صيرورة المفاهيم: كيف غيّر الربيع العربي بعضًا من مفاهيمنا؟

الكاتب:

20 نوفمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

تقول وزيرة الخارجية الأمريكية أن الربيع العربي, المندلع بضراوة منذ بدايات هذه السنة, اكتسح كل المفاهيم القائمة في المنطقة. ربما تقصد الوزيرة أن حدثًا تاريخيًا مثل الربيع العربي يضغط على الإطارات المفاهيمية المستخدمة قبلا لمقاربة هذا الوضع أو ذاك. لكن, هل للمفاهيم صيرورة؟ وهل يمكن لمفهوم ما أن تجعل منه التغيرات نقيضا كاملا لما كان يعنيه من قبل. حين أدلت الوزيرة بتصريحاتها كنت أتأمل التغيير العميق الذي أحدثه ذلك الربيع في أجهزتنا المفاهيمية. فتأثيراته, أي الربيع العربي, لم تقتصر على طبيعة الدولة العربية ومكانة العرب في مجرى الفعل البشري فحسب بل طالت حتى الطريقة التي نقارب من خلالها الواقع حولنا. لنأخذ بعض المفاهيم في عالم السياسة كمثال. إن كلمات من قبيل الغرب والاستعمار والامبريالية والنضال الوطني والمركز والأطراف وغيرها تشكل أدواتً مفاهيمية لمقاربة الواقع السياسي العالمي وفهمه بالنسبة لأغلبية الفئات المثقفة العربية, باعتبار أن لهذه الفئات محددات سوسيولوجية متشابهه لجهة انبثاقها من مجتمعات عربية, مسلمة, عالمثالثية بكل ما تحمله كل صفة من تلك الصفات الثلاث من دلائل ومعانٍ في عالم ما بعد الحرب الكونية الثانية وحتى اليوم. يمكن ملاحظة صوت سائد في الخطاب الثقافي العربي في عالم ما بعد الحرب الكونية الثانية ضد الاستعمار والامبريالية وهيمنة المركز ومؤيد للنضال الوطني ومتعاطف مع توق الأطراف لتحطيم قيود المراكز وهيمنتها. ما كتب في الجملة السابقة يرسم إطارا مفاهيميا يتم من خلاله فهم الكثير من القضايا في العالم المعاصر.  لقد مثلت كل من الهند في الأربعينات ومصر في الخمسينات وكوبا والجزائر في الستينيات وطائفة من دول أمريكا اللاتينية في السبعينيات وجنوب أفريقيا في الثمانينيات (دائما من القرن العشرين) أيقونات للإطار المفاهيمي أعلاه. كان ذلك كله جزء من عالم مفاهيمي متكامل وناجز وفعال, بالنسبة لإنسان العالم الثالث عموما, اكتمل تشكله  في ما بعد الحرب الكونية الثانية والمعادلة بسيطة: ثمة قوى شرسة وظالمة (عادة غربية: أوربية أولا ثم أمريكية/أوربية لاحقا) تريد أن تسيطر على أمم مغلوبة (أفريقية وأسيوية وأمريكية لاتينية). لذا, كان يسهل ذهنيا هضم كثير من الحالات المشابهة بمقاربتها عبر الإطار المفاهيمي أعلاه.  للحق, كانت هناك حالات تمثل مشكلا بشكل ما للخطاب الثقافي العربي. أعني تحديدا القضايا التي يكون الاتحاد السوفيتي طرفا فيها, مثل احتلال أفغانستان أو اجتياح براغ. فلم تكن المسطرة أعلاه ناجعة في قياس مشكل كهذا. لكن في كل الأحوال, حين ينشب اختلاف وجهات نظر جيو سياسي بين طائفة من الدول الغربية (مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا مثلا) من ناحية ودول ليست غربية (مثل الهند وجنوب أفريقيا وفنزويلا وكوبا ونيكاراجوا) من ناحية أخرى, فإنه يسهل توقع أين كان سيقف المثقف العربي بشكل خاص أو الإنسان العربي بشكل عام.  كلاسيكيا, كان سيقف مع الفريق الثاني. هكذا ثبتت المسألة لعقود خلت. لكن الربيع العربي اجتاح المفاهيم السابقة, بلغة الوزيرة كلينتون, وقلب الطريقة التي نفهم بها العالم. لنأخذ مثالا.

تصلح المسألتين الليبية والسورية وطريقة تداول ملفاتهما دوليا وفي مجلس الأمن نموذجا ممتازا. ففيما يخص سوريا, دعمت الدول الغربية (أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) مشروعا في مجلس الأمن يدين ممارسات الحكومة السورية بحق مواطنيها المنتفضين ضدها. والدول غير الغربية في المجلس وغير ذات الوزن المصلحي الكبير والممتد في أرجاء العالم, أي روسيا والصين, ( أقصد دول الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا) امتنعت عن التصويت. بل وحاولت تلك الدول وعلى مدى أسابيع تعطيل مشاريع القوانين الغربية الرامية لاستصدار إدانة أممية لممارسات النظام السوري بحق شعبه.  يضاف إلى ذلك, أن التعليقات من مسؤولين حكوميين في دول تشكل أوجها بارزة لنضال العالم الثالث ضد الإمبريالية, مثل فنزويلا وكوبا ونيكاراجوا صبت جميعها في إدانة التحرك “الغربي” ضد سوريا الأسد.

من زاوية الدول التي هي إما عالمثالثية أو كانت إلى عهد قريب كتلك المذكورة أعلاه, فإن الأمر يندرج في سياق الحكائية القديمة: الإمبريالية تريد أن ترّكع نظاما عالمثالثيا مقاوما ليس إلا. يقول الرئيس الفنزويلي تشافيز, وهو من هو في مقارعة أمريكا: “سورية ضحية هجوم فاشي”. كما يقول: “نبعث تضامننا للشعب السوري وللرئيس بشار، إنهم يقاومون اعتداء إمبرياليا، وهجمات إمبراطورية اليانكي وحلفائها الأوروبيين”. رئيس نيكارجوا, الممتلئ بأوسمة الصراع مع أمريكا, صرح حول المسألة الليبية قائلا: “قنابل حلف شمال الأطلسي تدمر الوطن (الليبي) وتحاول قتل الزعيم الشرعي لهذه الأمة,  الأخ الحبيب معمر القذافي… إنهم في ليبيا, والقادم هو سوريا”. أما فيديل كاسترو, أحد قديسي مقاومة الإمبريالية, فقد ندد في مقالات صحفية بهجوم أمريكا والناتو المحتمل على سوريا. ولقد تناغمت مواقف كل من البرازيل والهند وجنوب أفريقيا, الأعضاء في مجلس الأمن, لجهة النظر بريبة لنوايا الغرب تجاه دولة عالمثالثية, هي سوريا. إنها نظرة غلبت حسابات الجيوسياسة على المسألة الإنسانية فتلبّسها الحيطة والحذر بل والرفض والإدانة لأي نقد لممارسات أنظمة طغيانية بكل المقاييس بحق شعوبها الرازحة تحت جبروت لا يرحم.

من زاوية الغرب: المسألة تتعلق بعنف غير مقبول يمارسه نظام ضد متظاهرين مسالمين ضاقوا بالظلم ويتوقون للحرية. أو هكذا يقول الخطاب المعلن. في هذه الحالة, ينحى الخطاب الثقافي العربي, والمزاج الشعبي بشكل عام, إلى التحلل بشكل كامل من الإطار المفاهيمي السائد سابقا ليتماهى مع رؤية “الغرب”. الرؤية  الكلاسيكية لخطاب معاداة الإمبريالية ليست, في هذا الإطار, إلا معوّقا للتطلعات المشروعة لأناس ذاقوا أشر أنواع القمع والإذلال والظلم لعقود من الزمن. قمع وظلم وإذلال يصوره الشاعر العربي ببلاغة فيقول :”شربتُ نقيع الأحذية”.

وفق هذا المنظور, تصبح فرنسا وبريطانيا وأمريكا أدوات لإحلال الفجر الجديد, للانتقال لنظام أكثر عدالة وأقل بشاعة. في ذات الوقت وحسب نفس وجهة النظر أعلاه, تحل أيقونات النضال ضد الإمبريالية, كوبا ونيكاراجوا وفنزويلا وجنوب إفريقيا والهند, لتحتل مكانة المعطل والمانع لتطلعات مشروعة لشعوب منكوبة بالقهر نحو غد أكثر عدلا.

الربيع العربي يبين كم هي عنيفة, أحيانا, صيرورة المفاهيم كما يطرح أسئلة حادة حول “خطاب مناهضة الإمبريالية”: هل هو مختطف أم مراوغ أم مطية سهلة لطغاة شرسين؟

عبدالسلام الوايل

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق