الهجمة على الاحتساب، لماذا؟

الكاتب:

26 فبراير, 2012 لاتوجد تعليقات

ليس كلاما جديدا القول بأن مفهوم الاحتساب اليوم قد اُختزِل معناه الواسع والشامل في إطار ضيق من الممارسات المختلف حولها، والاحتساب مع أنه مفهوم أصولي قديم إلا أنه يمكن توسيعه اليوم داخل إطار مؤسسات المجتمع المدني، وكل ما تقوم به من أجل إشاعة المعروف والخير بين الناس، والنهي عن السوء والمنكر. وقد حاول أستاذ أصول الفقه الدكتور محمد العبدالكريم محاولة جيدة في تأصليه لمفهوم الاحتساب المدني في كتاب لطيف.

في البداية، علينا أن نتفق أن الاحتساب اليوم لا يجب أن يكون شاملا لكل المجالات سواء السياسية أو الاقتصادية أو السياسية أو التعليمية والاجتماعية فحسب، بل يجب أن يكون منصبا في المرحلة الراهنة على تسخير جهود الاحتساب تجاه الأولويات والأهداف الكبيرة التي تنقل المجتمع والدولة نحو القوة والرشد. وسواء أتخذت التسميات للاحتساب المدني أكثر من مصطلح مثلما يطرح الدكتور عبدالله الحامد مفهوم “الجهاد السلمي” أم غيرها من التسميات، فإنه ما يهم هو أن هذه المفاهيم تصب في نهاية الأمر في معنى إشاعة المعروف والتناهي عن المنكر.

ربما باستطاعتنا اليوم القول إن المشهد الذي كان يُبدي اختلافا كبيرا حول طبيعة ما يجب أن يكون عليه المشهد السياسي المحلي قد انجلى، وأصبحنا اليوم نرى اتفاقا يكاد يكون بين جميع الأطياف على أهمية تكوين مجلس شورى منتخب بصلاحيات تشريعية ورقابية نافذة. وسواء اختلافهم حول المصطلح المؤدي لهذه الصورة هل هو ديمقراطية أم شورى، فإن الذي يهم هو الاتفاق الذي يبدو على مفاهيم: فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية بعضها عن بعض، والتداول السلمي للسلطة، وانتخاب أفراد المجتمع لمن يمثلهم في البرلمان… إلخ.

وفي جدل ونقاش الدولة المدنية والدولة الدينية، ستكون الصورة التي يتفق عليه الجميع اليوم هي “الدولة المدنية” فلا يوجد أحد في الساحة يطالب بدولة “رجال الدين” أو  دولة “ولاية الفقيه”، بل دولة مدنية تقوم على مجتمع مدني الأساس فيه هو المساواة بين جميع أفراد الشعب وحقهم في الترشح والانتخاب، والمساواة تعني أيضًا حقهم جميعا في التعبير عن أفكارهم وبرامجهم.

الاتفاق حول طبيعة ما يجب أن يكون عليه المشهد السياسي “الدولة المدنية” يجب أن يتبعه اتفاق على لوازم الدولة المدنية الديمقراطية، وعندما نقول الدولة المدنية الديمقراطية فهذا يعني شيئين أساسيين: أي دولة مدنية تعني الانتقال من حالة الدولة التقليدية إلى حالة الدولة الحديثة، ودولة سلطة الشعب “ديمقراطية” مقابل دولة “رجال الدين”. ولازم القول بالدولة الديمقراطية الحديثة يعني وجود مؤسسات مجتمع مدني.

مؤسسات المجتمع المدني تعني هي الأخرى مقابلة المؤسسات التقليدية والطبيعية في المجتمع، التي ينتمي إليه الإنسان منذ ولادته كالقبيلة أو ينشأ عليه كالمذهب والطائفة، والقول بأهمية وجود مؤسسات المجتمع المدني هي ضرورة لتمثيل الأفراد أنفسهم معبرين عن قناعاتهم بالتساوي لا بصفتهم جماعات تميز المجتمع بعضه عن بعض.

***

هذه المقدمة المختصرة نود من خلالها الدخول إلى الحديث حول ظاهرة الاحتساب حول مهرجانات معينة كالجنادرية أو معرض الكتاب وغيرها، ويبدو السؤال مجحفا هل يحق لمجموعة من الناس أن تعبر عن قناعتها في رفض مثل هذه الأنشطة، لأنه عند الحديث عن مجتمع مدني بلوازمه في حق التعبير والتظاهر والاعتصام… إلخ، لا يمكن رفض ممارسات تعبيرية لمجموعة من الناس لمجرد أننا نختلف في القناعات الفكرية معهم، بل على العكس، إنما جاء مفهوم المجتمع المدني من أجل هذه الاختلافات داخل المجتمع الواحد، وسيكون استيعاب المجتمع المدني لظاهرة مجموعة من الناس تبدي رأيها امتعاضا من نشاط ما هو أمر واجب.

الإشكال والنقد على مثل هذه التصرفات هو أنه رافقها ممارسات تخالف حق التعبير، وهي العنف والعنف المقابل، فمجموعة من الشباب يختلفون مع نشاط ما، لهم حقهم في التعبير وتسخير طاقتهم من أجل ذلك، بشرط ألا يتجاوز الأمر إلى تعديهم على حقوق الآخرين سواء بالضرب أو اقتحام الحيز الخاص أو مصادرة الممتلكات الخاصة… إلخ. والعنف أيضًا الممارس من قبل أجهزة الدولة في مصادرة حق هؤلاء الناس في التعبير عن آرائهم بالضرب أو الاعتقال أو المحاكمات غير العادلة… إلخ.

سيبدو الحديث غريبا هنا ونحن نتحدث عن مجتمع مدني في دولة تسلطية، وهذا بالفعل مثير للاستغراب، والحديث كله هنا عما يجب أن يكون عليه الوضع الذي يستوعب جميع أفراد المجتمع دون امتيازات لشريحة أو انتقاص لأخرى. الرسالة التي يجب أن تصل للمحتسب اليوم هو في كيفية الوصول إلى بناء مؤسسات مجتمع مدني مستقلة عن السلطة السياسية، والاستقلال لا يعني أنها خارج مؤسسات الدولة، بل يعني أنها خارج إدارة الحكومة، فالدولة هي الإطار الأكبر وهي الثابت، على الحين الحكومة هي سلطة تنفيذية يجب أن تكن متغيرة. والحكومة اليوم متغلغلة في كل شيء، وأهمية وجود مؤسسات مجتمع مدني يعني إيجاد مجتمع قائم ومستقل بذاته في مجالات الاقتصاد والتعليم والتربية والإعلام… إلخ.

هل سيعي المحتسب اليوم أن الطريق نحو التعبير عن حقه هو طريق الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني؟ الطريق هو أن يكون هناك مواطنة بين الجميع تكفل حقوق الجميع بالتساوي، بما في ذلك حقه الشرعي الذي يُنتهك بالاعتقال والإيقاف والتضييق. هذا المفهوم المهم الذي يجب أن يسعى إليه المحتسب لكي يكون جهده متواصلا آمنا لا يخشى فيه على مشروعه من الانتهاك.

في هذا المشهد الحالي سيبدو أكبر مستفيد من معارك جانبية هو السلطة السياسية، وبحاجة لمن يرفع الراية مناديا للاجتماع على البيان الذي وقعه آلاف من الناس، والذي يعبر عن تطلعاتنا نحو الحرية والديمقراطية، آن الأوان للتنادي والاجتماع على وثيقة “دولة الحقوق والمؤسسات”، التي تضمن حقنا جميعا بصفتنا مواطنين في التغيير والتعبير والتجمع، والانطلاق نحو الإصلاح.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق