الإسلام والدولة المدنية (1-2)

الكاتب:

11 فبراير, 2012 لاتوجد تعليقات

حين البحث التاريخي في التجربة الإسلامية التاريخية، نكتشف أن الدين الإسلامي بكل قيمه وتشريعاته، لم يحدد شكلا محددا للدولة والسلطة، وإنما حدد مجموعة من القيم والمبادئ الدستورية والسياسية ينبغي أن تسود وتتحكم في مؤسسة الدولة بصرف النظر عن شكلها ومسماها، فالدولة ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني، إذ تتحمل مسؤوليات ومهامًا كبرى في مسيرة المجتمع، ولكن الإسلام لم يحدد شكلا خاصا للدولة، ولعل في إشارة الإمام علي ابن أبي طالب إلى أنه ( لا بد للناس من أمير بر أو فاجر ) تأكيد على هذه الحقيقة التاريخية والإنسانية، “فقد تعامل الإمام علي مع الدولة كضرورة، أما منشأ ضرورتها فهو الانتظام والنظام العام، الأمن والفيء، أي الإنسان والعمران، بما يقتضي ذلك من إطلاق حرية التملك المضبوطة بالشريعة، حتى لا تتفاقم الفوارق الطبقية، ويستولي الجور على الأغلبية الساحقة من الناس، فتعم الفوضى، ويخرج الجياع شاهرين على الناس سيوفهم ونعود إلى المأثور (سلطان غشوم خير من فتنة تدوم )، إذن فالدولة ضرورة اجتماع، يقتضيها الاجتماع ويبنيها، لا تبنيه، وإن كانت بعد أن يبنيها تعود لتسهم في إعادة بنائه وتجديده، يجددها ويتجدد بها، وتجدده وتجدد به، والضرورة في قواعد السلوك إنما تقدر بظروفها ومقاديرها، فإذا كانت الظروف متغيرة، أي تغير وعي الاجتماع لذاته وعلائقه، وتغير وعي الفرد لموقعه في المجتمع ومسؤولياته وحقوقه وواجباته، وتبعا لذلك تغيرت الأدوار، فلا بد أن تتغير الدولة شكلا وأداءً ودورا، ومصدر شريعته، وآليات تحقيق، طبقا للتغيرات الحاصلة في بنيان المجتمع ” (1)

فالمهم في مؤسسة الدولة ليس شكلها، وإنما القيم الأساسية التي تحتضنها، والمبادئ الأساسية التي تعمل على تنفيذها وتحقيقها في الواقع الخارجي.

فالمطلوب دينيا أن تلتزم مؤسسة الدولة بقيم الدولة ومبادئها ووظائفها وشكلها ومسمياتها المتعددة، هي خاضعة لظروف الزمان والمكان وتحولات المرحلة، وما هو الإطار الأنسب للوفاء بتلك القيم والمبادئ الأساسية، (فلا وصفة دينية ملزمة للدولة، وطالما أن شأن الدين بما هو معرفة وسلوك وثقافة وقيم وعلائق وتقوى، هو أداء الدولة، أي عدالتها، وطالما أن العدالة من دون حرية هي جور آخر، فالمستبد العادل تلفيق بين مفهومين متناقضين لا يجتمعان أبدا ولا يرتفعان، أي إما مستبد وإما عادل، وطالما أن الحرية من دون عدالة ليست حرية، بل فوضى حاضنة لتوائم أو ضرائر من الاستبدادات المدمرة، فإن الديمقراطية لا بمعناها السياسي الصرف وحده، بل وبمدلولها الواسع الذي يمتد إلى الشأن الاجتماعي والرعائي والتنموي الشامل، هي التي تجمع الحرية إلى العدالة في بنية مدنية، كمفهومين متشاطرين تعريفا وتحقيقا إلى حد دخول كل منهما في تعريف الآخر ) (2)

  • مدنية الحقل السياسي:

فالجوهر أن تكون الدولة بكل مسؤوليها ومؤسساتها، نتاج الحرية والشورى والعقد الاجتماعي المستند إلى حرية الاختيار ورضا الجماعة، فالدولة ليست خارجة عن قيم الإسلام الكبرى كالعدالة والحرية والمساواة، بل هي تجسيد لهما، وانحراف الدولة في مراحل مديدة من التجربة التاريخية الإسلامية عن هذه القيم، لا يشرع للدولة الاستبدادية، ولا يؤسس للنموذج السلطاني الذي لا صلات حقيقية له بالاجتماع الإسلامي، بل على العكس تمامًا، حيث إن الانحراف التاريخي يحملنا مسؤولية تاريخية باتجاه تظهير قيم الإسلام الأساسية في السياسة والحكم، وممارسة القطيعة المعرفية والسلوكية مع كل أشكال الاستئثار بالقرار والاستفراد بالحكم.

فالإسلام في كل تشريعاته وأحكامه يستند إلى الرضا وحرية الاختيار، وليس من المعقول أن يبني نظامه السياسي بعيدا عن مقتضيات الحرية والشورى والعدالة، فكما أن العقود المالية والاقتصادية في الرؤية الإسلامية قائمة على رضا الطرفين، كذلك هو نظام الحكم فهو يستند في شرعيته ومشروعيته على بعدين أساسيين وهما:

1. انسجام كل الممارسات والخطوات مع هدي الإسلام واختيارات الكبرى.

2. قبول الأمة وانتخابها للحكومة والنظام السياسي.

فالشرعية لا تتأسس فقط من جراء انسجام القائمين على المشروع مع الإسلام ورؤيته في الحكم والسياسة، وإنما من الضروري وذلك من أجل اكتمال نصاب الشرعية من أن الأمة بكل مكوناتها وشرائحها هي التي تختار وتنتخب بشكل حر شكل الحكومة ومشروع النظام السياسي.

فأنظمة الحكم التي تستند على الاستئثار والاستفراد والإكراه، ليست منسجمة وقيم الإسلام السياسية، حتى لو تجلببت بجلباب الإسلام، فلا يمكن أن يتأسس نظام حكم على الإكراه ونربطه بالإسلام، صحيح أن التجارب التاريخية للمسلمين، تثبت ذلك، بمعنى أن هناك أنظمة ادعت الإسلام والالتزام به، وأقامت نظامها وسلطانها على الاستبداد والإكراه، ولكن حين التأمل في قيم الإسلام وتشريعاته، نجد أن هذه القيم والتشريعات، تؤسس لرؤية سياسية مغايرة، رؤية سياسية للحكم والسياسة قائمة في كل أطوارها ومراحلها على الحرية والعدالة والشورى.

من هنا فإننا نستطيع القول:إن الدولة في الرؤية السياسية الإسلامية، ليست دولة الاستبداد والإكراه في كل مراحلها في مرحلة التأسيس والبناء، وفي مرحلة الإدارة والتسيير، هي دولة المجتمع والأمة باختياراتها وتوجهاتها وقيمها.

فلا شرعية لدولة أو لنظام حكم سياسي، لم يصل إلى سدة الحكم باختيار الأمة، فالأمة هي صانعة الحكم، وأي تجربة سياسية بعيدة عن هذا المعيار، فهي لا تنسجم بمقدار ذلك البعد مع قيم الإسلام في الحكم والسياسة، “فالفكر الإسلامي يؤسس مشروعه السياسي على الأسس الثلاثة التالية؛ فهو يغرس الشعور الحر في نفس الفرد بما يمنعه من الوقوع في هاوية العبودية، كما يزرع الشعور نفسه في نفس الحاكمين بما يمنع الوقوع في هاوية الاستعباد، ثم يأتي بعد ذلك دور المؤسسات السياسية والدستورية كنتيجة شكلية، لذلك الشعور، مع ما يستتبع ذلك من وسط ثقافي مستنير، ووسط اقتصادي متوازن “(3)  ومن خلال هذا الشعور الحساس، يتأسس الضمير الإسلامي الجماعي، الذي يدافع عن قيم الإسلام الكبرى، ويكون حارسا على تنفيذها ومراقبا مسئولا على النخبة السياسية وأدائها العام، ومؤسسة الدولة وهي تمارس وظائفها وأدوارها، فإنها تمارسها بوصفها مؤتمنة ووكيلة عن الأمة للقيام بها، وليس بوصفها ممثلة للحق الإلهي.

فالدولة حاجة اجتماعية وضرورة سياسية وحضارية، وكل وظائفها وأدوارها ومسؤولياتها، لا تخرج عن نطاق خدمة المجتمع والأمة من موقع المسؤولية والسلطة، والدولة أو السلطة تستمد مشروعية بقائها واستمرارها من قدرتها على الوفاء بحاجات الناس وتطلعاتهم المتعددة، فهي معنية بأمن الناس الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأي تراجع عن هذه المسؤوليات، يضر بشرعية السلطة، وبمدى قبول الناس بها، فالأمة أو المجتمع هو الحاضن الأكبر لمؤسسة الدولة، لأنها إحدى مؤسساته التي انيطت بها مسؤوليات محددة ووظائف معينة.

وإذا لم تستطع القيام بهذه المسؤوليات والوظائف، فإن المجتمع وعبر وسائل ديمقراطية- سلمية يختار فريقا آخر أكثر تأهيلا وقدرة على تنفيذ تلك المسؤوليات،  “وعلى المعني بشأن السياسة في الدين، أن يوحد النظر إلى سياق البلاء عبر المراحل والانتقال، فسيرة المتدينين وغيرهم من البشر تتعاقب قرونا، قد يتصاعد الأوائل وعيا وتجددا ونهضة إذا استفزهم تحد أصابهم من أمة أرقى منهم أو قومهم بعد الضلال والجمود هدي تنزل عليهم من السماء، أو تذكروه بعد غفلة… وقد يخلف قرن يتم البناء بعد تأسيسه السالف ثم يعقب قرن عاطل لا يجتهد تعويلا على التراث المنقول ولا يجتهد توكلا على الفخر والكسب الموروث، وهكذا تتداول الأيام بالأمم، وهي سنة كان واقعها ظاهرا في تاريخ المسلمين، ولاسيما في سيرتهم، سكونا خاملا بعد حركة حية، وجبروتا مطلقا بعد شورى حرة، وشتات ذليل بعد وحدة عزيزة، وفي دراسة تلك السياقات المتداولة عبرة لتقدير عوامل الانحطاط عن المثال، ولتخطيط حركة جديدة نحو نهضة بعد وهدة، ولتدبير اتصال مراحل المستقبل تعاليا مستمرا ونزوعا دؤوبا نحو المثال لا تصيبه العلة المعهود من طروء العجز والخرف والتقادم عند المخالفين”. (4)

فوعينا وإرادتنا الرشيدة، هي القادرة على إنهاء تأثير حقب الانحطاط السياسي والحضاري على واقعنا وراهننا، وإننا بمقدورنا من خلال الوعي والإرادة الجماعيتين، من وقف الانحدار وإنهاء مسلسل التراجع والاستبداد في الحقل السياسي لحياة المسلمين.

  • الإسلام ونظام الحكم:

لعلنا لا نأتي بجديد حين القول: إن قيم الإسلام السياسية، لا تؤسس لنظام حكم ثيوقراطي، وإنما هي تدعو وتحث على تأسيس حكم منبثق من جسم الأمة، ويكون تعبيرا عن حاجاتها وتطلعاتها، ويمارس دوره ووظائفه بوصفها جهازا مدنيا، لا يمتلك إلا السلطة المخولة لهم من الأمة، وهي التي تراقب أداءهم، وهي التي تقرر استمرارهم أو إعفاءهم من هذه المسؤولية الكبرى، فالحكم وممارسته ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لإنفاذ تشريعات السماء، وتوفير حاجت ومتطلبات الناس، إذ يقول تبارك وتعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون) (5)

وقال عز من قائل (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون * إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) (6). لهذا نجد أن الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، لم يخرج عن نطاق البلاغ والتعليم والتزكية، وإن نظام السياسة والتدبير، لا يدار بالقهر والاستئثار والاستفراد والإكراه، بل بالحرية والشورى ومشاركة الجميع في صناعة حاضرهم وصياغة مستقبلهم.

فشرعية الحكم الحقيقية في أنه يحكم بالعدل والقسط بين الناس، وحين يخرج الحكم عن مقتضيات العدل والقسط في ممارسة الإدارة والحكم، تنتهي شرعيته، ويتحول إلى حكم مستبد وظالم، يقول تبارك وتعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) (7)

“فمن هدي الإسلام أن يؤسس الحكم على عقد مواطنة ونظام سلطان، وأن تسود للأفراد حرمات وحريات ومساواة أساسية كيفما اختلفوا أفذاذا وجماعات، وألا يتولى أحد السلطة العليا عنوة بل بخيار الرعية انتخابا حرا عدلا، وأن تكون قرارات الأمر العام الكبرى عن شورى بإجماع أو رأي غالب، وأن تتفاصل تناظيم السلطة وتتكامل وتتوازن وتتضابط تقاسما للسلطة لا احتكارا، وأن يكون الأصل في العلاقات الدولية السلام أو الدفاع عن العدوان، تلك أحكام إسلامية، كلها معروف مقبول في ميزان الإنسانية كافة مبادئ عليا لازمة لا سبيل في دولة للشذوذ عن بعضها من بعض الرعية، لاسيما أنها تؤسس على الحرية والشورى والعدالة وفيها بوح رأي للملل والطوائف، فإن تجمع أهل ملة في إقليم تباح لهم قسمة من السلطات كلها في سلطان الدولة” (8)

  • الدولة في الإسلام دينية أم مدنية:

إن التأمل في طبيعة الوظائف تقوم بها الدولة في الرؤية الإسلامية، يجعلنا نعتقد بشكل لا لبس فيه، أن الدولة في الإسلام هي دولة مدنية وليست ثيوقراطية، وأن المهام والوظائف الملقاة عليها وظائف مدنية، ولعل من الأخطاء الشائعة في كثيرٍ من الدراسات والأبحاث السياسية التي تتعلق بفقه الدولة في المنظور الإسلامي، هو عملية الخلط التاريخي بين وظائف الرسول –عليه الصلاة والسلام- أو الإمام ووظائف الدولة بصفتها مؤسسة جامعة وحاضنة لكل التعبيرات والمكونات.

فالرسول –عليه الصلاة والسلام- وهو على رأس الدولة في التجربة التاريخية، كان يقوم بوظائف وأدوار بوصفه رسولا ونبيا، وليس بوصفه رئيس الدولة، وعملية الخلط على هذين الصعيدين، هو الذي أربك الرؤية تجاه مفهوم الدولة في التجربة التاريخية الإسلامية، وحتى تتضح رؤيتنا في هذا السياق، من الضروري أن نحدد وظائف الدولة بصفتها مؤسسة وهياكل إدارية بعيدا عن المهام والوظائف الدعوية والدينية والأخلاقية التي كان يقوم بها الرسول –عليه الصلاة والسلام- بوصفه رسولا ونبيا، “والقرآن لا يصف دولة، بل وصف مجتمعا وإذا ما كان القرآن أفقه الفقه والفقيه، فلا يجوز للأخير أن يتخطاه، أي أنه ليس من شأنه أن يصف شكل الدولة ولا طريقة تشكلها، بل يصف عدلها وجورها فيحث على العدل ويحرض ضد الجور، حتى إذا ما بلغ الجور مستوى نوعيا، اندك الفقيه في الاجتماع وفي الطبقة السياسية المعترضة، ليعملوا معا على التغيير، على موجب العدل والعدالة والتقدم، والحرية شرط الشروط.. وهنا يمارس الفقيه دوره في الصف الأول كفرد مواطن مدني، وفي الأساس الفلسفي للمسألة أن الاجتماع، بما هو متحدات ثقافية يدخل الدين في أساسها ثابت، بينما الدولة متغير، والمتغير محفوظ في الثابت منهجيا، كما أن الثابت محفوظ في المتغير، ولكن من دون مشروع محدد سلفا، لأن الدولة كضرورة اجتماع مفهوم متحرك تقدر بظروفها ” (9)

إننا نحسب أن وظائف الدولة –أي دولة- بعيدا عن مضمونها الأيدلوجي ورسالتها العقدية هي:

1. حفظ الثغور والحدود ومنع أية محاولة للتعدي والعدوان، وإن أي خلل على هذا الصعيد يعد تهاونا من مؤسسة الدولة.

فالأهداف الحقيقية والمطلوبة من مؤسسة الدولة، بصرف النظر عن أيدلوجيتها ومتبنياتها العقدية والفكرية، هي حفظ الأمن وتوفير الاستقرار والسلام وإقامة العدل وحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم وضمان التقدم الاقتصادي، وتوفير الفرص للجميع بلا تمييز ومحاباة وحماية المستقبل للأجيال المقبلة.

فصد العدوان بكل أشكاله، هو من المهام والوظائف الأساسية للدولة، وأي تقصير لها في هذا السياق تحاسب عليه.

2. حفظ المصالح العامة: فمؤسسة الدولة لا يمكنها تعميق شرعيتها في الفضاء الاجتماعي، دون سعيها المتواصل لحفظ مصالح شعبها العامة، والدولة التي تفرط بمصالح شعبها تفقد شرعيتها الاجتماعية ولا تلتزم بوظائفها الرئيسية، فكل التصرفات والممارسات الداخلية والخارجية، التي تقوم بها الدولة ينبغي أن تكون في نطاق حفظ مصالح المجتمع المتعددة.

3. تحقيق العدالة: في المجتمع الإنساني حيث تتضارب الإرادات وتتعدد الميول وتتراكم نزعات السيطرة والهيمنة، تكون من وظائف الدولة الكبرى تحقيق العدالة في المجتمع، سواء في الفرص التي تتيحها لشعبها، أو في توزيع الثروات والإمكانات، أو في مشروعات البناء والتنمية، فالدولة بوصفها مؤسسة معنية بإنجاز مفهوم العدالة في حياة مجتمعها. “فبيان الأحكام الشرعية من شؤون الإفتاء وهي وظيفة الفقهاء، وليس للحكومة أن تمنع من توفرت فيه شرائط الإفتاء من بيان الأحكام الشرعية وتعليمها، وليس لها – أيضا – المنع من أن يرجع المواطنون إلى الفقهاء لأخذ الفتيا، وإن اختلفت الآراء الفقهية، ما لم تكن ثمة مصلحة تقتضي أن يكون الاجتهاد موحدا ، كما في مجالات السياسة والاقتصاد والجهاد، فيكون الاجتهاد المتبع إما اجتهاد الحاكم إن كان مجتهدا، أو يختار اجتهاد من بين الاجتهادات، فيكون هو الملزم، ولكن مع ذلك لا يمنع ذلك الفقهاء الآخرين من إبداء رأيهم المخالف، لأن توحيد الاجتهاد يقتصر على مجال العمل والتنفيذ”.

وربما يختزن هذا الرأي – ضمنا – قدرا كبيرا من إعطاء حرية التعليم في الدولة الإسلامية، إذ في الوقت الذي لم يكن فيه الحق للدولة الإسلامية أن تحتكر التعليم الديني، فربما من الأولى عدم إعطاء الحق لها في احتكار التعليم غير الديني، ما لم يكن يتعارض مع النظام العام في الدولة الإسلامية، ولكن ذكر الشهيد الصدر في (فلسفتنا): إن الدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله، فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها، ولا نعرف ما إذا كان هذا يعني احتكار الحكومة التعليم ، كذلك القضاء، فليس من مهمات الحكومة بوصفها حكومة، لأنه لا يثبت للحاكم لمجرد كونه حاكما، بل يثبت لمن نصت الشريعة عليه نصا خاصا، وهم الفقهاء، فإن كان الحاكم فقيها جاز له القضاء، ولكنه لا يمنع غيره من الفقهاء من القضاء، ما لم يكن ثمة مصلحة تقضي بتوحيد القضاء على اجتهاد معين، فمن كان من الفقهاء مصوبا لهذا الاجتهاد فهو يقضي وفقا له بلا إشكال، وإلا قضى بالوكالة عن المجتهد الذي يصوب أو يرتئي الاجتهاد المذكور”. (10)

 ويتضح من خلال الوظائف المذكورة أعلاه، أن وظيفة الدولة الأساسية وظيفة مدنية، تستهدف المساهمة في تأمين حاجات المجتمع الضرورية، والعمل على خلق فرص التقدم وأسباب التطور في المجتمع.

يتبع..

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق