بين التخوم الأدبية والمدونة التاريخية/ موازنة نقدية عجلى

الكاتب:

24 مايو, 2012 لاتوجد تعليقات

المهتم بالغور في الأنساق الثقافية لمجتمع ما يقع على أن القراءة في التاريخ البشري تفضي بنا إلى مدونة سردية متشابكة مصطلحاتها ومعاولها في بوتقة طاحنة تحيل الممارسات السلوكية والمعتقدات الوجدانية والمآثر والمثالب إلى أشكال تعبيرية كالقصص والحكايا والأمثال والأشعار وغيرها من صنوف الأدب، فيكأن التجربة الحياتية قصَّةٌ والاعتقاد مَثَلٌ والتباين النفسي قَصِيدَةٌ، والحياة برمته نصا مسرحيًّا.

الشيء الذي يجرِّم أحادية الأيقونة التاريخية إلى حد ما، ويقدح في مصداقيتها كون السرد التاريخي يكون مستندا إلى المُؤَرِّخ الذي يسجل الموقف بمنظوره القاصر قصور العقل الفردي عن الإحاطة بتلافيف المجتمع وموروثاته الشتى، أضف إليه أن مَنْ يكتوي بنار مؤججة ليس كمن يصف ويُنظِّر الحالة، بمعنى أن الأدب كُتِب إبَّان المرحلة خلافا عن التأريخ عادة.

 

نقرن بحديثنا هذا المدونة التاريخية المسجلة سواء من السلطة السياسية أو من الفئات النخبوية أو من أي جهة تتبنى تصدير الرواية التاريخية من بوقها.

 

وفي سياق إضفاء المصداقية على الأدب ذي الرسالة التي تروم إلى التنقيب عن تفاصيل الحدث دون أن تخرجه باعتباره فيصلا نذكر مثلا الملاحم؛ وهي في أصلها نصوص قصصية سردية إمتاعية، لكنها تتحول إلى قيمة رمزية ثقافية تنزل مألف الحقائق الكبرى، على الرغم مما يخالجها من نكهة الأسطورة، وفي ذلك نومئ إلى كون الملحمة جنسا من الأجناس الأدبية الذي توارى ظهورُه في ميدان التراث العربي خلافا لتمثلها البَيِّن في الثقافة اليونانية والفارسية والهندية.

 

أثار ذلك الباحثين والأيدلوجيين منقبين عن علة النص في هذا الغياب، وإن تنكَّر حضورها في جلباب بعض القصائد الطوال أو ما يصطلح عليه بالمعلقة حينا وفي أدب الجهاد حينا آخر إلا أنه منحسرٌ غير متأصل بالجِذر الأدبي العربي وذو نَفَس قصير مقارنة بالملحمة، ولسنا في مقامنا هذا نعالج غياب الملحمة العربية إنما نشير إلى قالبها بعامة أنموذجا على مصداقية الأشكال الأدبية في قراءة المجتمع أي مجتمع، وأفضيلتها- أي الأشكال الأدبية- من حيث إن المطرز لها شخوصٌ هي جزء من تكوين الثقافة الجمعية، في حين المؤرخ -عادة- شخص خارج دائرة ذلك التأثير وكأني به مُشاهِد قد يظهر له شيءٌ من المسرحية و تخفى عنه أشياءُ.

 

وجدير بالذكر أن “المفكر” له نصيب الأسد بدوره أيضا في استجلاء الحقيقة والكشف عن أيدلوجية المجتمع ومسيرة تكوينه، مما يجعل المدونات الفكرية تتآزر مع الأجناس الأدبية متقدمَين على المؤرخ التقليدي، الذي يسرد الحقيقة التاريخية على كونها تسجيلا لا يقوِّضه نقصٌ ولا يعتوره فردية، أو كمن يطالع كتب التاريخ فيبدأ بالحديث عن الأحداث التاريخية حديث الجازم المالك للحقيقة بقضها قضيضها.

 

وما نقصيه في مقالتنا هذه تحديدا ذلك القيد الذي يعرقل قولبة الفكر في طريقه للبحث عن الحقيقة التي ليست حكرا على أحد من جهة وليس لها وجه يتيم قطعا من أخرى، فللباحث أن يبتدع سلكا واعيا في قراءة مجتمع ما بواسطة ممارسة النقد الثقافي على ألا يتجرد من أدواته العلمية، وعلى أن يتعاطى مع المدونة التاريخية بشكل لا يكتنفه التقديسُ إنما هي رؤية يُؤخذ منها ويُرد، إذ قد يشوبها ما يشوبها الشيء الذي يقرر توسيع دائرة الاستقصاء الثقافي ولاسيما معالجة الأنساق الاجتماعية؛ بغية فَهم موقف طارئ أو مشكلة منبجسة أو علاقة متوترة بين أعضاء المجتمع نفسه أو بينه وبين غيره من المجتمعات.

 

صفوة القول: الباحث الجاد في معالجة مجتمع ما قد ينأى عن الكتب التاريخية الفرادى وينكب على قراءة الموروث الأدبي والمخزن الفكري -وتفحصه- الذي وَرَّثَه المجتمعُ مثار المعالجة قراءةً نقدية ثقافية لا تقف عند حدود النص الأدبي بوصفه منتوجا فنيا بل تتجازوه بحثا عن العلامة الثقافية، وتتبعا للنسق المضمر، وتحاول استعراض قراءة جديدة مُسْتَنْتجة من لدنه بأدوات النقد الثقافي الاستقرائي المؤصلة علميا، كونه يجد في المدونة التاريخية إملاءً بهيأة تقريرية تكسو العقل أفكارا قابلة لأَنْ تقرأ قراءة ثانية وثالثة، ومتى ما استقبل الباحث المدونة التاريخية على اعتبارها كتابا منزلا من السماء تقديسا حَكَمَ على إعدام ثقافة ذلك المجتمع واختزاله بفكر يتيم.

بل إن كثيرا من المدونات التاريخية تحتاج إلى إعادة صياغة وفرز وتخليص من الأوهام فضلا عن قَبولها مرجعية يُستند إلى فحواها.

والشأن في ذلك بقية القراءات الثقافية والسياسية والاقتصادية غير القابلة للاحتكار من قبل جهة واحدة تاريخية كانت أو سلطوية أو غيرها، ولا أغالي إن أشرت إلى أن التماهي مع الفنون في قراءة المجتمع إحدى سمات النسق الثقافي المتحضر.

خاص بموقع “المقال”.

 

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق