نظرية المؤامرة في كل شيء

الكاتب:

10 مارس, 2012 لاتوجد تعليقات

تداعيات قضية حمزة كشغري تثبت أن المسألة لم تعد تقف عنده كشخص أو عند ما كتبه، المسألة تحولت لما يشبه صراع مفتوح بين التيارات الفكرية المختلفة مع تبادل للاتهامات وصل حد التكفير والاتهام بالإلحاد والزندقة لمجموعات، مع كل ما تحمله هذه الاتهامات من خلفيات تاريخية معينة وما يترتب عليها من إجراءات. ولكن الاتهام بالإلحاد وللزندقة أو غيرها من التهم شيء وتوجيه أصابع الاتهام بوجود مؤامرة خفية لنشر الإلحاد والزندقة شيء آخر، ولعل هذا الأمر من أكثر ما يلفت النظر تجاه تداعيات قضية حمزة كشغري في مجتمعنا. الإيمان بوجود مؤامرة خلف كل حدث ضخم في مجتمعنا بات سمة ظاهرة وغير صحية على الإطلاق، والأسوأ انتشارها بهذا الشكل الواسع كما تبدى من تداعيات قضية حمزة وما حدث من تحويل القضية من خطأ فردي إلى حالة هياج عام تجاه مجموعة من الأشخاص أو تيار فكري وتأويل القضية على أنها جزء من مؤامرة كبرى تستهدف المجتمع.

النظريات عموما هي نماذج تفسير للأمور والأحداث من حولنا، هي أقرب للعدسة المكبرة أو النظارة التي نضعها أمامنا وننظر للعالم من خلالها، وبالتالي فهي تساهم مع الوقت في تشكيل وعينا وفهمنا للأحداث من حولنا، وعندما تكون هذه العدسة هي “نظرية المؤامرة” سيبدأ الشخص بالنظر للأحداث على أنها نتاج مؤامرة ما لها أهداف خفية، ينطبق هذا الأمر على قضية حمزة كما ينطبق على انهيار سوق الأسهم مثلا، والذي يراه البعض نتيجة مؤامرة خفية كبرى، بينما يراه آخرون أنه نتيجة طبيعية بسبب جهل الناس ودخولهم للمضاربة بجنون في مجال لا يفقه الكثيرون قواعده. “نظرية المؤامرة” هي إحدى آليات التفسير المنتشرة بقوة في مجتمعنا، بدءا من تحليلنا لسياق السياسة الخارجية والأحداث العالمية التي تواجهنا كقضية فلسطين وإيماننا بالمؤامرة العالمية علينا وبروتوكولات حكماء صهيون وغيرها، وانتهاء بتفسير قضية كقضية حمزة كشغري، فبدلا من محاولة تفكيك هذه القضية المعقدة بعقلانية للغوص في مسبباتها المتشابكة، نجنح نحو تفسيرها بسرعة على أنها كلها نتاج وجود يد خفية تقودها ضمن مؤامرة ما.

في عام ١٩٩٤م كتب كل من مارك زونيس وكريج جوزيف مقالة بعنوان “التفكير بالمؤامرة في الشرق الأوسط” (Conspiracy Thinking in the Middle East) في المجلة الأكاديمية المعروفة “بوليتكال سيكولوجي” حيث كان محور طرحهما أن نظرية المؤامرة هي جزء من أعراض مرض جنون الارتياب (البارانويا) وأن المجتمعات في الشرق الأوسط أكثر عرضة للإيمان بنظرية المؤامرة واستخدامها كآلية تفسيرية للأحداث كون بعض الأعراض النفسية قد تنسحب من الحالة الفردية للأشخاص إلى حالة عامة تصيب المجتمع بسبب التنشئة أو بسبب ترسخ أنماط معينة من التفكير على مستوى واسع بين الجماعات، ومسألة انتشار نمط تفكير معين ببن جماعات بعينها ليس حالة خاصة بمنطقتنا، فالمجتمع الغربي أكثر عرضة لأعراض “انفصام الشخصية” (الشيزوفرينيا) بحسب دراسة زونيس وجوزيف، ففي النهاية هناك أنماط تفكير عامة تنتشر في المجتمعات وهي ما تؤدي إلى بروز مثل هذه الظواهر العامة التي تنعكس على الشخصية الاجتماعية.

ما تكشفه الدراسة هو أن التفكير التآمري الذي ينظر ويفسر الواقع من خلال عدسة نظرية المؤامرة تتشابه أعراضه مع أعراض “اضطراب الشخصية الارتيابية” (Paranoid Personality Disorder) حيث أن الاشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب غالبا ما يجدون صعوبة في تقييم وفهم دوافع وأفكار وشعور الآخرين، وعدم القدرة هذه تسبب نوعا من الاضطراب الداخلي تحول دون إمكانية أن يطلق الشخص المرتاب حكما قاطعا أو يولد رؤية متكاملة تجاه ما يقوم به أو يطرحه الآخر. هذا الأمر يقودهم لتوليد وبناء “مجتمع زائف” (pseudo community) أو “واقع خفي” (hidden reality) خلف الحدث يعطيهم شعورا بالأمان وبالقدرة على فهم وتفسير الأمور من حولهم، وبقدرة أكبر على التواجد ضمن محيطهم الاجتماعي دون شعور بالنقص. ومع الوقت يتحول هذا الواقع الخفي في عقولهم إلى الواقع المألوف والحقيقي، وفي المقابل يصبح الواقع المألوف أو الظاهر لا منطقيا. ولأن الشخصية الارتيابية غير قادرة على توليد فهم متكامل للأحداث حولها أو حتى تقبلها على علاتها، فإنها تجنح نحو إعادة تركيب شذرات معينة من سلوك وأفكار الآخرين بطريقة تتسق مع هذا الواقع الخفي الذي أنشأته في عقلها، وتقوم بتجميع أدلة متفرقة غير مترابطة لتؤكد أوهامها حول ما يجري حولها.

الشخص المرتاب أو المجتمع الذي يعاني من الارتياب يجد صعوبة في تقبل الواقع الظاهر أمامه، ذلك أن الواقع بطبيعته معقد ومتشابك، وعملية تفكيكه تتطلب جهدا عقليا يتجاوز قدرة المرتاب على القيام بها، لذلك تجنح الشخصية التي تعاني من أعراض الارتياب نحو تفسير الأمور من منطلق تحليلي مبسط وسطحي يختزل الأمور ويريح العقل من تبعية التفكير في طبيعتها المعقدة والمركبة، كما أن السلبية الكامنة في الإنسان تساهم في ركونه نحو مثل هذه التفسيرات المختزلة للأحداث من حوله. باختصار، الشخصية الارتيابية غير قادرة على فهم أو تقبل الواقع بتعقدياته فتقوم ببناء واقع خفي بسيط ومختزل للواقع الحقيقي ومن ثم تقوم بتجميع أدلة غير مترابطة بهدف إيجاد رابط منطقي للأمور، هذا الاضطراب هو ما يولد الارتياب مع الوقت، فالواقع يصبح مع الوقت غير حقيقيا ويصبح من المسلم به أن خلف كل حدث أو أمر واقع خفي تترابط عناصره بصورة مؤامرة ما.    

في السياسة مثلا يصبح من السهل إعادة أسباب كل الإخفاق لوجود مؤامرة صهيونية عالمية، وفي قضية حمزة مثلا يصبح من السهل ربط ما قام به أو سيقوم به أي شخص يحمل نفس فكره إلى وجود مؤامرة تهدف لنشر الإلحاد، بينما نحن بذلك نتغاضى عن دورنا الحقيقي في العمل على التعمق في دراسة الأسباب المتعددة والمتشابكة والمعقدة التي أدت لهذا الأمر، سواء النفسية أو الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية وكذلك تفاعلات كل هذه الأسباب مع بعضها البعض، بما وصل في النهاية لمحصلة ما قام به حمزة والكثير غيره ممن يتشاركون معه في فكره. إنها آفة التفكير الإختزالي التي أشار لها الدكتور عبدالوهاب المسيري وكانت أحد أهم محاور أعماله، فالتفكير الاختزالي هو نموذج تفكير قائم على اختزال جميع العناصر المعقدة والمركبة في قضية ما وإرجاعها لسبب واحد بسيط، وهو عكس نموذج التفكير التركيبي الذي يحاول تفسير وفهم الأحداث ضمن تعقيداتها وربما حتى تناقضاتها القائمة، كتناقض أن يكون حمزة شابا ذي خلفية إسلامية تربى في حلقات التحفيظ وفي مجتمع مسلم ويعلن أن ما كتبه لم يكتبه من باب الجحود وإنما من باب التعبير عما يجول بخاطره من تناقض، فكيف يتم تقبل هذا التناقض والتعامل معه ومعالجته؟ بالعمل على الغوص فيه وفي أسبابه في المقام الأول؟ أم الركون لتفسير مختزل وبسيط؟

إن الجنوح نحو تبني نماذج التفسير المختزلة للأحداث يعود إلى كون أي تغير سريع أو واقعة صادمة إنما تتسبب في تعطيل وتشويش قدرة الشخص أو المجتمع المرتاب على احتسابها بالشكل الصحيح ومن ثم التعامل معها، وهو ما أطلق عليه علماء النفس “أزمة توليد المعنى” (sense-making crisis)، فعندما يصبح الشخص أو المجتمع نتيجة هذا الحدث أو التغير الصادم غير قادرين على تكوين معنى له يستوعب كل تعقيداته وتركيباته، يصبح الاعتماد على مثل هذه التفسيرات المختزلة والبسيطة طوق النجاة الذي يوفر معنى لها يمكنهم من التعامل معه. وعلماء النفس هنا يشيرون لما يطلق عليه “نقطة السيطرة” (Locus of Control) والتي تتعلق بالنقطة التي يضع فيها الشخص الثقل الأكبر لتفسير الاحداث، وهي إما داخلية (internal locus of control) أو خارجية (external). على سبيل المثال: طالب لا يقدم أداء جيدا في اختباره، اذا كانت نقطة السيطرة لدى الطالب داخلية فإنه على الأغلب سيرجح أسباب ضعف أدائه لسبب داخلي فيه كعدم مذاكرته بالشكل الكافي أو تقصيره في التركيز خلال الامتحان، أما إذا كانت نقطة السيطرة خارجية فإنه على الأغلب سيرجح أسباب هذا الأداء لسبب خارجي كصعوبة الامتحان أو مدته القصيرة أو حتى مؤامرة من أستاذه لإفشاله.   

نظرية المؤامرة كنموذج اختزالي لتفسير الأحداث يبرز فيها بشكل قوي الدور المحوري لمفهوم (الذات) كمركز للحركة، ففي المثال السابق تصبح (ذات) الطالب هي مركز الحدث، حيث يتعمد الاستاذ إفشاله، ويتحول هذا الوعي الزائف لحقيقة من خلال تجميع أدلة وأمثلة متفرقة غير مترابطة لسلوك الأستاذ كلها تشير إلى تعمده أن يسقط الطالب في امتحانه. وفي قضية حمزة على سبيل المثال يصبح الدين (نظرا لمركزيته في الوعي بالذات في مجتمعنا) هو الهدف الحقيقي مما قام به، وتنزع الأمور من سياقها لتتحول إلى مؤامرة تستهدف الدين نفسه بشكل مقصود ومباشر كما في اتهامات نشر الإلحاد، فمركزية الذات هنا تحتم أن يكون كل شيء يدور حولها، وذلك بدلا من النظر لما قام به حمزة كأمر عارض قابل للحدوث في سياقه الخاص، وبالمثال أيضا فإنه وبدلا من النظر لأنفسنا وفتح باب النقاش حول إمكانية أن يكون ما قام به هو بسبب تقصير أو خطأ داخلي اجتماعي تسبب في هذه النتيجة، كان الترجيح الأقرب هو أن ما حدث لم يكن ليحدث إلا بسبب عامل خارجي أثر فيه.

المشكلة الكبرى في مثل هذه النماذج التفسيرية الاختزالية كنظرية المؤامرة هي أنها نماذج محكمة كدائرة مفرغة، فهي نماذج تملك الإجابة على كل التساؤلات ولا تفتح مجالا لمعارضتها ومن ثم فإنها تتغذى على نفسها باستمرار، وتتحول مع الوقت إلى هوس يتملك صاحبه. فمع كل أزمة توليد معنى سيصادفها المجتمع سيكون هناك سبب خارجي يتعلق بالذات وتصبح المؤامرة دائرة ندور فيها بلا نهاية. حمزة كان الجاني الذي يستهدف بكتاباته الدين ولكن لأنه اتضح أنه من خلفية إسلامية تربى في مدارس تحفيظ القرآن مما شكل أزمة معنى لمؤيدي هذا النموذج تحول بالتالي إلى ضحية آخرين كانوا هم السبب خلف ما حدث له، وعندما يواجه مؤيدو هذا النموذج مجددا أزمة معنى مع هؤلاء الأشخاص ربما يتحولون هم من جناة إلى ضحايا فكر أكبر منهم كان هو السبب خلف ما حدث لهم، وهلم جرا في مؤامرة تغذي مؤامرة، بدلا من التوقف برهة للنظر في أنفسنا ومجتمعنا من الداخل.

وللأسف لأن نظرية المؤامرة نموذج مغلق يتغذى على نفسه ويعيش في عالمه الزائف الخاص يه فإن كل محاولة لنقده تتحول لدليل اثبات جديد على وجودها. ولن يكون من المستغرب أن تتحول هذه المقالة أو كاتبها إلى دليل جديد على وجود المؤامرة إما – في أسوأ الأحوال – بأن يصبح الكاتب نفسه جزءا من المؤامرة أو – في احسن الأحوال – مخدوعا فيها ولا يستطيع رؤية الحقيقة!! 

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق