الإسلاميون في تونس ومفهوم الدولة

الكاتب:

13 نوفمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

منذ نشأة الحركات الإسلامية في القرن الماضي، ومفهوم الدولة الإسلامية يعد مفهوما مركزيا، بل دائماً ما كانت توصف هذه الحركات بـ (حركات الإسلام السياسي)، ونشأت على إثر ذلك معارك فكرية مشهورة، من أشهرها الجدل حول كتاب علي عبد الرازق حين كتب (الإسلام وأصول الحكم)، ولقوة وكثرة -وربما عنف- الخطاب الإسلامي المحافظ فقد تمت (شيطنة) أي خطاب يشكك في هذا المفهوم المطلق والمركزي (الدولة الإسلامية).

ينفي الإسلاميون وجود (دولة دينية) أو (مدنية) بالمفهوم الغربي في أدبياتهم، فهو شيء آخر قد يوصف بأنه (مدني)، لكن ليس على الطريقة الغربية، ويكتفي بعضهم بوصف (الإسلامي)، هذا ما جعل مفهوم الدولة الإسلامية ملتبساً ودائماً ما تطرح في وجهه الأسئلة، ففي حين يعتقد الإسلاميون أنهم يجيبون على كل الأسئلة التي من شأنها أن تطمئن الناس، يعتقد آخرون أن هذه الإجابات لا تحمل مضموناً واضحاً، وإنما تحمل معها الكثير من الأزمات الفكرية، والمآزق التي لا يوجد لها حل.

اعتقاد الإسلاميين أن من واجب الدولة حماية العقيدة، وبالتالي منع الأفكار الأخرى من الانتشار، أو حتى الوجود، لأنها تدخل ضمن الفكر (الضال)، ومنع أصحاب هذه (الضلالات) من تولي المناصب الحساسة، مما يطعن في تكافؤ الفرص والتساوي أمام القانون، وهو مبدأ المواطنة، ثم استدعاء الشكل النموذجي للدولة الإسلامية في مفهوم (الخليفة)، وطريقة توليه، وصلاحياته، وعلاقة الدولة بالآخر، ومفهوم الجهاد، والفتوحات الإسلامية، شكّل ذلك مأزقاً أمام الدولة الوطنية الحديثة، وفي حين يشعر كثير من الفقهاء والمفكرين بعمق هذه الأزمة ويعترف بها، يتغافل آخرون عنها ويكتفون برفع الشعارات التي تشير إلى أن الحل في الإسلام.

الحركة الإسلامية في تركيا بزعامة نجم الدين أربكان كانت جزءاً من هذا المشهد، والصدام بينه وبين الجيش الذي يمثّل الحامي للدولة العلمانية مشهور ومعروف، ولم يشكل هذا أي ارتباك في الحركة الإسلامية، لأنه جزء من المشهد العام في العالم الإسلامي، لكن التحوّل الحقيقي ظهر حين أعلن  رجب الطيب أردوغان انشقاقه عن أستاذه، وهو انشاق فكري قبل أن يكون سياسياً، فقد أعلن أن ثمة اتجاهات علمانية لا تتعارض مع الإسلام، ولم يتحدث عن خطاب اضطراري، بل عن مفهوم إسلامي جديد تجاه الدولة، وقال في أكثر من لقاء إن على الإسلاميين في العالم أن يصدقوا أننا تغيرنا بالفعل، لكن الصدمة كانت قوية ومربكة للإسلاميين، فتحدثوا عن تكتيك خفي، واتفاق بين الأستاذ وتلميذه للعب الأدوار، لكن القريبين من أربكان أكدوا أنه حتى في مجالسه الخاصة كان يشنّ حملة شعواء على أردوغان وعبد الله غل ومن معهم، إلى حد اتهامهم بالخيانة والعمالة لأمريكا وإسرائيل.

تحدث آخرون وما زالوا عن أن ما يقال في تركيا لا يمكن أن يقال في العالم العربي، فالعالم الإسلامي غير العربي له ظروفه الخاصة التي لا تنطبق على العربي منه، وما يزال هذا الكلام يتردد حتى اليوم.

من المهم أن أشير هنا إلى أن مفهوم (العلمانية) يحمل معانٍ سلبية في أذهان المسلمين لا يمكن حصرها، وليس باستطاعة أي أحد أن يتحدث عن مفهوم علماني للدولة ويأمل أن يثني عليه الناس، وقد كان لمفهوم (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) التي طرحها المسيري، وألف فيها وكتب المقالات أثر كبير في هذا، حتى أصبحت أفكاره أرضا خصبة لكل إسلامي وسلفي يريد الطعن في الحداثة الغربية، والتغاضي عن كل منجزاتها، لكنّ الجدير بالذكر أن المسيري يعتقد أن العلمانية الجزئية لا تتعارض مع الإسلام، وإنما هو يخشى من تحولها إلى العلمانية الشاملة.

من سنوات والحديث عن مراجعات جذرية وحقيقية عن مفهوم الدولة الإسلامية لا يهدأ في كثير من التيارات الإسلامية في العالم الإسلامي، منها ما بدأه المفكر راشد الغنوشي في عام 1984م، والتي كتب على إثرها كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية)، في صيف 1986م، والتي يقول عنها إنها لحظة من لحظات التحقق الصوفي، ولم تهدأ المراجعات بعدها حتى الثورة التونسية، وفوز حزب النهضة بالأغلبية في المجلس التأسيسي.

خطابات الغنوشي أربكت كثيراً من الإسلاميين، وجعلت بعضهم يفسر خطابه حسب ما يتنماه هو وليس كما تنص عليه الألفاظ، حتى اعتقدت أن بعضهم لو جاء الغنوشي أمامه وأقسم له أنه يعني بكلامه هذا المعنى لقال له إنك لا تعي ما تقول، نحن أفهم منك لكلامك، والحوار مع هؤلاء من كدر الزمان، لكن آخرين فهموا كلامه من اليوم الأول، ولهم الحق في رفضه أو قبوله، لكنهم على الأقل استطاعوا أن يفهموا.

ما يميز خطاب الغنوشي أنه خطاب فلسفي مركز على بساطته وسهولته، ومن السهل أن تحدد فيه العبارات المركزية من العبارات الثانوية، التي يضطر للحديث عنها بسبب أسئلة المقدم في برامج الفضائيات، وسأحاول أن أرتب أفكاره في السطور القادمة.

هل الدولة الإسلامية فريضة؟ هذا سؤال قديم، وتمت مناقشته باستفاضة، وقد يكون السؤال الحقيقي هو ما معنى أن تكون الدولة الإسلامية فريضة؟

هل هي فريضة مثل الصلاة والصوم، بمعنى أن الإسلام جاء بصفة محددة للدولة، وهي التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن ملزمون بشكلها وأهدافها، فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولة المدينة على أساس حمايته وحماية الدين، وهذا ما بايعه عليه الأنصار، أن يحموه مما يحمون به نساءهم وأولادهم، فحماية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من الأهداف الرئيسة للدولة، والتفصيلات كثيرة في ذلك، ومن الممكن أن نضم إلى هذا النموذج دولة الخلافة الراشدة، فيجب استلهام شكل وأهداف وطبيعة العلاقات في الدولة الإسلامية أياً كان زمانها ومكانها من طبيعة الدولة تلك، هل هذا هو المقصود؟ هناك من يؤمن بهذا، وتحدثوا عن شكل اختيار الخليفة، فاستلهموه من أشكال اختيار الخلفاء الراشدين وعدوها نموذجا لذلك.

يعتمد هذا الرأي بشكل رئيس على أن الدولة الإسلامية لها حقيقة واحدة يجب الوصول لها من خلال الأدلة، فلا يمكن أن يكون ثمة شكلين من الصلاة، بل يوجد راجح ومرجوح، وقول صحيح وآخر فاسد، لابد من إيجاد مفهوم الدولة الإسلامية الصحيح المستنبط من الأدلة، هذا بشكل عام المفهوم السائد في الأدبيات الإسلامية.

ما يتحدث عنه الغنوشي وغيره من المفكرين الإسلاميين مختلف عن ذلك، ولا أستطيع أن ألزمه بشيء لم يقله، ولكني أتحدث هنا عن ما يمكن فهمه من خطابه في هذه النقطة بالتحديد، ما معنى أن تكون الدولة الإسلامية فريضة؟ لم يأتِ نص مباشر وواضح في وجوب إقامة الدولة الإسلامية، وإنما مجموع فعل النبي صلى الله عليه وسلم من بداية البعثة يشير بوضوح إلى سعيه الجاد إلى إقامة الدولة، بل كانت دعوته السرية والجهرية وعرضه نفسه على القبائل وخطابه لأهل مكة، كل ذلك لأجل إقامة الدولة، وهذا ما يشير بوضوح إلى مركزية الفكرة والهدف، لم يأمر القرآن بإقامة الدولة بل بإقامة المنظومة/ النموذج/ النسق الإسلامي في الحياة الواقعية، وثمة اتفاق على أن الأفكار لا تتحول إلى واقع إلا عبر الدولة، والتجربة البشرية من مئات السنين تشير إلى ذلك، بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم توسل بالوسيلة المجمع عليها من مئات السنين حتى عهده وحتى اليوم كذلك، ولذلك أخذت حكم الفريضة.

بهذا المفهوم تكون الدولة آلية بشرية، والآليات تتطور وتتغير بتطور وتغير الزمان والمكان، بل لا يمكن أن تبقى على حالها أبداً، وإذا كان الإسلام تعامل مع الدولة بوصفها (فعل بشري) ولهذا لم يأت الأمر بها مباشرة، فهذا يعني أنه لا يلزم بشكل واحد من أشكالها، لأن دولة المدينة تكون حينها (الدولة) في تطورها الذي وصلت إليه في ذلك الزمان والمكان، وقد أحسن النبي صلى الله عليه وسلم استعمالها وفق ظروف عصره السياسية.

هذا المعنى يشير إلى أن الدولة الإسلامية ليست حكماً فقهياً يشابه حكم الصلاة مثلا، فليس ثمة راجح ومرجوح، ولا قول صحيح وقول فاسد، بمعنى أنه لا يوجد شكل واحد للدولة الإسلامية يجب علينا أن نبحث وأن نفتش عنه في الأدلة، وإنما ثمة مقاصد شرعية ومنظومة قيمية يمكن استخلاصها من مجموع ذلك، أو من الممكن القول إن ثمة نموذجاً إسلامياً للدولة، هذا النموذج واسع ومتماسك، يقبل أشكالاً عديدة من الخبرة البشرية في شكل الدولة، وهذا ما عبر عنه الغنوشي بوضوح، حين قال: “ليس هناك نظام سياسي مثالي.. كل هذه الأنظمة بشرية وكلها اجتهادات.. وفيها إيجابيات وسلبيات” (من مقابلة في برنامج في العمق على قناة الجزيرة).

لذلك لم ينف الغنوشي مفهوم الدولة الإسلامية ومركزيتها، بل كان يصرّ على أن ما يقوله هو من جوهر الإسلام، وهو الذي يدين به، وهذا ما أشكل على كثير من الإسلاميين والشرعيين، واضطربوا أمام كلامه، فهو يؤسس مفهوماً مختلفاً للدولة الإسلامية، ينبع من تصور مختلف، والاختلاف هنا جذري وليس شكليا.

مهمة الدولة هي سياسة الدنيا والدين، هذا صحيح، لكن ليس على طريقة الفكر الإسلامي السائد والمحافظ، بل هو يتمركز حول مفهوم الحرية، وبالتالي سيكون الناتج مختلفاً، الحرية في رأي الغنوشي هي جزء من الإنسانية وجزء من طبيعة الدين نفسه، الإنسان حر لأنه إنسان، دون حاجة لإثبات على ذلك، والدين لا تكون له قيمة إن لم يكن باختيار كامل من الإنسان، ولا يتحقق هذا الاختيار إلا بوجود مجال كامل من الحرية، إذن علينا أن نوجد الحريات وأن نؤسسها حتى يتحقق الدين، فحتى تكون مهمة الدولة هي سياسة أمور الدنيا والدين، لا بد أن تكون حارسة للحريات، وليست حارسة للتفسير الديني الذي يؤمن به القائمون على الدولة، من هنا يعتقد الغنوشي أن وجود 10% من نساء المجتمع يرتدين الحجاب عن اختيار حقيقي، أقرب لجوهر الإسلام من وجود 90 % منه يرتدين الحجاب دون اختيار، لأن الدولة التي لا تتيح الاختيار الناس، وتقمع الحريات الدينية، إنما تؤسس لمجتمع منافق، وليس مجتمعا متدينا، ولذلك يعدّ الغنوشي الدول التي تستخدم أدواتها لإلزام الناس بالدين بأنها فاشلة تربويا.

لو عدنا إلى أصل وجود الدولة تاريخيا، سنجد أن الإنسان باجتماعه البشري انتقل من القرية إلى المدينة، وحين أراد أن يوسع من اقتصاده وقوته، اضطر إلى إيجاد (شكل) من أشكال الاجتماع، فكلما اتسع عدد المنتمين تعقدت أشكال العلاقات، فنشأت الدولة، ومن طبيعة الدولة أنها تقيد حريات الناس، لأنها تلزمهم بالقوانين التي من شأنها أن تضبط العلاقات، والتي من شأنها كذلك أن تحقق أهداف هذا الاجتماع، لذلك فالإنسان اضطر إلى وجود الدولة، وهي في حقيقتها وجدت لتلبي حاجات وطموحات الناس المنتمين إليها، بمعنى أن الدول لم توجد لتفرض فئة من الناس أفكارها ودينها على البقية، وإنما لتعبر عن مجموع أفكار الناس، وأن تحقق طموحاتهم ورغباتهم.

تصور الغنوشي للدولة أنها لا تفرض نمطا محدداً على الناس، ولا تسعى لتفكيك منظومتهم وإعادة تركيبها، إنها لا تسعى أبدا لفرض شكل من الدين ولا الثقافة ولا اللباس على الناس، بل مهمة الدولة أن تهيئ مجالا آمنا ليحقق الناس فيه رغباتهم وطموحاتهم، فمهمتها إقامة دولة الحريات وحراستها، وإقامة نظام صالح للتعليم والاقتصاد والصحة.

 سيكون السؤال هنا أين المهمة الدينية للدولة؟ وبعبارة فلسفية أين (المسؤولية الأخلاقية)؟ وهذا محل بحث ونقاش طويل، والغنوشي هنا ينزع المسؤولية الأخلاقية من الحكومة ويجعلها من مهمة المجتمع المدني، ويعتقد أن (الهوية) و(الثقافة)، وما يسميها (الخيارات الكبرى)، يجب أن لا تترك للحكومة ولا للحزب للحاكم، بحيث كلما جاء حزب حاكم تصرف بهذه الخيارات كما يشاء، وإنما على المجتمع المدني بكل أطيافه وتشكلاته أن يحدد هذه الخيارات وأن يلزم بها كل الحكومات المتعاقبة عليه، وهذا هو مفهوم إسلامية الدولة عنده، فالغنوشي يصرّ أن تونس دولة إسلامية وليست علمانية، وهذا ما نصّ عليه دستورها، لكن إسلاميتها لا تترجمها مؤسسة محددة، بمعنى أنه لا يوجد في تونس من يحتكر الحقيقة الدينية، ويفسر الدين وفق اتجاه معين ويصف اتجاهات أخرى بالضلال ويعمل على منعها، ولا يوجد في تونس جهة تحاول السيطرة على الفضاء العام لإلزام الناس بالدين، ليس هذا هو معنى إسلامية الدولة، بل فهم الإسلام هو تدافع اجتماعي من مجتمع مسلم، يتم هذا التدافع من خلال المساجد والأندية الثقافية والإعلام، فيتبلور مفهوم للإسلام، هذا المفهوم يصعد إلى أجهزة الحكومة وهي من تترجمه إلى سياسات.

إذن المجتمع المدني هو من يحدد (الخيارات الكبرى)، والحكومة هي من تترجمه إلى سياسات، والحكومة مهمتها توفير البيئة الصالحة لهذا التدافع، وحماية الحريات، وتطبيق القانون, هذا كله على المستوى الفلسفي، يبقى الكلام على مستوى الآليات، كيف سيتم ذلك؟ هذا مجال مفتوح للنقاش والبحث، ويبدو أنه لا توجد خيارات حاسمة عند الغنوشي في ذلك.

تحدث بعضهم أن خطاب الغنوشي هو خطاب مرحلي ومؤقت، وأنه يأتي وفق (التدرج)، وأنه لا يملك خيارا آخر في هذه المرحلة أمام سطوة الغرب والعلمانيين، وأريد هنا التفريق بين مستويين من الخطاب السياسي، الأول: التصور تجاه الدولة، وهو ما تحدثت عنه سابقاً، هذا التصور لا يقبل المرحلية، ولا يقبل التدرج، وقد ذكرت في تدوينة سابقة أن من يقول للناس إنه يؤمن بالديمقراطية، ويضمر الانقلاب عليها ولو بعد حين فهو يمارس الكذب الوقح على المجتمع، فاستثقل البعض هذه العبارة، وبعدها بأيام في مقابلة للغنوشي في قناة الجزيرة، قال مجيبا على تساؤل فحواه أنكم ستنقلبون على الديمقراطية بعد حين، قال: “نكون حينها كذبنا على الناس، وأكبر جريمة هي الكذب على الناس”، يقصد في الانتخابات، فهذا لا علاقة له بفقه الواقع، ولا بفقة الضرورة، هذه تصورات، ولابد أن تكون التصورات واضحة وثابتة، والتحولات فيها لا تحدث بين يوم وليلة، بل تتم عبر مراجعات طويلة، وهو ما حدث في حزب النهضة التونسي.

المستوى الثاني: هو الأيديولوجيا التي يحملها الحزب الحاكم، وأعني بالأيديولوجيا هنا شكل المستقبل الذي يسعى له كل حزب سياسي، ولكل حزب أيديولوجيا، وهو يسعى لتحقيقها، فحزب النهضة يسعى لنشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، يسعى إلى اقتصاد إسلامي عادل بعيد عن الربا، ويسعى إلى مجتمع متماسك يقوم على الأسرة المسلمة، ويسعى إلى إعلام هادف، ويسعى إلى فن راق، ويسعى إلى منع الخمر… إلخ. هذا هو الشكل النهائي، وهي أيديولوجيته، وهذه إما أن يتم تطبيقها دفعة واحدة، وحينها يكون انقلابا على المجتمع والواقع، وهذا لا يمكن أن يتم وفق الآليات الديمقراطية، بل يتم عبر فئة مستبدة تتوسل بالسيف، وإما أن يتم بمرحلية عبر الالتزام بآليات الدولة الديمقراطية، هذه المرحلية موجودة في كل حزب سياسي، لذلك هي لا تعد إنجازاً فكرياً، ولا اختراعا نهضوياً، هناك شكل مستقبلي تسعى النهضة إلى تحقيقه، وهناك واقع حالي، ولا بد من مرحلية للانتقال من الواقع إلى المستقبل، هذا ما تحدث عنه الغنوشي، حين قال إننا سنبقي على الخمر، لكننا سنوجد فنادق بلا خمر، سنتيح الخيارات للناس، وسنعمل على إقناع الناس أن الخمر محرم وأنه عادة سيئة حتى يتم منعه وفق الآليات الديمقراطية التي آمن بها الحزب.

المستوى الأول لا يقبل المرحلية، ومتى ما كان الحزب يضمر شيئا آخر غير ما تظهره الخطابات، فإن ذلك يوصف بالكذب، وهو أعظم جرم كما قال الغنوشي، أما المستوى الثاني فهو مرحلي ويتم فيه التصريح بشكل المستقبل، وبالطريقة التي سيتم بها الانتقال.

أقول بكل صراحة إن القيمة الحقيقية لطرح فكر الغنوشي بالنسبة لنا في السعودية هو أن نفكر أكثر، فلا يهم أن نوافقه أو أن نخالفه، المهم أن يتوقف بعضنا عن حالة الاستغباء المعرفي، التي تكتفي بالمزايدات والشعارات الدينية والعبارت المنقولة من كتب التراث دون القدرة على تحليلها، لنتعامل مع رأي الغنوشي بشكل علمي، وننظر فيه، فهو رأي لا يخص حزب النهضة الإسلامية وحدها، بل كانت كتابات الغنوشي أساس التحولات في تركيا، وهو فكر حاضر في حركات إسلامية وتعبر عنه شخصيات مقدرة في مصر والمغرب وغيرها.

وفي حين يصر بعضهم أنه مازال يحتكر فهم الإسلام، وأنه يملك الحقيقة، وأنه قادر على سحب الشرعية من تحت كثير من المفكرين الإسلاميين، يبدو أن الأيام القادمة تنذرهم بعزلة، يعودون فيها إلى ماض كان العالم الإسلامي يتهمهم فيه بالغلو والتشدد، عليهم أن يفكروا ملياً في هذا، إن تقبل الآخر ليس شعاراً يقال في الفضائيات والمؤتمرات، بل واقع يمارسه الباحث والشيخ والفقيه، وحين يفقد اتجاه ما قوته، عليه أن يعترف أن ثمة اتجاهات أخرى تعبر عن الإسلام لا تقل قوة ولا شرعية عنه، وربما عليه أن يعتذر عن كثير من ممارساته الإقصائية السابقة.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق