكال التعبير السياسي الذي نراه اليوم في الغرب على سبيل المثال، بدون هذه القاعدة تفقد الديمقراطية جذرها الراسخ في الأرض، فالدولة في المفهوم الديمقراطي هي تعبير عن الإرادة الاقتصادية والاجتماعية الفاعلة للناس، تتخذ نفسها في شكل مواطنة جامعة ونظام سياسي منظم لإدارتها، والمواطن هنا ومن هذا المنطلق يصبح المصدر الأساس لوجود الدولة لا العكس، وهذا الأمر لا يتأتي إلا بوجود دور واضح وقوي لهذا المواطن، دور لا يرتكز بداية على مطالبة المواطن بصوت في الانتخابات وإنما دور يرتكز على إسهام المواطن في توليد ثروة المجتمع والدولة، وهذا لا يعني أن المطالبة بصوت هو أمر غير مهم وإنما السؤال هو: لماذا نطالب بصوت؟ هل لأننا نشعر بأهمية المساهمة في الدولة وأن هذه المساهمة هي أساس حل المشاكل ومفتاح المستقبل؟ إذا القضية الأساسية هنا هي جوهر المساهمة في الدولة.  

وصفة الإصلاح التي ينادي بها الكثير في المملكة اليوم هي وصفة لمسكن ألم يتعامل مع عوارض المرض ولا يعالجه، يضع الحل بمشاركة شعبية في نظام هو في أساسه لا يعتمد اقتصاديا على المواطن، وفي وقت لا يرغب المواطن فيه حقيقة بتحمل مسئوليته، معضلتنا الأساسية في كوننا “دولة ريعية” قائمة على أن المواطن ليس له أي دور حقيقي في إنتاج ثروة الدولة، هذا النموذج الاقتصادي هو أرض غير مؤهلة لزراعة الديمقراطية، المسألة ليست في وجود وفرة مالية أو عدمه وليست في أن هذه الثروة هي في النهاية ملك للمواطن، المسألة هي أنه عندما تصبح الدولة هي المصدر الرئيس للثروة وهي في ذات الوقت المسؤولة عن الإدارة ينشأ خلل كبير في علاقة المواطن بالمجتمع والدولة ككل يتمثل في إلغاء العلاقة التعاضدية بين المواطن كعضو فاعل له حقوق وعليه واجبات وبين الدولة ككيان سياسي واقتصادي واجتماعي جامع لهؤلاء المواطنين.

تعديل الهرم المقلوب يبدأ بإعادة دور المواطن الحقيقي له، إعادة نفس الدور الذي كان لمواطن عنيزة بداية القرن العشرين كعضو فاعل منتج تقوم مدينته عليه لا هو على مدينته، عندما يكون المواطنون هم قاعدة الهرم العريضة في الدولة كمنتجين لثروة الدولة فإن أشكال التعبير السياسي لأداء المواطنين ستتغير تبعا مع الوقت، الكسل السياسي الحالي هو نتاج الكسل الاقتصادي في المقام الأول، فبعيدا عن النخبة وحوارات النخبة ماذا تعني الديمقراطية حقيقة للمواطن العادي؟ ما الفرق الحقيقي له فيها مقارنة بأشكال التنظيم الحالية؟ هل الديمقراطية مطلب شعبي حقيقي؟ قد تقنعه النخبة بأهمية الديمقراطية ولكنه لن يكون أبدا عنصرا فاعلا فيها ما لم يكن عنصرا فاعلا في المنظومة الاقتصادية حيث تصبح الديمقراطية تطورا طبيعيا لشكل التعبير الذي يلائم هذه المنظومة.

في الغرب تقوم ثروة الدولة الأساسية على إنتاج الأفراد وما تجنيه الدولة من ضرائب منهم، ولأن المواطن حينها يصبح له ضلع رئيس في إنتاج الثروة سيصبح له ضلع رئيس في شكل تنظيمها، وعندما يتكاسل المواطن عن أن يكون له دور أساسي في إنتاج ثروة الدولة فمن الطبيعي أن يتكاسل عن السعي لتشكيل النظام الذي يعبر عن إدارتها، ولا فكاك من هذه الدائرة مهما كان الإيهام بأن الديمقراطية الساقطة من أعلى قادرة على إصلاح الدولة، فالسؤال هنا يصبح: ما هو مفهوم الدولة حقيقة في هذا الوضع؟ وما هو المواطن حقيقة في هذا الوضع؟ عندما نكون كمجتمع مستعدين لدفع ضرائب على الدخل سنكون مستعدين للديمقراطية، وعندما نكون مستعدين لأن تكون الدولة هي نتاج للمواطن ستكون الدولة تعبيرا عن إرادته، عندما تصبح الدولة نحن، سنصبح نحن الدولة، هذه المعادلة هي المعادلة القائمة في كل الديمقراطيات، فكيف لنا أن نعيد اختراع العجلة.

مطالبنا الإصلاحية اليوم فيها قفز على حقائق الأمور، وحقائق التاريخ، فيها أمل بمطالب هابطة من السماء لا صاعدة من الأرض، فيها أمل بتحقيق النجاح دون بذل الجهد المطلوب من أجله، إن طريق الاصلاح الحقيقي طويل ومجهد، ونحن نريده دون تعب وبلا صبر، ومهما بذلت النخبة من جهود فكرية فإن أحدا لا يستطيع رؤية الديمقراطية، فهي كمفهوم الدولة والمواطنة مفاهيم هلامية ما لم تقرن بجهد الفرد نفسه، ذلك الجهد الذي يستطيع رؤيته والإحساس به، وعندما يصبح المواطن عاملا لإنتاج ثروة الدولة المقرونة بجهده فإنه سيجهد لتشكيل النظم المعبرة عن جهده، وهذا أمر لا يتأتى بين يوم وليلة مهما كان الربيع العربي بشعاراته مغريا للكثير من الشباب بيننا. كيف لنا أن نقتنع أن فرض ضرائب دخل على المواطنين أولى في الاصلاح من المطالبة بمشاركة شعبية؟

“الربيع العربي” ليس مجرد ثورة وسقوط أنظمة، “الرييع العربي” في جوهره صدمة حضارية عربية جاءت لنا هذه المرة من الداخل ومثل هذه الصدمات تأخذ وقتا ليظهر تأثيرها العميق، والتاريخ الذي يكتب اليوم هو نسخة حديثة من “تاريخ الجبرتي” تكتب بمفهوم جديد إذا صح التعبير، سينشغل جيلنا بالنظر إلى “الربيع العربي” والتحولات الظاهرية له كون طبيعة الأمور تفرض بصورة تلقائية أن يظل الجيل الذي شهد صناعة الحدث حبيس اللحظة التاريخية المكونة لوعيه، ولكن مفارقة هذه اللحظة التاريخية والانطلاق نحو فضاء أوسع من الوعي تتطلب استشراف جوهر التغير الحقيقي الذي ستطرحه صدمة “الربيع العربي” للمفاهيم الحاكمة لوعينا حول الدولة والحكم والمواطنة، وهو جوهر لن يولد إلا بخروج جيل جديد مستقبلا يعيد قراءة التاريخ من منظور مختلف، منظور ـ على الأرجح ـ لن نتمكن نحن من استيعابه في هذه اللحظة التاريخية، وإن كنا بشكل أو بآخر نساهم فيه، وهذه هي المعضلة.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق