الاستبداد وتطبيق الشريعة

الكاتب:

8 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

عندما كتب محمد عابد الجابري كتابه “الدين والدولة وتطبيق الشريعة” كان يبدأ نقاشه لعدد من القضايا بنقض السؤال الذي اصطنع ما يشبه المشكلة وظل النقاش حوله يُعاد إنتاجه والنتيجة هي الابتعاد عن الإشكال الأصلي بالانشغال بفروع بل ربما بخيالات متوهمة عن الحقائق الواقعية. وكان يسميها بـ”الأسئلة المزيفة”.

تنبعث فكرة الجابري اليوم في خضم النقاش الصاخب على أعتاب موضوع سيادة الأمة الذي ابتدأ به الباحث عبد الله المالكي، وردود الفعل التي تصور تناقضا لم يكن مطروحا بين “الإسلام وتحرر الشعوب”. انطلقت هذه الآراء من ركيزة لديها تتمثل في أن تحرر الشعوب ليس غاية إسلامية، وإنما الغاية هي “سيادة الشريعة”، ولكي نفهم تصورهم لهذه الغاية نجد من يقول بأن انتفاض الشعب ضد “تطبيق الشريعة” يبيح “بحسب المصلحة” قمع هذا الشعب على نفس طريقة قمع القذافي والأسد لشعوبهم. ونجد من يقول أنه في هذه الحالة يجوز قمع المتظاهرين مع اختلاف بسيط عن القمع الحالي يكون باستخدام “الشرطة الإسلامية”.

عندما ألّف الكواكبي كتابه طبائع الاستبداد رصد من عنوانه تسجيلا للمشكلة التي تعاني منها الأمة العربية والإسلامية والمتمثلة بـ”الاستبداد”. وكان يعي في كتابه مدى ارتباط الاستبداد السياسي بالاستبداد الديني، وفصَّل فصلًا كاملًا سماه “الاستبداد والدين” في الكلام أن الإسلام والقرآن جاء بمواجهة الطغيان وإحلال العدل والسلام، وأن (الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية… بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء)، ومع ذلك كان صادقا في تبيان تلوّث الإسلام بتنظيرات فقهاء شوَّهوا سمعة الإسلام بتسويغهم ممارسات المستبدين، حتى يقول: (اللهم إن المستبدين وشركاءهم جعلوا دينك غير الذي أنزلت، فلا حول ولا قوة إلا بك).

كثيرا ما تُّردَّد كلمة ماركس “الدين أفيون الشعوب” على كونها ذلك العداء للدين، وتصويرها على أنها تلك المقولة التي أعلنت انتهاء الأديان، ويُنسى دوما إتمام تلك المقولة في نفس سياقها الذي يقول “وصرخة المستضعفين”. الدين بما يحمل بطبيعته فكرة “التسليم والاستسلام” أي تلك العقيدة التي يتلقاها المتدين عن إيمان مطلق دون التردد فيما بعد في تنفيذ ما يمليه عليه ذلك الدين، ومن هنا تولدت في أوروبا عصور من استبداد الكنيسة الناطقة باسم “الرب”، ومن ثَم ظهرت اللوثرية الداعية لإسقاط الوسيط بين الكتاب المقدس والإنسان العادي.

إن ما تحمله التنظيرات والممارسات من قِبل من يرون في أنفسهم الأحقية دون غيرهم في فهم الإسلام والاجتهاد فيه لا يقل خطورة عن عصور استبداد الكنيسة، فعندما تَغيب قيم الإسلام الحقيقية في إحقاق العدالة فيكون العدل عند هذه الفئة قيمة نسبية ليس كل الشعب فيه سواسية، بل يختلف تعريف العدل بحسب الشخص الذي تتحدث عنه! وعندما تكون مصلحة الشريعة هي ذريعة يتحكم فيها ذلك المستبد باسم الدين بحسب ما يراه هو “دينا”، فعندها يسوّغ الفقيه “تغيير نتائج الانتخابات” وآخر يسوِّغ “تزويرها” إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك. في مثل هذه الحالة لن يكون الحال مختلفا بين استبداد كنيسة أوروبا وفقهاء الاستبداد، والاختلاف بحسب ما صوّره بعضهم هو أن “أولئك يقمعون وهم على باطل ونحن نقمع ونحن على الحق”.

في هذا الواقع المرير تكون الحاجة ماسة لـ”تحرير الدين” من قبضة الاستبداد السياسي والديني، الدين كما بُعث به محمد –صلى الله عليه وسلم- لا يجعل الناس يرتبطون في دينهم ودنياهم برجال دين يحددون تفاصيل كل شيء في حياتهم، والدين كما بُعث به محمد والأنبياء في مواجهة الطغيان والاستكبار لا يستسلم للمستبدين الذين تحكموا بمصائر الناس واضطهدوهم وسرقوا مقدراتهم وثرواتهم وسجنوهم وقتلوهم.

الدين ليس كما يصوره البعض في اختصاره بقضية “تطبيق الحدود”، إنّ الدين كما فهمه “عُمر” الذي تلقاه من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يجعل الغاية تطبيق الحدود، بل الغاية إقامة العدل بين الناس حتى لا يسرق ولا يبغي أحد على أحد، وعندما يختل هذا الميزان فإن الشريعة لم تأت بالبغي على الضعفاء، بل جاء رسول الله يقول (لا قُدست أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه غير متعتع).

“الدين صرخة المستضعفين” هو الدين الذي جاء مع رسالة الأنبياء، وتلك تبدو واضحة صريحة في نبذ أقوام نشأت تحت الطغيان لدعوات الأنبياء بقولهم (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي)، والدين بما يحمله من دعوة للنهوض ضد الطغيان والاستبداد (اذهبا إلى فرعون إنه طغى)، الدين الذي أتى لغاية كبرى أُرسل بها جميع الرسل: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، تلك الرسالة الخالدة التي أمر بها الله جل وعلا (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، هذه المبادئ العليا السامية التي غُيبت بمجرد ما تضخمت لدى الفقيه تفاصيل صغيرة جعلها هي الغاية والأساس وحرفته عن غايات الدين الكبرى، ذلك الفَهم الخاطئ الذي جعله يستسيغ باسم الدين والشريعة أن يظلم ويبغي ويبطش ويقتل، ولم يعرف فقيه الاستبداد أن الدين “صرخة المستضعفين”.

ومع كل التاريخ الدموي للكنيسة في أوروبا فقد بقيت الكنيسة وزال استبداد الكنيسة، فالدين باقٍ ومفسدوه إلى زوال. هذا ما يبعث الأمل عندما نرى الصورة الطاغية في بلداننا اليوم وقد تحكّم الاستبداد بالدين، ففرض الاستبداد السياسي سلطته على الدين وأصبح يستخدمه كما يشاء، ويتغزل بطرف متدين دون آخر من أجل كسب سلطة اجتماعية فوق السلطة السياسية. أصبح المستبد يستخدم رجال “الشرطة الدينية” ضد النساء اللاتي خرجن في قضاياهن العادلة لقسرهن على الرضوخ، وأصبح المستبد يستخدم القاضي الذي يحكم بشرع الله لكي يقمع الذين يدعون للعدل والإصلاح، وأصبح المستبد يدّعي ويصور في تصريحاته أنه في بلاده يُحكم بشرع الله ولم ينحرف هذا المسار وكل شيء يتم وفق “الشريعة الإسلامية”.

هذا الدين الذي يستخدمه المستبد متحالفا في فعله تحالفا استراتيجيا مع رجال الدين ورجال المال ورجال الأعمال ورجال الإعلام، بحاجة إلى أن يتحرر من هذه القبضة الشرسة، ويسود الدين صافيًا غير مشوّه، الدين الذي يحرر عقول الناس من التبعية المطلقة العمياء، دين الرسالة العظيمة الخالدة التي أُرسل بها محمد –صلى الله عليه وسلم- (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

 

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق