اللغة والشعر داخل الثورة التونسيّة

الكاتب:

21 مايو, 2012 لاتوجد تعليقات

تأتي المواقف الصعبة والحاسمة في تاريخ الأمم دليلا على العلائق العميقة بين الشعوب ولغاتها أصلا يرتدون إليه كلما آلت أنفسهم إلى الإحساس بالضياع. فاللغة –بوصفها أداة حيادية- دائمًا ما تشكل نسيج المجتمعات وطريقة تفكيرها نحو مستقبلها؛ حيث يتم حضورها من الماضي ساحبةً معها تاريخا طويلا لطالما تاقت إليه المجتمعات البسيطة وشحنت نفسها بالطاقات العاطفية الموجهة لذلك التاريخ, حيث الرغبة في الارتداد إليه وملامسته؛ محاولةً لمعانقته أو على الأقل الالتذاذ برؤيته. وها هو بيت الشابي الشهير ” إذا الشعب يوما أراد الحياة, فلابد أن يستجيب القدر” يحضر ويرتد من أعماق الماضي ليمثُل على أفواه المحتجين في تونس والعالم العربي أجمع أشهر الشعارات التي منحت تلك الشعوب القوة لتعبر عما يتعلج في دواخلها من رغبة حقيقة في إثبات ذاتهم لنشر العدل ودحض كل المسالك التي تؤدي إلى استعباد البشرية. والسؤال المطروح هنا هو ما الذي حدى بأولئك البسطاء العامة أن يمتطوا الفصحى شعارا للاحتجاج؟ لماذا كانت الفصحى هي اللغة الواضحة داخل الثورة التونسية خاصةً والثورات العربية عامة على الرغم من أنها غالبا ما تكون محتكرة في المؤسسات التعليمية وعلى ألسنة العلماء والمثقفين وبعض الصحفيين؟ لماذا حضر الشعر؟ هل حضور بيت الشابي يستدعي بالضرورة حضور الشابي شاعرا تونسيا غنى للثورة والحرية؟ بل هل البيت الشهير- عندما استخدم داخل الثورة-  يصنف ضمن دائرة الشعر؟ هل كان الإنسان التونسي البسيط, الذي قد يتحدث الفرنسية بشكل أفضل من العربية, واعيًا بالشعر وهو يستحضره إبان ثورته؟ أم أن الحضور هنا مختلف وبعيد عن الشعر؟

يتحدث فيش مان (Joshua Fishman( في كتابه اللغة والقوميّة عن أن الشعوب عامةً لديها نزعة نحو لغاتها الأصل؛ بصفتها أداة أو قنطرة تربطهم بالزمن القديم الأسطوري الذي تشكلت فيها ثقافات تلك الشعوب وأصبحت ثقافات تاريخية عريقة وعظيمة, ويركز بشكل خاص على أن العربيّ بشكل خاص لديه أواصر عميقة لغوية ودينية وأيضا نسبيّة مع أجداده وأصوله.

لم يكن غريبا أن نشاهد هذه الرغبة إزاء الفصحى لغةً للتعبير بين أوساط البسطاء من المحتجين كونها تجسد رباطًا رمزيًّا دالا على لغة الأجداد, وأنا هنا أتحدث عن تونس؛ لأن الشعارات التي ابتدعها التونسيون ظلت هي هي نفس الشعارات التي تجوب أوطان العالم العربي. ” ثورة الياسمين” و ” الشعب يريد إسقاط النظام” و ” إذا الشعب يوما أراد الحياة ” وغيرها من الترديدات الجماهيرية الشهيرة التي استخرجت من صُلب الفصحى؛ أي أنها لم تكن عامية الصيغة بالرغم من أن مخترعيها لم يكونوا من النخب المثقفة ولا الأدباء بل كانوا بسطاء – كما ذكرت مسبقا – وقد يتقنون اللغات الأخرى بشكل أفضل من العربية.

الشعب التونسي – في علم اللغة الاجتماعي  -يصنف على أنه من الشعوب التي تتكلم أكثر من لغة  (Multilingual ) فالعربية هي الأصل والفرنسية هي الداخلة من جراء الاستعمار الفرنسي والإنجليزية هي الثالثة, وفي العقود الماضية الأخيرة حصل صهر ونسب بين المتحدثين بهذه اللغات الثلاث فأنتجت بعد ذلك شعبا يمتلك رؤى وهُويات مختلفة ومتعددة فتجد على سبيل المثال أن الأب يتحدث الفرنسية والأم تتحدث العربية والأبناء هم خليط بين العربية والفرنسية. والأمر نفسه يحصل للناطقين بالعربية والإنجليزية فهنالك إحصائية تقول بأن هنالك أكثر من مائة امرأة ناطقة للإنجليزية تصاهروا مع تونسيين وهم الآن يعيشون في تونس تلك الدولة اللتي لم يتجاوز شعبها سبعة الملايين نسمة ( كيث ويلترز). وبهذا يتضح لدينا بأن الشعب بالفعل يعاني من تعددية الهوية أو تشتتها – إن أردنا الإفصاح أكثر- لعل أكبر أسبابه هذا التمازج اللغوي بين هاته اللغات الثلاث مما يتسبب بفقدان الهوية الواحدة أو المتفردة.

وبناء عليه نستطيع القول بأن رعاية الشعارات الفصيحة داخل الثورة التونسية كان وراءَه هذه الرغبة في استحضار الماضي من خلال هذه القنطرة المجازية؛ فاللغة هي الأصل وهي المجد الأبدي الدائم وهي أيضا التاريخ وهي كما يقول عبد الوهاب المسيري ” وحدها القادرة على الإفصاح الكامل للواقع العربي, فهي لغة تمتد جذورها في الماضي وتمتد فروعها في المستقبل” ولهذا ذهب التونسي واستنطقها إبان الثورة ولم ينفصل عنها معرفيا وثقافيا بل حاول استرجاعها؛ ليفصح عن تلك المساحات المتعبة في نفسه, ليمنحها سربلا هو يظن أنه الأنسب لها, ووجها يظن بأنه الوجه المثالي, ولتحرضه على أن يتصور ماضيه من ثم يثور. “فالعربي يحبّ لغته الى درجة التقديس وهو يعد السلطة التي لها عليه تعبيرًا ليس فقط عن قوتها بل عن قوته” (الجابري)

 

السؤال الآخر هل استخدام بيت الشابي هنا هو استخدام مقصدي له أهدافه الشعرية بحيث إن التونسي وقت استدعائه لبيت الشابي كان واعيًا بالشابي بكونه شاعرا وبالبيت جزءا من الشعر؟

الكل يعرف تلك المقولة الشهيرة ” الشعر ديوان العرب” ولكنها ليست مجرد مقولة انطباعية مجازية رنانة بل إنها تعبر عن حالة حقيقة كان الشعر عنوانها في العصر الجاهلي فهو يشكل حياتهم وثقافتهم ومعرفتهم، كان الشعر وقتئذ كل شيء ومن خلاله  تكلم الجاهليون عن كل شيء رأوه وأحسوا به. يتحدث ابن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء عن أن الشعراء – في العصر الجاهلي – كانوا بمنزلة الأنبياء. الشعر لم يكن مجرد أداة جمالية بل كان بحق مصدرَ المعرفة الحقيقة للعرب الجاهليين وكتابهم المنطوق بل إنا نستطيع القول بأنه الشيء الوحيد الذي يربطهم بحياتهم.

مع ظهور بيت الشابي أيقونةً ثورية استثمرها الثوّارُ يجب علينا أن نعيد التساؤل عن فاعلية الشعر ومكانته لدى الشعوب العربية التي قال عنها الرسول – صلى الله عليه وسلم – : ” لن تدع العربُ الشعر حتى تدع الأبلُ الحنينَ” إذن, هل كانت الدهماء في حثيث سعيها نحو حريتها تستدعي الشعر أداةً ثقافية مهمّة – كما كان يفعل العربي القديم-  وتحوله إلى أيقونة شعرية داخل الثورة وهي واعية تماما به؟

ثمة محاولات نقدية تحدثت عن ظهور الشعر داخل الثورات العربية, ولقد أقيم احتفال في تونس في اكتوبر الماضي 2011 كان الشابي أحد المحاور الأساسية فيه ( صحيفة إيلاف )، والآراء المطروحة كانت بعض الشيء رومانتيكية حالمة؛ فقد اُحتفيَ بالظهور الشعري متمثلا في أبيات الشابي حتى إن بعض النقاد أشاروا إلى أن الحضور الشعري داخل الثورة التونسية كان السبب الأول فيه هو إيمان الشبيبة بقوة الشعر داخل المواقف الحاسمة فعندما آمن الشباب بأن الشعر أداة قوية وعظيمة لإيقاظ المستضعفين والبسطاء للمطالبة بحقوقهم لجؤوا للشعر أداة حقيقة يستطيعون توظيفها للتعبير عن المطالب الشعبية. وأشار أحد النقاد إلى أنه بما أن الشابي هو شاعر الحرية والثورة كان من الطبيعي أن يحضر وتُسلتهم أبياته كونها تصبّ في مصلحة الثوار وللثورة كتبت وستظل. فالآراء هنا تدور حول الشعر وتؤمن بأن ثمة حضور للشعر وعاه الثوار واستمثروه داخل ثورتهم.

عندما نحاول استقراء هذه الظاهرة التي اُستدعيَ بيت الشابي فيها ليُعبَّر من خلاله عن المطالب الجماهيرية  سنجد بأن لم يكن ثمة استدعاءٌ مقصديٌّ بل إنه على العكس كان بيت الشابي لا يشكل سوى مثال كغيره من الأمثلة الفصيحة التي استخدمها العامة.  

يعبّر بيت الشابي عن رؤية إنسانية تحرض الشعوب على دق باب القدر إن أرادت الحياة والحياة هنا معناها الحرية والعيش بسلام. كان الشابي يحثّ الشعوب للنهوض ضد الظلم  في محاولة لمعالجة أحداث وقعت في زمنه حيث الاستعمارُ والتقهقر الحضاري للعرب والفقر والجوع… إلخ

عندما ننظر إلى بيت الشابي نظرة شمولية بانورامية سنجد أن هذا البيت بتشكيلته المعرفية يعالج حالة إنسانية معينة في زمن معين لكنه أصبح مثلا يتردد على أفواه الناس عبر الأزمان حيث إن العامي والمثقف يستدعي هذا البيت ليعبر فيها عن حالة إنسانية تماما كما تفعل الأمثال والحكم العربية فعندما نتغنى ببيت المتنبي على سبيل المثال :

إذا غامرت في شرف مروم ** فلا تقنع بما دون النجومِ

نحن في هذه الحالة لا نستحضر الشعر بوصفه حالةً جمالية نتلذذ بها ونتأملها تأملًا عميقًا وندرسها كما لو كنا ندرس أنشودة المطر للسياب بل على العكس نحن نستحضر مَثلًا إنسانيًّا سكّته التجربة الإنسانية عبر الأزمان وقس على ذلك بقية الأمثلة.

بيت الشابي لم يكن بعيدا عن هذا التعامل الإنساني مع أبيات الحكمة والتجربة الإنسانية ومن هنا نستطيع القول بأن بيت الشابي من حيث حضورُه في الثورة التونسية لم يكن سوى مثلٍ عربي فصيحٍ استخدمته العامه بصفته أداة تنتمي إلى دائرة اللغة العربية الفصحى التي تشكل الفعل الأسمى الذي مورس داخل الثورة محاولةً لاستعادة الهُوية المفقودة من خلال اللجوء إلى الماضي فكانت الفصحى رباطا ثقافيا مؤديًّا له. 

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق