كيف نقرأ الأدب

الكاتب:

23 فبراير, 2012 لاتوجد تعليقات

– مقدمة 
عالم اللغة الأدبية مغاير تماما لعوالم لغة المقال والتقرير، والقارئ الذي يريد السير على أرصفة العالم الأدبي ويسر نظره برؤية بساتينه وقطف ثمار الجمال من أشجاره المورقة, عليه أن يعد عدته لخوض هذه المغامرة التي -ربما- هي أمتع مغامرة خاضها الإنسان، وأن لا يدخل إلى هذا العالم بنفس الخرائط التي يدخل بها إلى لغة المقال والتقرير؛ فإن الشمال لن يكون دائما في الأعلى على خريطة اللغة الأدبية، والجنوب لن يكون الأسفل بالضرورة, إن الأدوات التي يستخرج بها المعنى في اللغة الأدبية يجب أن تكون أشد عمقا وأكثر رقة لكي تصل إلى المعنى الجمالي دون إزهاق روحه لحظة استخراجه، على غير ما يمكن له فعله مع اللغة التقريرية والمقالية.

وهذه المسألة شكلت هاجسا لدى وعي العالم العربي في الأربعينيات والخمسينيات ورغم أنها انتهت بانتصار أنصار “المجاز والكناية”، ويدل عليه أن خصوم المرشح السلفي عبد المنعم الشحات ظلوا يسألونه بخبث سياسي عن رأيه في نجيب محفوظ ووقع في الفخ وقال بأنه يراه زنديقا كافرا، فسقط سقوطا مدويا في الانتخابات التشريعية بعد فوزه في المرحلة الأولى، وحتى كثير من الإسلاميين  تخلوا عنه ومنهم فهمي هويدي، وأتذكر أنني حينما كنت في المرحلة الثانوية فقد كنت –وما زلت- مفتونا بسـِحْر غازي القصيبي -رحمه الله-، وكان أحد أساتذتي الكرام الذي أقر بدماثة خلقه وأسلوبه لفت نظرَهُ أني أجلب معي رواية شقة الحرية فأخذ يحدثني عن خطر الأدب وما يسمى بتيار الحداثة، وثم أعارني كتاب سعيد الغامدي ((الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها ))، وكان الكتاب بالنسبة لي كوميديا سوداء طويلة لا تختلف عن فيلم ستانلي كيوبريك “دكتور سترانجلوف” فالكاتب كان يـُشرِّح النص الأدبي كما يـُشرَّح المقال السياسي واستطاع الكاتب أن يتقمص دور رجل المباحث العربي بإتقان شديد فكان يمسك بتلابيب النص الأدبي ويفرغ جيوبه ويقوم بعملية تفتيش ذاتية خطيرة ويلكمه ويرفسه إن لزم الأمر ويحمل ألفاظه على أسوء محاملها ودلالاتها، ولذلك لم أكن متفاجئا حينما قرر سعيد الغامدي إخراج مسدسه وأفرغ رصاصاته على النص الأدبي وسحل الجثة ثم صلبها على مدخل قرية الوعي السعودي لكي يحذر منه المجتمع ويخاف الأدباء من مصير نصوصهم المحتمل.

وعودا لقصة أستاذي الذي أعارني هذا الكتاب حينما أرجعت له الكتاب وكتبت بعض الملاحظات على الكتاب وسألته: هل قرأت روايات غازي القصيبي؟ مط شفتيه وقال: قرأت بعض المقاطع منها. ثم ابتسم مبررا موقفه: ((قراءة “قصة” – قالها بلهجة عامية- من ثلاثمائة صفحة مضيعة للوقت !)) فاستنتجت أن هنالك من يرى قراءة للكتاب مضيعة وقت لكن الحديث عنهم ليس مضيعة للوقت واحتفظت بهذا الاستنتاج لنفسي، لا تنظر إلي هكذا فقد كنت في آخر سنة ثانوية ولم أكن أريد المخاطرة بالمعدل.

ولابد هنا من التذكير بأن مكانة الدارس الأكاديمية لا تخوله بمعرفة الأدب وسبر غوره ومعرفة دلالاته فمع أن حق التذوق الأدبي متاح للجميع وليس عليه وصاية ولكن “الحكم” على النص الأدبي يجب أن يكون ممن  يملكون أدوات المنهج السوسيوثقافي والسيمائي ومتمكنا منهما وأذكر هنا أن هنالك دعوى رفعت في مصر ضد أحد الأدباء المصريين، فطلب القاضي استشارة دكتورين من كلية الآداب والفلسفة فهذا القاضي رغم أنه ملم قطعا بالأحكام الفقهية لكنه كان يرى نفسه غير مؤهل “للحكم على النص الأدبي “، وهذا ليس عيبا وليس ناتجا عن قصور في الذكاء فإن أينشتاين العالم الذي شطر الذرة ومبتكر النظرية النسبية ويعده البعض أعظم عالم فيزياء منذ بداية التاريخ الإنساني هذا العقل الفذ لم يستطع إكمال رواية “المسخ” لكافكا ورآها معقدة جدا ولا يمكن تحليل رموزها .

 

– ليكن قاموسك مختلفًا:
إن استيلاد الجمال هو ما يصبو إليه الأديب عندما يُلاقح بين خياله ولغته وموضوعه فالمعنى الجمالي يولد من رحم هذه الثلاثة وقد يكون مولودا ساحرا فاتنا وقد يكون ضعيفا متهالكا وتكون رئتاه مثقوبة ولا تستطيع تنفس الجمال, إذا المهم لدى الأديب هو نسج الجمال على خلاف الكاتب المقالي والتقريري الذي هدفه تبيين فكرته وبذل كل جهوده لتبسيط موضوعه ليستوعبه أكبر عدد من الناس، ولكن الأديب مختلف هو ينشد الجمال أولا وآخرا ومنتصفا وأحيانا يكون الجمال أسمى إذا حُجب بعضه أو اختفى وراء حجاب كما هي الشمس يكون شعاعها محفزا للدهشة إذا كانت تختبئ خلف سحابة وهذا بعينه ما يجتهد لفعله الأديب, القاموس الذي تعودت أن تتعامل معه في لغة المقال والتقرير سيكون مختلفا جدا في اللغة الأدبية فعبارة : “الليل طويل” حينما توجد في إطار لغة المقال تختلف عنها حينما توضع في إطار اللغة الأدبية ولن يكون لهما من التشابه حينها إلا فقط في اللفظ وعدد الحروف، ففي لغة المقال الليل طويل بمعنى أن ساعاته طويلة، ولكن في اللغة الأدبية سيختلف باختلاف الكاتب والسياق فقد يكون الليل رمزا للمصاعب والوحدة والظلام والتخلف والأخطار… وغيرها.

وهنا أذكر قصة حدثت لأحد أقاربي، وقد كان يصاحب شيخًا فاضلا ومشهورا مع عدة تلاميذ آخرين، وكانوا يلعبون لعبة “المساجلة” ومفادها أن كل شخص يأتي ببيت شعري ومن بعده يأتي ببيت يبدأ بنفس الحرف الذي انتهى إليه من سبقه، وحينما وصل الدور إلى قريبي قال بيت إيليا أبوماضي الشهير الذي يدرس في المدارس :

كم تشتكي وتقول أنك معدمُ .. والأرض ملكك والسماء والأنجمُ

وحينما سمع الشيخ هذا البيت لم يكن ليفوت على نفسه متعة ممارسة الوصاية وتقديم النصائح فقال: يا بني هذا لا يجوز؛ كيف تكون الأرض والسماء ملكًا للإنسان ألم تقرأ قوله تعالى ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًاالَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))  فكيف تنازعه في ملكه ثم سأل أين قرأت هذا البيت؟ فقال قريبي: ندرسه في المدرسة فقال الشيخ: يجب أن ينبهوا.

وما زال هذا القريب في مجالسنا حتى اليوم يردد قصته مع الشيخ هذه وما زال يعتقد أن البيت يحمل مخالفات عقدية وكان يلوم المدارس لأنها تعلمهم أشياء كفرية!

طبعا هذه النتيجة أتت لذهن الشيخ الفاضل، لأنه استخدم لفظ الملك كما هو في الفقه فالتملك يقتضي في الفقه حق التصرف, ولكنه في البيت –قطعا- لا يعني ذلك فإيليا أبوماضي لم يخطر في باله أبدا أن الشخص المخاطب مثلا لديه صك شرعي من المحكمة بملك السماء والأنجم وأن الناس ما لو صعدوا إلى القمر عليهم أن يشتروا الأراضي منه، كان القصد بالملك هنا هو حق التأمل وحق التدبر, وأن السماء والأرض والأنجم والأزهار والبلبل والحقول كلها مسخرة للإنسان وهذا الفهم الوحيد الذي يستقيم في العقل الذي لا يتعمد إساءة الظن مع سبق إصرار وترصد، فكما قلت القاموس “الأدبي” الذي نقرأ به الأدب مختلف عن القاموس الذي نقرأ به علوم العقيدة والفقه والفيزياء والمنطق، إنه قاموس يتسع للمعاني التي تنشد الجمال وتقريب الصورة الجمالية بالمبالغة في الوصف.

ويجب ألا يؤخذ الأدب بحرفية وأن نصادر المجال الرحب الذي تعطيه اللغة للأديب ولو فعلنا ذلك وأخذنا الألفاظ بحرفيتها  للزم من ذلك تكفير المتنبي الذي قال :

أي محل ارتقي …أي عظيم اتقي
وكل ما قد خلق الله ..  وما لم يخلقِ
محتقر في همتي .. كشعرة في مفرقي

 فهذه الثلاثة أبيات تدل على أن كل ما قد خلقه الله وما لم يخلقه محتقر في همة المتنبي, تخيلوا لو أن أحدا أخذ يحقق معه: الجنة من مخلوقات الله وأنت تقول كل ما خلقه الله محتقرة في همتك فإذن الجنة محتقرة في همتك؟ طبعا لا حاجة لذكر أن المتنبي كان يبالغ ليس لأنه فقط في حياته كما نعرفها جيدا كان شرها للإمارة وركض إليها برجليه ويديه ولسانه لا ليس لذلك بل لأن الشعراء من عادتهم المبالغة في الفخر والمدح والغزل والشتم ولا يقصدون بها حقيقة ألفاظهم.

ومثل ذلك بيت زهير الرائع:
تعود بسط الكف حتى لو أنه .. ثناها لقبضٍ لم تطعه أناملهْ
ولو لم يكن في كفه غير روحه.. لجاد بها، فليتق الله سائلهْ

وذلك حقٌّ كفلته لهم اللغة وجعلت أصل ما يقولونه هو الخيال فضلا عن القرآن الذي وصفهم  الله سبحانه ((ويقولون ما لا يفعلون)) وهذه آية صريحة في أن أقوالهم ليست نتيجة لأفعالهم بل نتيجة لخيالهم ويقاس عليهم بقية الأدباء إذ إن الشعر غصن واحد في شجرة الأدب.

– التشبيه وحذف أركانه (الاستعارة):
اللغة بستان شاسع وأرض كريمة تنمو في تربتها مختلف الأشجار وألوان من الثمار والأديب يأخذ منها ما يشاء ليقدمها إلى قارئه وأحد أبرز هذه الأشجار التي ظلت راسخة منذ قيام اللغات هي شجرة “التشبيه” وما زالت تثمر عناقيدَ من الجمال والبهاء ما لا يدركه إلا من أبحر في محيطات اللغة, وتعريف التشبيه هو صفة الشيء بما قارنه أو شاكله من جهة ما، وله أربعة أركان: مشبه ومشبه به وأداة للتشبيه ووجه الشبه, ومثالها المشهور: رأيت رجلا كالأسد في فتكه.
فهنا المشبه هو الرجل والمشبه به هو الأسد وووجه الشبه هو “الفتك” وأداة التشبيه الكاف، حسنا دعونا نمارس الآن لعبة لغوية ممتعة لنحذف وجه الشبه: رأيت رجلا كالأسد؛ فهنا اتسع المعنى فربما كان مثل الأسد في فتكه أو ربما في قوة صوته وقد يكون مثل الأسد في جعل أنثاه هي من تأتي بالطعام والسياق هو ما يدل على المقصود إن كان مدحا أو ذما, ثم لنأتِ ونحذف أداة التشبيه “الكاف” فتكون رأيت رجلا أسدا؛ فهنا عمق المشابهة أكثر بكونه حذف أداة التشبيه التي تدل على الاختلاف فكأنه يقول لا اختلاف بين الأسد وبين هذا الرجل، وهذا أعطى تشبيهه تماسا كالذي كان يريده, ثم تعالوا لنحذف المشبه وهنا يخبرنا البلاغيون أننا انتقلنا إلى ضفة مصطلح “الاستعارة” فيقول: رأيت أسدا! فهنا المتكلم يضيق الهوة التي تفصل بين الرجل والأسد ويذكر أنهما واحد وطبعا ليسا كذلك، وإنما هو أسلوب لغوي يقصد به تقريب الصورة التي في ذهن المتحدث.

وهذا الأسلوب شائع في الشعر والأدب ولا تكاد تخلو قصيدة منه وأبرز مثال على ذلك هو قول أحمد شوقي في نهج البردة:
ريم على القاع بين البان والعلم .. أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

فهو هنا حذف المشبه “المرأة ” وأصل الكلام هو: امرأةٌ كالريم في حسنها على القاع بين …إلخ، طبعا لاحظتم الفرق الشاسع بين الجملتين التي بينتْ معنى البيت وبين الجملة الأصلية التي قالها شوقي، حسنا كل هذه المقدمة لأذكر لكم المثال القادم افتحوا نوافذ الخيال في عقولكم وتخيلوا معي أن شاعرا ما رأى جنازة لأشخاص في حمص وبدرت إلى ذهنه عبارة: رأيت جنازة أشخاص كالملائكة في طهرهم.
وطبعا لا حاجة إلى التذكير بأن المشبه به دوما أعلى من المشبه وإن حصل العكس سمي تشبيها “مقلوبا” وهو تشبيه من هو أكبر بمن هو أدنى، لكن هو هنا شبه طهر هؤلاء الأشخاص بطهر الملائكة وهو يعلم أن طهر الملائكة عليهم السلام أكمل وأكبر لذلك شبهه بهم, لنمارس اللعبة التي مارسناها سابقا ونحذف “وجه الشبه” فتكون الجملة “مشيت في جنازة أشخاص كالملائكة”؛ فلاحظوا هنا صار المعنى أشمل ويحتمل أكثر من معنى فقد يكون المقصود هو الطهر كما ذكرنا في السابق وقد يقول آخر بل وجه الشبه أن هؤلاء يشبهون الملائكة عليهم السلام في حراستهم للحق ومن المعروف أن هنالك ملائكة كانوا يحرسون النبي -صلى الله عليه وسلم- فهنا سيكون التشبيه أعم إذاً ستدل العبارة على أن هؤلاء الذين ماتوا كانوا “حراسا” وليسوا أي حراس بل كانوا حراسا على مدينة ليست فقط مدينة طيبة وطاهرة  بل هي مدينة تحمل رسالة إنسانية عالمية كما هو النبي صلى الله عليه وسلم.

ولنكمل اللعبة ولنحذف أداة التشبيه فستكون العبارة “مشيت في جنازة الأشخاص الملائكة ” فهنا الشاعر لم يفعل سوى ما فعله صاحبنا السابق في تشبيهه بالأسد بأن جعل الهوة تضيق ومن المعلوم أن كلا القائلين لم يقصدا تنافي أوجه الاختلاف بل قصدا تقريب أوجه الشبه, ولننتقل إلى ضفة الاستعارة ونحذف المشبه كما فعل شوقي في بيته السابق وتكون العبارة: “مشيت في جنازة الملائكة ”
فصاحب العبارة كل ما فعله أنه حذف المشبه لتضييق الهوة بين المشبه والمشبه به كما فعل من قال: رأيت أسدا، ولم يكن ليقصد أنه كان يمشي في جنازة للملائكة معاذ الله أن يكون قد ظن كذلك بل قصد ما بيننا.

وحينما كنت في أول سنوات الجامعية كنت أحمل إشكالية في فهم هذا التشبيه، وبالمناسبة لست أنا صاحبه وإنما هو إلى أحد الشعراء فجررت إشكاليتي اللغوية بقلة خبرة إلى  الدكتور الذي كان يدرسنا العقيدة فاستغرب من مجرد السؤال وقال: سبحان الله، سبحان الله! ثم  مسك ذراعي وجرني إليه وقال: ألملائكة ماتت؟ فقلت وجلا: لا. ودعيت الله من كل قلبي أن تكون هذه هي الإجابة التي يريدها, وأظنها كذلك  لأنه أطلقني واكتفى فقط بإعطائي “c” في مادته في نهاية الفصل، وبعدها تعلمت ألا أسأل الدكاترة والحمد لله أخذت بنفس المادة في الفصول الأخرى بين “a” و”+a“.

وعودا إلى المثل نقول الأسلوب الذي يجاز في اللغة لا ينبغي تحريمه شرعا؛ إذ إن ذلك تضييق على الكاتب ومحاصرة للغة الرحبة ولكن لتأكيد أن ذلك جائز شرعا بل قد ورد على لسان نبينا -صلى الله عليه وسلم- فنبين ذلك في المحور القادم.

– حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه:
وهذا الباب أيضا لا يقل عن سابقه في كثرة الاستعمال والورود وهو من المجاز فمن المعلوم أن المجاز عبارة شاسعة تطلق على كل لفظ استعمل في غير ما وُضع له, ومن المجاز حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وهذا قد ورد في القرآن فقال سبحانه ((واسأل القرية التي كنا فيها…)) والمقصود هو كما قال المفسرون سؤال “أهل ” إذ إن القرى لا تسأل ولا ينتظر منها إجابة, فهنا حُذف المضاف وهو “أهل” وأقيم المضاف إليه هو “القرية” مكانها، والقرية حكمها في النحو مفعول به لكن حكمها في المعنى مضاف إليه، ويقول ابن جني ((وأما أنا فعندي أن في القرآن مثل هذا الموضع نيفا على ألف موضع، وأنه من باب حذف المضاف لا غير…)) ومن حذف المضاف في العبارات الشائعة هي عبارة “رولات بارت” حينما أعلن “موت المؤلف” فرولان لم يقصد أن المؤلفين الجيدين انتهوا أو أن المؤلف حمل في جنازة ووارى في التراب، لا بل كان يقصد فيما يقصده “موت وصاية المؤلف” بمعنى أنه لم يعد المؤلف وصيا على معناه الذي قصده بل معناه مشاع للجميع يفهمونه كما أرادوا وليس هنالك معنى صحيح وآخر خاطئ، وهذا يدلك على أن حذف المضاف ليس فقط أسلوبا عربيا بل هو أسلوب لدى كل اللغات الحضارية, وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضتُ فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده)) سبحان الله وهل ربنا يمرض؟ حاشا وكلا، لكن المعنى كما يقول النووي في شرح الحديث ((قال العلماء: إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى، والمراد العبد تشريفا للعبد وتقريبا له)).
وإذا أردنا إعادة تركيب العبارة ونظهر المضاف المحذوف  فسنقول: يا بن آدم مرض عبدي فلم تعده… إلخ ثم حُذف المضاف وهو “عبد” وأقام المضاف إليه وهو الياء مكانه ثم حولت الياء إلى تاء فاعلٍ فصارت الجملة كما هي في الحديث, فإذن حُذِف المضاف وأُقيم المضاف إليه في لفظ الجلالة سبحانه فدل ذلك على جوازه شرعا كما جاز لغةً, وحينما ننتقل إلى العبارة التالية سنجد أنها أقوى دلالة من الأولى وهي قوله: ((لوجدتني عنده ) وكما قال النووي: لوجدت ثواب ذلك عندي, ولا يخطر ببالنا أن الله –سبحانه، جل وجلاله، وتعالت صفاته- وُجد بذاته عند العبد المريض!  بل المقصود هو تقريب العبد وتشريفه وتضييق الهوة بين العبد وبين ربه كما قلنا ذلك سابقا، وكما قال ابن القيم ((وذلك أبلغ من قوله: لوجدت ذلك عندي…)) إذن لم نفهم من الحديث أن الله سبحانه مرضَ مع نسبة المرض إليه وقدرنا مضافا ليستقيم المعنى, فلماذا بعد هذا الحديث نجد من يمنعنا من استخدام حقنا في اللغة وقد استخدمها الله سبحانه ويحرمنا من رحابة معانيها لأجل ظاهريته وقلة علمه باللغة وفنونها ولكي يجد متنفسا لعقده العميقة في إساءة الظن وممارسة قتل الأشياء الجميلة القليلة في هذه الحياة، وهذا الشخص لو سمع أديبا قال ((وعلامة العارف: أن يكون قلبه مرآة إذا نظر فيها الغيب الذي دعي إلى الإيمان به، فعلى قدر جلاء تلك المرآة يتراءى له فيها الله سبحانه…)) لرماه بالاتحاد أو أنه يعتقد بالحلول وما إلى ذلك من التهم الشنيعة، لكن عندما تقوله له قائل هذه العبارة هو ابن القيم رحمه الله يتراجع ويضغط مكابح لسانه! ولا يخطر ببالنا أن ابن القيم -رحمه الله- يقصد الاتحاد أو الحلول وإنما قدر مضافا هنا وهو أوامر الله ونواهيه وأسماؤه وصفاته جل جلاله, ومثل تلك العبارة عبارة نيتشه حينما أعلن ((موت الإله)) ومن المعلوم أن نيتشه كان ملحدا لم يؤمن بإله وهو بهذه العبارة كان يتحدث عن إله الأوربيين وهو لم يقصد أن الأوربيين دخلوا على آلهتهم -التي لا نؤمن بها- وحطموا تماثيلها الموجودة في الكنائس أو مزقوا صورها بل كان يقصد “موت مكانة الإله وتأثيره والخوف منه” ولا يستقيم المعنى على غير هذا المعنى فضلا أن يكون له معنى ظاهر ومعنى آخر باطن، فالذي ذكرته هو المعنى الظاهر, ومثل هذه العبارة عبارة (( أيها المؤمنون إنكم تقتلون الله…)) فما هو المعنى الباطن في هذه المقولة؟
لا يوجد معنا باطن في الحقيقة وإنما هو معنى واحد وهو أنكم أيها المؤمنون تقتلون قدسية- جمال, عظمة, مكانة، علو, دين- الله في قلوب عباده حينما تجيرون اسمه في معارككم الساذجة، ولعمر الله أنهم يسيئون إليه جلَّ جلاله يقللون الإيمان في قلوب عباده ويشوهون صورة دينه حينما يفعلون ذلك، ولاحظتم أننا عندما حذفنا المضاف شمل المعنى وعم أشياء كثيرة وعندما اضطررتُ إلى تبينه احتجت إلى عدة كلمات ونحتاج أكثر أيضا، وذلك ما قصده ابن القيم -رحمه الله- حينما قال “وذلك أبلغ” في عبارة الحديث الأول وهذا دليل على أن الأوائل كانوا يعرفون اللغة ويفهمونها ليس كما يفهمها البعض الآن, فحذف المضاف دل على أبلغ معنى بأقل كلمات ممكنة ونحن نعرف قول العرب “البلاغة هي الإيجاز”، وهنالك قاعدة تستخدم في العقود تقول ((العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني)) وهي تشمل كل الكلام لا العقود فقط. فتأمل –أخي- كم من أديب رمي بالزندقة وأخرج عن الملة بسبب أمثال هذه العبارة وإصرار هؤلاء على ظاهريتهم في التعامل مع اللغة ومحاصرة أساليبها.

الخاتمة:
رغم طول الكلام في هذه المقالة وعلمي أنني أتكلم عن البدهيات اللغوية التي يعرفها الشخص من الممارسة والانغماس في اللغة الأدبية لكن كثيرًا من العامة يجهلونها والبعض يتعمد إخفاءَها عن سبق إصرار وسوء طوية ويحرم العامي من تعلم لغته؛ لكي يجنده في معاركه الخبيثة متى ما أراد ذلك وحينما نزل القرآن نزل على عرب يعرفون لغتهم ويعرفون دلالاتها فلما بعدت الشقة بيننا وبين لغتنا أصبح بعضنا يتعامل مع اللغة بطريقة، وآخرون يتعاطون مع اللغة بطريقة مختلفة فأصبح الشاعر كأنه يتحدث بلغة تختلف عن لغة البقية تماما، لأنهم جهلوا معانيها وطرق الجمال فيها.
المقام طال وإن كان بودي التحدث عن دلالة الاقتران وقياس العكس والمشترك اللفظي والمشترك المعنوي لكن جف حبر الجهد وكسل العقل لكن أتمنى أن تكون هذه المقالة ساهمت ولو قليلا في تقليص الفجوة بين العالم الأدبي وبين عقل القارئ.


خاص بموقع ” المقال ” .

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق