أبوية الدولة، الإصلاح والاقتصاد

الكاتب:

30 مارس, 2012 لاتوجد تعليقات

 الدولة الأبوية هي الدولة التي تتولى جميع شؤون الفرد الشخصية والعامة، فهي مسئولة عن الإسكان والصحة والبريد والهاتف وكل شيء، سواء بطريقة مباشرة كما في الدول الشيوعية، أو غير مباشرة كما هو الحال في معظم الدول العربية. أي أن النظام السياسي يتغلغل في جميع جوانب حياة المواطن، وهذا نابع من عدة أمور، منها أنه نظام أيدلوجي شمولي قائم على تطبيق أيدلوجيته بكل جوانب إدارة الدولة، كما في الاتحاد السوفيتي والصين وكوريا الشمالية، أو أن يكون نظاما وراثيا، أيضا تلجأ الدول لهذا النموذج في إدارة شعوبها في حالات الحروب الطويلة أو الكساد الاقتصادي كما فعلت الولايات المتحدة بعد كساد 1929م.

 عادة ما تقوى أبوية الدولة مع مرحلة البناء، ثم يبدأ الدور الأبوي للدولة بالضعف كلما زادت قوة الدولة قانونيا وتنظيمياً، ومن العناصر التي تطوّل أمد أبوية الدولة هي الوفرة المالية وضعف أو انعدام مؤسسات المجتمع المدني، فالوفرة المالية تدفع الدولة إلى التأصيل في ذهنية المواطن بأنها الوحيدة القادرة على إدارة الثروة القومية، وأنه لا يستطيع تقرير مصيره إلا في إطار النظام القائم،  فيظل محتاجا دائما للدولة لتنير له طريقه وتبين له خطأه من صوابه، أما انعدام مؤسسات المجتمع المدني فيبقي حالة الاتكالية التي يعيشها المواطن في اعتماده على الدولة في كل شيء. ودائما ما يتم تبرير استمرار هذه الأبوية بأن المواطن لم يصل إلى درجة الوعي الكافي بعد ليستطيع المشاركة وصناعة القرارات التي تنعكس على حياته، وأن الدولة لا تستطيع ترك هذا المواطن غير الراشد للتخبط والتيه.

لكن هذه الأبوية سرعان ما تبدأ في إثقال كاهل الدولة بهمومها وواجباتها الاقتصادية بشكل خاص، وهذا يحصل في حالة ارتفاع عدد السكان وازدياد تكلفة تظليل الدولة عليهم بظلها الأبوي، أو في حالة ضعف الدولة الاقتصادي، وفي كلتا الحالتين تبدأ الدولة بمواجهة خيارات صعبة وحاسمة بطبيعة الحال، وتضعف جدوى أبوية الدولة بتغير المحيط السياسي للدولة، كأن تسقط أنظمة شبيهة وقريبة جغرافيا لهذه الدولة، أو أن تنتهج بعض الدول القريبة (سياسيا وجغرافيا) منهجا سياسيا مغايرا فتتنازل عن أبويتها وتبدأ بإعطاء مواطنيها حق المشاركة السياسية والاقتصادية. وفي كل الحالات يعتبر العامل الاقتصادي – الذي أصبح عبئا على الدولة – هو العامل الرئيس الذي يضغط على الدولة تجاه التغيير، حتى وإن قاومت أو تعامت الدولة أو النظام السياسي الحاكم عن هذه المشكلة، إلى أنها ستحاصرها من جميع النواحي، في الصحة والتعليم والخدمات و الأمن…. إلخ.

عند بروز أزمة احتمال النظام لأبويته واختناقه بها، يتجه النظام السياسي للبحث عن حلول تبقيه دون تنازلات عن سلطاته، إلا أنه يعجز عن ذلك، لأنه وكأي نظام شمولي آخر، يكون قد أفرز طبقة ثانية وثالثة من المستفيدين من أبويته، وعادة ما يكون هؤلاء قد اعتادوا ما ألفوه ممن فوقهم من ضعف المحاسبة والرقابة، والذي يكون قد تسبب في فساد مسئولي الطبقة الثانية والثالثة، وصولا إلى المستويات الإدارية الدنيا. في ظل هذا كله يظل النظام يجرب كل الحلول التي تحميه من التنازل عن قوته الإقصائية، وفي نفس الوقت تزيح عن كاهله هموم و مسئوليات أبويته، إلا أن كل تجارب التاريخ، وقبلها العقل الواعي  تفضي إلى فشل النظام الأبوي في إزاحة مسؤوليات أبويته عن مواطنيه دون تنازلات مؤلمة و كبيرة.

إن أول معضلة يبحث النظام الأبوي عن حلها هي إزاحة العبء الاقتصادي عن كاهله، فيتجه إلى تنويع اقتصادياته عبر فتح حدوده للاستثمار الأجنبي، وتحسين إدارة استثماراته الداخلية والخارجية، إلا أن سلوكه الأبوي يظل يقاوم هذا التغيير، والمستفيدين من ضعف رقابة وانعدام شفافية الدولة يقاومون بدورهم وبشراسة هذا التغيير، وحتى المستثمرين الأجانب، يظلون متخوفين من دخول دولة يحكمها نظام أبوي، لضعف الأرضية القانونية فيه، فتكون الدولة في صراع مع داخلها، ويبرز هذا الصراع في صعوبة اتخاذ القرارات التي يجب أن تتخذ، وايقاف تنفيذ البعض الآخر. في نفس هذه المرحلة يبدأ المواطن باستشعار تقصير الدولة – البطالة والفقر –  تجاهه، وفي نفس الوقت يعي ويرى أن هناك من هو مستفيد من هذا التقصير ويريده أن يستمر لصالحه هو، فيكون – أي المواطن – أداة ضاغطة أخرى على الدولة، وتختلف شدة هذا الضغط من دولة لأخرى، ففي حين تكون حادة في بعض الدول إلى درجة الثورة، تكون متوسطة في دول أخرى فلا تتعدى احتجاج هنا أو هناك، ولكن الضغط يكون واضحا للعيان ومزعجا للدولة التي تعودت أن يرضخ الشعب لأوامرها الأبوية، راضين أو مجبرين.

قد تلجأ بعض الأنظمة الأبوية لسن قوانين ضريبية، ، لتخفف من حدة الضغط الاقتصادي عليها، وقد تبدأ به لفترة، ثم ما تلبث أن تكتشف أنها قد زادت من أزمتها – مصر مثالا – ففي ظل انعدام الشفافية وقوة القانون، يزيد حجم الفساد الإداري والاقتصادي، ويزيد بطبيعة الحال ضغط الشارع على الحكومة لإيجاد حلول جديدة، لأنه لا يوجد جهاز رقابي – برلمان –  شفاف يراقب إدارة الدولة لمواردها – الضرائب والموارد الطبيعية – وكما يقول الأمريكيون “No taxation without representation” أي لا ضرائب دون نظام برلماني، فنعود لنقطة الصفر من جديد، ولكن تكون المشاكل قد تفاقمت. قد لا يكون المواطن يتمتع بذلك الوعي السياسي الذي يدفعه لأن يطالب بحقه السياسي، ولكنه حتما يعي أن وضعه الاقتصادي غير مرضي، ويعلم أن وطنه يتمتع بالموارد الكافية لتحسين وضعه الاقتصادي، أو على الأقل يؤمن أن إدارة الاقتصاد في بلده غير فاعلة البتة.

هنا، تبدأ الدولة بإدراك أن الحل الوحيد الناجع لأزمتها هو تأطير الكل – الحكومة والشعب – بإطار قانوني واضح، يحدد حقوق وواجبات كل طرف، فيكون المواطن مشاركا في التغيير – عبر برلمان منتخب ودستور –  ومنتجا للسلطة التنفيذية. وإدراك الدولة لذلك دون البدء في عملية التغيير لن يؤدي إلى نتيجة، فلو أدركت الدولة ذلك وتمنعت عن التغيير ستزيد من نقمة المواطن تجاهها، وقد يؤدي هذا إلى زعزعة الدولة داخليا، فتبدأ بوضع كل مكتسباتها وإنجازاتها في دائرة الخطر، وسيؤثر ذلك حتى على بيئة الاستثمار الداخلي والخارجي، بل قد يؤدي إلى انهيار الدولة.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق