نقاش ديمقراطي سعودي

الكاتب:

28 سبتمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

لم يكن الحديث عن الديمقراطية في السعودية وليد الربيع العربي،ففي العقود الماضية كان حديثاً معروفاً عند النخب والمثقفين،وفي العقد الأخير وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر ثم غزو العراق توسع الحديث ليشمل جمهوراً جديداً،لكنه تعزز بشكل كبير وبات محور كل نقاش فكري حول مستقبل البلاد بعد الثورات العربية وما حملته من تغيير في خارطة المنطقة ووعي الناس.

قامت الثورات تعبيراً عن تطلع الجمهور العربي للحرية والعدالة بعد عقود من الاستبداد والقمع،وصارت فكرة إقامة نظام ديمقراطي ودولة مدنية تجسيداً لهذا التطلع بفعل نجاح الخيار الديمقراطي في دول مختلفة من العالم،وفشل الأحزاب الأيديولوجية في إنتاج صيغ أخرى تضمن الحرية والعدالة،وعجز الخطاب الديني عن إيجاد نموذج أفضل،ووصول الكثيرين إلى قناعة مفادها أن الديمقراطية ليست ضد الدين ولن تكون كذلك في مجتمعاتنا المحافظة،كما أن الديمقراطية هي الوسيلة الأمثل لتنظيم هذا الكم من الاختلافات الفكرية والمذهبية في عالمنا العربي.

السعوديون جزء من المنظومة الاجتماعية والثقافية العربية،وهم جزء من هذا الوعي المتنامي بأهمية التحول الديمقراطي،ويخطئ كثيراً من لا يقدر حجم التحول في تفكير السعوديين وتزايد إيمانهم بالديمقراطية ورغبتهم في المشاركة الفاعلة والحقيقية في صناعة القرار الذي يمس حياتهم بشكل مباشر.

أولوية الديمقراطية

الديمقراطية حاجة وليست ترفاً فكرياً،هكذا تراها النخب المُطالِبة بها ويراها جمهورٌ آخذٌ بالاتساع،فهي ليست بالنسبة لهم حقاً طبيعياً للشعب وحسب،بل ضرورة له بما تمثله من بناء للمؤسسات وإطلاقٍ للحريات،وبما تنتجه من قنوات عصرية للتعبير الشعبي ضمن مجتمع مدني حقيقي،ولا تنحصر القضية في الانتخابات،بل تتعداها لتشمل عمل المؤسسات القائم على الفصل بين السلطات وسيادة القانون الذي يوضح بشكل صريح الحقوق والواجبات لجميع من يعيش على هذه الأرض.

مع ذلك توجد قطاعات من الجمهور في السعودية والخليج لا تهتم كثيراً بهذا الكلام،وتجده ترفاً فكرياً وتنظيراً لا أهمية له في حياتهم اليومية،وترى أن المسألة الاقتصادية والهم المعيشي مقدمان على ما سواهما،وأن الأولوية هي لتحسين الأوضاع المالية والخدمات المقدمة من الدولة،وكل حديث عن الديمقراطية وبناء المؤسسات لا معنى له.

هذه المجموعة التي ترى أولويتها في المسألة الاقتصادية والمعيشية لم تفهم التأثير الإيجابي للعملية الديمقراطية على تفاصيل حياتها اليومية،وتبدو المشكلة في أن كثيراً من الطروحات حول الديمقراطية لم تدخل إلى هذه المنطقة لتربط بين التحول الديمقراطي وتحسن الوضع الاقتصادي والمعيشي،وتُبْرِز أثر الديمقراطية الإيجابي في الشؤون التفصيلية التي تهم المواطنين.

يمكن للآلية الديمقراطية أن تساهم في الحد من الفساد المالي والإداري بشكل كبير، وهو المشكلة الأبرز التي يعاني منها المواطنون باختلاف فئاتهم وتصنيفاتهم ،فالرقابة الشعبية على المال العام عبر مؤسسات منتخبة لها صلاحيات حقيقية يمكنها تعطيل هدر المال العام والوقوف بوجه الفاسد كائناً من كان وإيقاف سرقاته،وهو ما سينعكس إيجاباً على الحالة الاقتصادية في البلد،كما أن إصلاح المؤسسات وإنهاء المحسوبيات وتقديم الكفاءة في الوظائف الكبيرة والصغيرة سيساهم أيضاً في الحد من الفساد وضخ دماء جديدة في المؤسسات.

كذلك فإن العملية الديمقراطية بما تشمله من ضمان لاستقلالية القضاء يمكنها أن تعالج الكثير من المشاكل التي ينتجها القضاء حالياً وما يسببه من معاناة اجتماعية واقتصادية للناس،فالقضاء المستقل المحكوم بقوانين واضحة ينهي شكوى الناس وتذمرهم من أحكام القضاء العجيبة وغياب النزاهة والاستهتار بالناس وأوقاتهم ومصالحهم.

أيضاً تقدم العملية الديمقراطية فرصة للجمهور لمحاسبة المسؤولين عن تقديم الخدمات للمواطنين،وبالتالي فإن من يتحدث عن ضعف الخدمة المقدمة في التعليم أو الصحة أو المواصلات يمكنه أن يحاسب المسؤول عنها عبر الآلية البرلمانية وكذلك عبر آليات العمل الشعبي المدني المتوفرة في الإطار الديمقراطي.

ما سبق هي أمثلة على قضايا ملحة في حياة الناس اليومية يمكن للآلية الديمقراطية أن تؤثر بشكل إيجابي فيها،ويكفي أنها تعطي المواطن فرصة لتحمل المسؤولية والشراكة في صناعة القرار،لذلك يفترض بمن يطالبون بالتحول الديمقراطي الحديث عن أثر الديمقراطية في المسائل اليومية التي تعني الفرد ليفهم بعض الجمهور أن الديمقراطية أولوية لتحقيق الرفاه الاقتصادي كما هي أولوية لتحقيق الحرية والعدالة.

الوعي الانتخابي

تطرح قضية الوعي الانتخابي كحجة أساسية لمقاومة التطلع لتحول ديمقراطي،ويتم الحديث عن عدم جهوزية المجتمع للعملية الديمقراطية في سياق رفض الديمقراطية،لذلك يمكن ملاحظة تكرار هذا الكلام طوال العقد الأخير،وقبله بعقود،واليوم وغداً وبعده سيتكرر نفس الكلام،فالمجتمع لن “ينضج” أبداً ليصل إلى المرحلة التي يمكنه فيها ممارسة العمل الديمقراطي،وهو لذلك يحتاج دوماً لوصاية فكرية وسياسية عليه.

يكفي القول أن المجتمع الذي يعاني من عدم الجهوزية ليدير أموره بنفسه حتى في القضايا الصغيرة هو نتاج لفشل الدولة في تثقيفه وتوعيته،ومن يتحدث عن غياب ثقافة الديمقراطية في المجتمع وعدم جاهزيته يدين –من حيث لا يدري- الدولة وأجهزتها التي أنتجت هذا الوضع ولم تقم بأي جهد لتعليم الناس،مع ذلك من المهم الحديث بشكل أكبر حول الوعي الانتخابي ومفهومه وطبيعته.

ما هو الوعي الانتخابي؟.إن الوعي الانتخابي هو الوعي بأهمية الممارسة الديمقراطية وتأثيرها في حياة المواطن،وهذا الوعي يتجسد بالممارسة الانتخابية لا بالمحاضرات والدورات التدريبية،وليس بحاجة إلى “التدرج” الذي هو أكذوبة لا معنى لها،فالممارسة الانتخابية إما أن تكون كاملة أو لا تكون،والمسألة باختصار أن الممارسة الانتخابية تقتضي فتح الباب لتعددية سياسية وفكرية،وأن المواطن يختار من يراه مناسباً لتمثيله في كل مرحلة زمنية.

يروج البعض للوعي الانتخابي باعتباره نضجاً شعبياً يحتاج إلى سنوات طويلة من التدرج وتثقيف الناس،وفي هذا استخفاف غير مقبول بالمجتمع وأفراده الذين تطوروا وتطور وعيهم عبر تواصلهم مع ما يحدث حولهم في العالم،لكن الأهم أنه طرح غير واقعي ولم يحصل في أي بلد ديمقراطي في العالم،فلا تخوض الشعوب امتحانات يتم على أساسها قرار مكافأتها بالسماح لها بالممارسة الانتخابية،لأن الانتخاب حق طبيعي لا يحتاج إلى استعدادات من هذا النوع.

إن من يتحدث عن أهمية الوعي الانتخابي لاختيار “نخبة مستنيرة” تقود البلد،وأن الأهم في الانتخاب هو الاختيار النوعي الصحيح،يناقض المبدأ الديمقراطي،ويؤكد بكلامه على ضرورة إلغاء التجارب الديمقراطية في أميركا وفرنسا وغيرها من الدول!،فبعد 200 سنة من الممارسة الديمقراطية تم اختيار جورج بوش لفترتين رئاسيتين،وكذلك جالك شيراك في فرنسا الذي يحاكم اليوم بتهم فساد.

الديمقراطية ليست خيارات مثالية،لكنها تمنح الناس فرصة لتصحيح أخطائهم،والواضح عبر التجربة أن الأخطاء الناتجة عن الديمقراطية أقل ضرراً من خطيئة غيابها.

ممانعة ليبرالية

مضحكٌ أن شريحة واسعة من الليبراليين اليوم تتصدر المشهد المعادي للديمقراطية بعد سنوات من ممانعة التيارات الدينية للديمقراطية،ويبدو أن الكثير من التيارات الدينية قد تصالحت مع فكرة الديمقراطية إلى درجة زادت فيها مخاوف الليبراليين من فوز خصومهم عبر صناديق الاقتراع،فقرروا مناقضة الفكر الذي يدَّعون الانتماء إليه ووصلوا إلى حد الترويج للاستبداد والعداء للثورات التي انطلقت في تونس ومصر.

مشكلة الليبراليين أنهم راهنوا على الليبرالية الاجتماعية كبديل لليبرالية السياسية،لكنهم خسروا الاثنين معاً،فلا تحريض السلطة على خصومهم نفعهم بانتزاع حريات اجتماعية،ولا هم تمكنوا من إقناع الناس بها وتشكيل تيار شعبي حقيقي معهم،ومع ذلك يستمرون في رفض الديمقراطية ويفضلون بقاء الوضع الحالي منعاً لاستبداد ديني “كامل” يخشونه.

لا يمكن لليبرالية الاجتماعية أن تكون واقعاً دون قرار سياسي،ولا يمكن التأسيس لليبرالية اجتماعية إلا من خلال الليبرالية السياسية التي تكفل التعددية وحرية التعبير،وبالتالي يصبح رفض الديمقراطية وما تمثله من ليبرالية سياسية نوعاً من الانتحار الفكري سببه الفشل في فهم الأولويات.

الانحياز للخيار الديمقراطي (الضامن للحريات ولعدم استبداد الأكثرية) هو الضمان الحقيقي لليبراليين ولجميع التيارات الفكرية،وفتح الباب أمام تعددية سياسية سيكفل لليبراليين وغيرهم فرصة العمل على إقناع الناخبين بفكرهم وتوجهاتهم،ومن سيجربه الناس ويفشل سينتهي ويتم اختيار غيره..هكذا ببساطة هي دورة الديمقراطية.

تبديد المخاوف

الليبراليون خائفون،وكذلك كثير من الشيعة والأقليات،يخشون حكم خصومهم وما يمكن أن يجره من مشاكل لهم،وبعض المتدينين يخشون من الديمقراطية خوفاً من تعارضها مع الدين،لذلك من الضروري التأكيد على أن الديمقراطية منظومة قيم تتجاوز فكرة الانتخاب إلى ضمان الحريات ورفض منطق الإقصاء والاستئثار،وهي في النهاية لا تتصادم مع الدين.

الديمقراطية ليست نظاماً مثالياً،لكنها أفضل ما وصلت له التجربة البشرية،وهي أفضل من غيرها من الأنظمة والنماذج،وقد باتت ضرورة عربية في هذه المرحلة لإنهاء كافة أشكال الاستبداد،وهي توفر للجميع مساحة للحرية والحركة،والأولى أن تتغلب كل الأطياف على مخاوفها الوهمية لتدعم التحول الديمقراطي الذي فيه مصلحة الجميع.

الديمقراطية ليست غاية في ذاتها،إنما وسيلة لتنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع والسلطة،وبين بعضهم البعض،وبالتالي هي وسيلة لتطوير المؤسسات وآليات العمل في الدولة لتحقيق الغاية المتمثلة في التنمية والنهوض السياسي والاقتصادي والمعرفي،مع احترام حقوق الإنسان وحريته،وهي باتت ضرورة لكل العرب المتطلعين للخروج من واقعهم المأزوم،لذلك من الطبيعي أن تتسع المطالبة بها مع زوال الأساطير حولها وغياب البدائل لها وفهم الناس لطبيعتها والنتائج المرجوة منها.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق