القصيبي ضد المتنبي: تفنيدًا لمسارات التسول!

الكاتب:

31 يوليو, 2012 لاتوجد تعليقات

في كتابه (عن قبيلتي أحدثكم) تجرأ الأديب الراحل والمسؤول الكبير غازي القصيبي على رمي المتنبي بصفة التسول، أي العمل أجيرا والتكسب بالشعر. وجاء ذلك في فصل أسماه (الشعراء/ الأجراء) حاول فيه غازي البرهنة على كون المتنبي شحاذا في بلاط الخلفاء والأمراء بجانب كونه شاعرا. والمعروف أن شعر المتنبي لم يكن كله بهذه الخانة الرديئة، فقد أجمع كثير من النقاد على عبقرية المتنبي الشعرية وتدفق معانيه الفكرية والفلسفية حد أن المفكر المعروف عباس العقاد عقد الصلة بين عملاق الفكر الغربي الحديث (نيتشه) وشعر المتنبي، وقال إن نتاج الرجلين يصدر عن خلفية واحدة وهي تمجيد القوة وأخلاق النبلاء. لكن هذه المزية للمتنبي لا تخلو من سلبية الشحاذة في بعض المواطن. وهو ما يعني امتزاج النبل والموهبة مع التسول بنفس الوقت.

ولنترك جانبا هذا العراك الأدبي ونلج قليلا في الجانب الاجتماعي والمحلي وندقق بأبعاد الشحاذة التي ضايقت غازي القصيبي في كتابه المذكور، ونحاول مقارنة سلوك المتنبي الموثق في شعره مع السلوكيات الأخرى الأقل توثيقا ودراسة في المجتمع لكن الأكثر ممارسة وبروزا. فلم يكن غريبا على الشعراء المحليين تبني” الشحاذة ” مع قرض الشعر بنفس الوقت، وتضمنت كثير من أبياتهم مثل هذا النوع من تسول الأموال والأعطيات في بلاط كبراء القوم، ولا داعي لذكر النماذج الحية والواقعية، ليس بغرض التحرج من ذكر الأمثلة فلست أظن أن فاعلي هذه الفعلة تنقصهم المجاهرة ويعوزون التشهير، ولكن لكثرة الشواهد ولصعوبة احتمال ما تضمنته من إسفاف وهدر للكرامة البشرية طمعا بحفنة من الدراهم، وهو الأمر الذي برره بعضهم بأنها عادة تراثية ورثوها منذ أيام الجاهلية، كأن كل ما جاءنا من الماضي يستحق التوريث، وكأننا نحتاج أيضا لتشريع الوأد والربا والعصبيات القبلية وعبادة الأصنام من جديد.

مثل هذه الممارسة التسولية لا تختص بمجال الشعر بل تحولت لممارسات ضمنية مبطنة، فتوجد شحاذة للإجازات أو لمقعد جامعي أو سرير في مستشفى أو تذاكر مجانية للابتعاد عن الحر والقيظ.

والشحاذة بوصفها سلوكًا بشريًّا ارتبطت بالكسل والتقاعس عن العمل والإنتاجية، لما في العمل من ثقل على النفس وتبديد للوقت وإملال للنفس المتواكلة، ولتجنب ذلك فإن أقصر الطرق ترتبط بالشحاذة وطلب المال أو القوة أو النفوذ من الآخرين: وهي تختلف عن المساعدة الطبيعية، كطلب الاقتراض والعون بنية السداد أو العمل المؤجل لإعادة ما اُقْتُرِض أو اُستُعير. فالجميع يحتاجون للمساعدة مهما بلغوا من قوة واستغناء، لكن هذا لا يعني أنهم شحاذون.

غير أن الظواهر ” التسولية ” لا يمكن لها أن تتخذ طابعا جمعيا بشكل عفوي، فقد يحدث هذا للأفراد لا للجماعات، وحينما تنتشر اجتماعيا عن طريق النماذج المذكورة آنفا فإن السبب هو اختلال البنية الإنتاجية للمجتمع: فالريع المباشر الذي يصل الجميع من خلال استهلاك سلعة ناضبة ( النفط في حالتنا المحلية بل العربية) يشعر الجميع بقرب انتهاء المورد الأساسي أو خطورة الوضع وما سيؤول إليه مستقبلا وعدم الشعور بالأمان الاقتصادي، مما يسرع نبضات قلب المتسول.

كانت جمهورية نورو تمتلك قصة مشوقة، فهي تعتمد على ريع محدود يتمثل بمخلفات الطيور التي بيعت أسمدة منذ 1907 م. وما إن نضبت حتى سقطت الجمهورية بشباك غسيل الأموال مصدرا آخر لدخل الدولة. فسرحت نورو موظفيها وأفلس الشعب وأصيب كل أبناء الجمهورية بالبطالة. مما يعني أن الجريمة أو التدهور الأخلاقي ترتبط بالخط الاقتصادي، وأن ذيوع السلوكيات المضطربة بشكل يتجاوز الحالات الفردية مرده بالأساس للفكر الاقتصادي المهيمن: وهنا لا يحضر الاقتصاد بوصفه عملية رقمية وحسابية سريعة وساذجة تفكر بالأرباح والعوائد فقط، بل هو عملية اجتماعية معقدة ومركبة لها أبعادها الفكرية والثقافية.

 ونجد أن التسول بكونه كسبا سريعا من خلال سكب ماء الوجه كله يرتبط بسرعة الربح وفوريته دون أي عناء يذكر، وغالبا ما يكون المقابل سهلا من الناحية الإجرائية والسلوكية (مثل كيل المديح ودبج الثناء، أو التزويج والمصاهرة، أو تقديم خدمات سريعة من أي نوع) وهي ممارسات تشيع وتنتشر بالرغم من فداحتها الوجدانية وانعكاساتها المدمرة على الشخصية.

ولئن كانت هذه الآثار المدمرة مدانة أخلاقيا ودينيا إلا أنها دخلت في ضرورات الواقع المعاش وباتت جزءا من نمطيات الحياة السريعة والمفاجئة: حيث يختفي التأمل والنقد والتساؤل ويكثر طلب المال، وهنا لا يكون هذا اللهاث مصاحبا للطموح بل للطمع، ولا يعني المكافأة المجزية بناء على المجهود المبذول بل يرسخ المزاجية والتعنصر واختلاس جهود الآخرين، ولا يتوازى مع الانتاج بل الاسترخاء وانتظار المعجزة المفاجئة تهبط من السماء، وهو ما يوحي بالتفكير السريع بالحاضر المحايث على حساب المستقبل ( المغتال مسبقا ). فيما لو كانت هذه القنوات ” التسولية ” مستبدلا بها قنوات إنتاجية فإنها لن تنشر الرخاء المادي وحده، بل ستوطد ما هو أهم من ذلك بكثير: وهو الإنسان المتماسك، الصلب، الذي يقاوم واقعه الرديء بخيال مختلف وفكر مغاير.

 خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن طريف السليطي

كاتب في جريدة المدينة باحث في الفكر والفلسفة
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق