تأمُّلات في الحالة الثوريَّة *

الكاتب:

23 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

يبدو أن الإرباك الفكري الذي أحدثته الثورات العربية لا يقل عن الإرباك السياسي.. فمئات الأطروحات الفكريّة والفلسفيّة والسياسيّة التي تحدثت على امتدادِ عقودٍ عن التغيير، وأسباب التقدم، ومعيقات النهضة، ومأزق التحول الديمقراطي، وإشكالية البُنى الاجتماعية القابلة للاستبداد، أخفقت في التنبؤ بحدوث مثل هذا السيناريو.. وإذا كانت مفردة (ثورة) لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها (الحُريّة) كما قرر الفيلسوف الفرنسي كوندورسيه.. فإن فكرة الثورة من أجل الحُريّة والديمقراطية (أي ليست ثورات خُبز، أو ثوراتٍ طبقيّة بالمعنى الماركسي) ظلّت دوماً خارج الفضاء التداولي للأطروحات التي درست الواقع العربي واستشرفت مستقبله.. ولم يتوقعها حتى أكثر المُفكرين راديكاليّة.

وإذا كانت بعض الدراسات الحديثة والمقالات التي علّقت على الثورات العربية قد تبنّت نظريّة لينين بأنه لا يُمكن أن تنشأ ثورة في بلدٍ لم يكن يعيش (حالة ثوريّة).. فهذا يُعيدنا إلى التساؤل عن السبب الذي لم نجد فيه أحداً من الباحثين تحدث واكتشف – قبل اشتعال الثورات – وجود مثل هذه الحالة في العالم العربي.

أما حديث بعض الناشطين السياسيين عن قرب حدوث ثورات – كما تفعل قناة الجزيرة بالتقاط كلماتٍ قالها أشخاص في برامج فضائية قبل الربيع العربي وتتحدث عن ثورات قادمة – فلا يمكن اعتبار هذا الحديث (تنبؤاً ناتجاً عن تحليل).. لأن كثيراً من هؤلاء يتحدثون منذ ثلاثين عاماً عن قرب حدوث ثورات!.. وهم حين يرددون ذلك لا يتكئون على تنظير فكري بقدر ما يُمارسون تعبئة سياسيّة.. وهؤلاء الأشخاص غالباً يدخلون تحت تصنيف الناشط لا المُنظِّر.. ومن ناحية الخِطاب، هم أقرب إلى الشعبويّة السياسية منهم إلى الفضاء التحليلي.

وربما كان الإرباك الفكري الذي أحدثته الثورات العربية – رغم مرور عام – سبباً في تأخر صدور أطروحات رصينة تناقش أسباب هذا التغيير الجذري، والكيفيّة التي نشأت خلالها لحظة الانفجار، ومسارات التحول في الدول الثورية، والمُستقبل السياسي لهذه الثورات.. وقد ساهم التدفق الكثيف للمعلومات والأخبار، بتقليص مساحة التفكير والتأمل في هذه التحولات.. لكن مستقبل الإنتاج البحثي يشي بأن الاهتمام سيتزايد بهذا الحدث على مستوى التحليل والرصد والتفكيك والاستيعاب، باعتباره منعطفاً تاريخياً غير مسبوق في العالم العربي.. وأظن أن الدَور المُبكِّر الذي تقوم به بعض المؤسسات البحثيّة – كالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومركز دراسات الوحدة العربية – يستحق الاهتمام والإشادة.

وقبل أن أتحدث ببعض التفصيل عن شيءٍ من حال الإسلاميين في الربيع العربي، وبعض التحولات التي بدأت في الداخل الإسلامي.. أود أن أشير باقتضابٍ إلى مجموعة من الأفكار والتأملات عن الحالة الثوريّة العربيّة.. وسأحاول تكثيفها على شكل كبسولات موجزة، وقابلة للتناول مستقبلاً بشكلٍ أوسع من ناحية التحليل والاستشراف.

1- أعتقد أن الثورات العربيّة ستُحدث تحولاً كبيراً في المفاهيم والأفكار في الفضاء العربي، ابتداءً من لغة رجل الشارع البسيط، وحتى أكثر مناطق البحث العلمي عُمقاً.. فمفردات من مثل (ثورة) و(نضال)، وجُملة أن (الشعب يُريد) كان يتم التعامل معها لعقودٍ باعتبارها جزءاً من الخطاب الغوغائي التعبوي، الذي يتنافى مع المنطق البحثي والتحليل العِلمي اللذين يعتمدان على بناء تراكم معرفي هادئ، يُسهِم في صُنع تغيير مُتدرِّج، ويسعى للدفع بمسار التحولات الفكرية والذهنيّة عند الإنسان العربي بالتوازي مع مسار التحولات السياسية (التطوّر الهادئ والمتوازي)، ويعتمد على بناء الإنسان الديمقراطي قبل تكوين الدولة الديمقراطية، ويُعوّل كثيراً على التعليم، والتنمية، وتفكيك مناطق التأزم في فكر الجماعات الإسلامية، والدفع باتجاه العلمانية.

لكن الربيع العربي طرح مُجدداً على الطاولة البحثية إمكانية حدوث تحولات جذرية (ثورات) ينتج عنها تحول ديمقراطي في المجتمع العربي بوضعه الراهن، دون العبور على هذه المُقدِّمات الطويلة من التأهيل.. وأن البُنى التقليدية التي يتعامل معها الوسط البحثي باعتبارها كُتلاً ممانِعة لتقدم المجتمع (القبيلة، والتنوّع الطائفي والإثني، والإسلام السياسي ..الخ) لم تكن في حقيقتها مُعيقة لهذا التحوّل.. وأن بناء المجتمع المدني والدولة الديمقراطية أمر مُمكن في ظل وجود هذا التنوع.. وأن التجربة الأوروبية في التحول الديمقراطي عبر تجاوز البُنى التقليدية وتحييد الدين ليست هي الطريق الوحيد والحصري لبناء المجتمع الديمقراطي.

وإذا كانت الفيلسوفة الأمريكيّة حنّة أرِندت قد قررت عام 1960م في كتابها الشهير (في الثورة) أنه لا يُمكن تصوّر الثورات خارج (ميدان العُنف)، فإن الثورات العربية نقضت هذه القاعدة حين قامت بثورات سلميّة استطاعت أن تُسقِط أنظمة دون أن تتلطّخ أيدي الثوّار بالدماء.. وهو ما سيُسهم في إعادة التفكير مُجدداً في مفهوم الثورة.

2- يبدو أن الثورات العربية قللت من قيمة (المدخل الفكري والفلسفي) في التغيير.. وأعْلَت من شأن (المدخل الحقوقي والسياسي).. ورغم أنهما لا يتناقضان.. إلا أن الفعل الثوري على الأرض، وقدرته على اختزال مراحل طويلة من التدرج الإصلاحي البطيء.. ضخ في الوعي المجتمعي أن الفضاء الفكري والفلسفي يسعى دوماً إلى تعقيد البسيط، وتنظيم ظواهر الفوضى، والإغراق في توهُّم العوائق، ومحاولة إيجاد منطِق لمشاهد عبثيّة يمكن تجاوزها دون الحاجة إلى كل هذا التحليل والتفكيك.

أيضاً ساهم الزخم الثوري في التقليل من نرجسية المثقف المُتعالي على العمل السياسي.. وأعاد الاعتبار إلى المثقف العضوي (بالمعنى الغرامشي) الذي لم يمنعه الإنتاج الفكري والفلسفي من الانخراط في الفضاء السياسي، سعياً لدفع عجلة التغيير، والانحياز لخيارات الأمة، وتحمُّل تبِعات المواجهة الميدانيّة للاستبداد.

3- أن نشوء (الحالة الثورية) في المجتمعات لا يرتبط بمُجرّد تعاظم وجود النقص (الفقر، البطالة، تزايد الفساد، تفشي الظلم والاستبداد).. بل لا بد من وجود ما أطلق عليه هيغل (الوعي بالنقص).. وهي حالة من الإدراك الواعي بالحقوق المسلوبة، والإيمان بقِيم المواطنة، والنضال السلمي.. وينتج عن هذا الوعي السعي لتحقيق هذه القيم، ومواجهة استبداد السُلطة.

وهذا ما يفسّر أن النضال الحقوقي، والحركات الاحتجاجيّة، ومن ثمّ الثورات، قادتها ابتداءً مجموعات ينتمي غالبها – من حيث مستوى الدخل والتعليم – إلى الطبقة الوسطى..  حيث لم تكن دوافعهم الاحتجاجية مرتبطة بشكلٍ رئيس بالضغوط المعيشيّة.. بل كان لتردي الوضع الحقوقي وتقلّص مساحة الحُريّات حضوراً أكبر في دوافع هذا الحراك.

4- أن (الفعل الثوري) يأتي نتيجة طبيعيّة لانسداد شرايين الإصلاح السياسي.. ولكن الثورة – كتغيير جذري – لا تكفي لبناء دولة ديمقراطية دون وجود الحد الأدنى من الفكر المدني في المجتمع.. وبشكل أخصّ.. دون تمدّن الشريحة الكبرى في الحالة الإسلامية.. ففي حال كانت الشريحة الأوسع في الوسط الإسلامي تتبنى أفكاراً تتضاد مع الفكر المدني (كرفض القبول بالديمقراطية، والمجتمع المدني، والتعددية الإثنية والدينيّة والأيديولوجية) سواء كان ذلك لأسباب اجتماعية أو شرعيّة.. فإن مشروع التحول الديمقراطي في (مجتمع ما بعد الثورة) سيُعاني غالباً من صعوبات كبيرة.. وهو ما يجعل من الجهود الفكريّة التي تسعى إلى تمدين الحالة الإسلامية بمثابة طليعة مُهمة لتسهيل الطريق نحو التحوّل الديمقراطي.

5- برأيي أن الحَرَاك السلمي والثورات في العالم العربي رفعت من قيمة لوبيات الضغط والمجموعات التياريّة غير المؤدلجة، على حِساب التشكيلات السياسية التقليدية كالجماعات والأحزاب (كما للدور الريادي للمجموعات الشبابية في مصر، وتونس، واليمن، والمغرب، والكويت، والأردن)، وأعطت قيمة سياسية رفيعة لمواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك، وتويتر).. إلا أن هذه المجموعات التيّاريّة تبقى قادرة على التهييج، وعلى القيام بفعل احتجاجي / ثوري.. ولكنها غير قادرة على إدارة مسار ثورة.. فضلاً عن قدرتها على إدارة (مجتمع ما بعد الثورة).. وذلك بسبب افتقادها لعاملين مُهمين، هما: الناظم الأيديولوجي، والكُتلة التنظيميّة.

6- أن الثورات أنهت – في الدول التي قامت بها – مرحلة الاستبداد المُباشر للسلطة.. وهي المرحلة التي كانت مشجباً تُعلّق عليه أسباب تراجع معدلات التنمية، وارتفاع مؤشرات الفساد، وضمور المجتمع المدني ..الخ.. وأدخلتنا في (مجتمع ما بعد الثورة) الذي يستدعي تكثيف الجهد لاكتشاف المُعيقات البنيويّة (الفكرية والاجتماعيّة) للتقدم، التي تحدّ من تكوين مُجتمع الرفاه، وتأسيس دولة العدالة والحقوق.. لأن المجتمع بعد الانتهاء من الحشد الجبهوي لإتمام الثورة، مع ما يستدعيه ذلك من خفوتٍ واعٍ للخِلافات والتباينات سعياً للعمل باتجاه الهدف المشترك.. ستطفو على سطحه كل الخِلافات الإيديولوجيّة والإثنيّة والطائفيّة.. خاصة أن الفكرة الديمقراطية هي بطبيعتها محفِّزة لإبراز التمايز والخلاف بين تكوينات المجتمع وتياراته، وجعلها – غالباً – مَوَاطِن للتنافس الانتخابي.

7- في الدول الساكنة والمُستقرّة، حتى تلك التي ترزح تحت حكم أنظمة سُلطوية، يمكن الحديث عن وجود (مسار) ناظم لحركة المجتمع.. ويواجه هذا المسار عادة حالة من التدافع بين السُلطة من جهة، وقوى المجتمع (الأحزاب، الجمعيات، القوى التياريّة) من جهة أخرى، سعياً لدفع عجلة المجتمع باتجاه الإصلاح.. وغالباً تكون استجابة السُلطة لهذا الضغط المجتمعي إما بطيئة أو مُنعدمة.. ومع ذلك، فمجرد وجود مسار واضح ومُستقر، هو أمرٌ يتيح للراصد والمُحلل أن يرسم مساحات التغيير المُمكن في المجتمع، واتجاه هذا التغيير، وطبيعة الخَيَارات المُتاحة.

لكن في (مجتمع ما بعد الثورة) قد يدخل المجتمع في حالة (ضياع للمسار).. بحيث يصعب على الراصدين فهم تعقيدات الحالة الراهنة، فضلاً عن القدرة على بناء تصورات للمستقبل.. لأن المساحة مازالت مفتوحة على كل الاحتمالات.. والمجتمع قابل للدخول في مسارات شديدة التباين، تمتد من إمكانيّة التطور السريع والمؤسسي، وحتى الحرب الأهليّة.

وإذا كان الفِعل الإصلاحي يُمثل سعياً للتطور الهادئ في النظام السياسي.. فإن الثورات كما في كلاسيكيات الفلسفة الألمانية (هي قاطرة التاريخ)، وذلك باعتبارها تحوّلاً كبيراً وجذرياً في الحالة السياسيّة، واندفاعاً سريعاً في التاريخ.. ولكن هذا لا ينفي أن قاطرة التاريخ هذه مازالت تملك إمكانيّة السير باتجاهين.. فيمكن أن تصعد بالمجتمع درجاتٍ نحو التقدم، أو تهوي به دركاتٍ نحو التراجع.

8- أن الفِعل الثوري يصعب أن يتم في مجتمعٍ يعيشُ في داخله انقساماً حاداً على أساسٍ طائفي أو عِرقي أو جِهوي.. والحديث عن الانقسام لا يعني مجرّد وجود أقليات دينيّة أو عِرقيّة.. بل يعني وجود ما يُشبه الانقسام المتكافئ – في القوة أو العدد – بين طرفين أو أكثر (مثلاً كما في الحالة العراقيّة، واللبنانيّة، والبحرينيّة).. لأنه في هكذا مُجتمعات يطغى عادةً القلق من المكوّن الآخر على القلق من استبداد السُلطة.. بل قد تكون السُلطويّة السياسية بمثابة وسيلة يحتمي بها طرف ضد آخر.

ولا يعني هذا أن مجرّد وجود تنوّع متكافئ في الأعراق أو الطوائف وسط أي مجتمع يُمثِّل (انقساماً) بالضرورة.. فالانقسام يعني وجود حالة صراع سياسي ونفسي بين المكوّنات.. وإلا فثمّة مجتمعات تتضمّن تنوعات متكافئة (كما في تقارب أعداد العرب والأمازيغ بالمغرب) ولكن هذا المُجتمع لا يشهد انقساماً.

9- أن الثورة باعتبارها فِعلاً مُغامراً وجريئاً لا يُقدم عليها سوى طليعة محدودة وشُجاعة من المجتمع.. وتتميّز هذه الطليعة بكونها لا تعرف كثيراً في الحِسابات والتقديرات.. بل تُقدم باندفاع نحو مغامرة الثورة دون دراسة وافية للاحتمالات.. لذلك فالحراك الثوري عبر التاريخ لا تُشارك به سوى نِسب محدودة في المجتمع (تقديرات تُشير إلى أنه شارك في الثورة الفرنسيّة 2% من السكان .. وفي الثورة البلشفيّة 5% .. وفي الثورة الإيرانية 7% .. وفي الثورة المصريّة 10% .. وفي الثورة التونسية أقل من ذلك).. لكن المُدهش والمُبهر في الحراك الثوري، أن المجموعات التي تبدأ غالباً بإشعال فتيل ثورةٍ تنشُد الحُريّة وتواجه الاستبداد، لا يكون أفرادها ممن تعرّضوا سابقاً لانتهاكات أمنيّة حادة (اعتقالات وتعذيب).. بل غالبهم ممن ليس لهم سوابق اضطهاد، وغير مُحمّلين بذاكرة عُنف سياسي.. وإنما كانت دوافعهم حقوقيّة وسياسيّة بامتياز.

ورغم ضآلة نِسب المشاركين الفعليين في الثورات.. إلا أن من المُهم ألا تكون بقيّة فئات المجتمع – غير المشاركة في الثورة – ضد مبدأ إسقاط النظام، حتى لو كانت قلِقة من فكرة الثورة.. وفي تجربة ثورتي تونس ومصر، أعتقد أنه لو قام أحدٌ بإجراء استفتاء، وسأل جميع أفراد الشعب قبل بدء الثورة سؤالاً مُباشراً – وبعيداً عن عين النظام – مفاده: هل تُريد زوال حكم الرئيس زين العابدين بن علي أو حسني مبارك.. فربما سنجد – والأمر تقدير شخصي بالطبع – أن أكثر من 90% من الشعب يُريد إنهاء حكم الرئيس.. فالرئيس لا يحتمي بكتلة طائفيّة أو عِرقيّة تشعر أن بقاءها مُرتبط بوجوده في رأس السُلطة.. لذا فليس مع بقائه سوى دوائر الاستنفاع من حُكمه.. ولكن لو تمّ في ذات الاستفتاء طرح سؤالٍ آخر على الناس، مفاده: هل تريد القيام بثورة ضد النظام؟.. فأكاد أجزم أن الغالبية الساحقة من الناس ستكون ضد فكرة الثورة.. لأن صورة الثورة ترتبط دوماً في المخيال الشعبي بوجود العُنف والفوضى.. لذلك يكفي لنجاح أي ثورة أن تكون الغالبية الساحقة من الشعب مع فكرة إسقاط النظام.. حتى لو لم تكن مع فكرة الثورة.

10- أيُ تحليلٍ لانفجار الحدث الثوري في العالم العربي يتجاهل تأثير (ثورة تونس) هو برأيي تحليلٌ ناقص.. حيثُ أقدم بعض الباحثين على تفسير الحدث الثوري باعتباره نتيجةً طبيعيّة لتراكم الوعي المدني وتطوّر النشاط السياسي المُعارض في بعض المُجتمعات العربيّة.. لكن حقيقة هذا التراكم أنه كان ينمو بشكلٍ بطيءٍ.. وأحياناً يمرُّ بكثيرٍ من المُراوحة.. وكان فاقداً للقدرة على الحشد الجماهيري.. حتى غدا أشبه بنشاطٍ خاص بنُخبة سياسيّة فاعلة لم تُصَب بفيروس الإحباط الذي اجتاح المشهد السياسي العربي.

لكنَّ ثورة تونس استطاعت أن تُجري عمليّة جِراحيّة عميقة في وجدان الشعوب العربيّة.. واختزلت عقوداً من التهيئة النفسية والتحفيز المعنوي.. ونقلت فكرة التغيير الجذري من أثير الحُلُم إلى حيّز المُمكن.

في ثنايا ثورة مصر.. قمتُ بتوجيه سؤالٍ إلى عددٍ من الرموز الفكريّة والسياسيّة الذين كنتُ ألتقيهم في ميدان التحرير، مفاده: ما الذي حرّك الناس؟.. منذ عدة أعوام والحركات السياسيّة بمِصر تحاول حشد الجماهير في المظاهرات: ضد التوريث، والتمديد، والفساد، وتغوّل الأجهزة الأمنيّة.. ولم يكن يخرج في هذه المظاهرات سوى المِئات وأحياناً العشرات.. فما الذي تغيّر الآن وجعل الملايين يقتحمون الميادين ويهتفون بإسقاط النِظام!؟.. وكانت الإجابة التي اتفق عليها الجميع: تونس.

وكما كانت الثورة التونسيّة مُلهِمة للثورة المصريّة.. حَقَنت الثورة المصريّة ذات الإلهام في شرايين الشعوب العربيّة.. فأقدم بعضها على استلهام التجربة الثوريّة.. فيما قامت شعوبٌ أخرى بحركات احتجاجيّة ومظاهرات تُطالب بالإصلاح، وحظيت بِزَخمٍ غير مسبوق في تاريخها الحديث.

11- بدا واضحاً ومن خلال تجارب كثيرة أن المُمارسة العمليّة غالباً ما تسبق التنظير عند المجموعات السياسيّة، وفي الحالة الإسلامية بشكلٍ أخصّ.. ففي الداخل الإسلامي مثلاً تنخرط الجماعات والأفراد في مُمارساتٍ هي غير مشروعة نظرياً.. وبعد المُمارسة يأتي التشريع والتنظير لتبرير هذا الأفعال.. وفي الفكر السياسي الإسلامي منذ تاريخه الأول، ثمّة كثير من المُمارسات الواقعية سبقت عملياً مسألة البرهنة والتشريع، وبعد التطبيق تأتي عملية الإنتاج النظري لتشريع هذا الفعل، بمثل ما حصل في فِعل الاستفراد بالسُلطة والحكم الجبري، الذي نتج بعده كثيرٌ من التنظير الشرعي والسياسي الذي يؤكد مشروعيّة التغلُّب، كما في كتب الأحكام السلطانية.

وفي التاريخ الحديث نجد عشرات التجارب.. الجماعة الإسلامية في مصر تبدأ بالعنف عملياً، ثم تشرّع لموقفها.. وبعد عقدٍ من المواجهات تُعلن إيقاف العنف، ثم بعد سنين من الإيقاف تُصدر مراجعاتها التي تؤكد سلامة موقفها العملي.. وجماعة الإخوان تنخرط في تحالفات حزبية وانتخابية منذ الثمانينيّات قبل أن تحسم موقفها الرافض سابقاً لوجود أحزاب.. ثم بعد عشرة أعوام (في 1994م) تُصدر وثيقة (الإخوان المسلمون والتعددية السياسيّة) تؤكد قبولها بالعمل الحزبي.. وهي إذ تؤكد دوماً التزامها بالمرجعيّة الإسلامية.. إلا أنها تُقدِم دوماً على مُمارسات سياسية متقدمة، دون أن تُبرهن شرعياً على جوازها (مثل شرعية التحالف مع أحزاب علمانية، وشرعية القبول بنتائج الانتخابات في حال أنتجت فوز أحزاب عَلمانيّة).

في السعودية ثمّة تجارب كثيرة في هذا الصدد.. فتجد مجموعاتٍ كان منظِّروها يؤكدون دوماً أن الانتخابات ليست طريقة شرعيّة في الاختيار.. ثم حين تم إقرار عمل انتخابات بلدية.. كانت هذه المجموعات من أوائل من قدّم لوائح لمرشحين.. ومن ناحية أخرى نجد تنظيراً واسعاً يتكئ على تراث شرعي طويل للمدرسة النجدية يؤكد عدم مشروعية الانضمام للمنظمات الدوليّة (الكفريّة).. ثم حين تُقدِم الدولة على هذا الفعل، نجد أن كثيراً من الشرعيين يقبلون بذلك دون إنتاج نظري يُوضح مُبرراتهم في تجويز هذا الفعل، فضلاً عن نقاش الاعتراضات السابقة التي أنتجتها مدرستهم الشرعيّة.. وتجد أيضاً بعض الشيوخ الذين أكدوا عدم مشروعيّة دخول القوات الأجنبيّة للجزيرة العربية إبّان الغزو العراقي للكويت (وكانوا بذلك مُنسجمين مع تراث أئمة الدعوة النجدية)، باتوا يقبلون بدخول القوات الأجنبية إلى ليبيا وسوريا لإنقاذ الثورات الشعبيّة.. دون شرحٍ وتبرير نظري لسبب هذا التباين الحاد في الموقفين.

وأنا هنا لا أهدِف بالطبع للقيام برصدٍ لهذه الممارسات.. بل للإشارة فقط إلى أن هذا الفعل بدا واضحاً أيضاً في (مُجتمع ما بعد الثورة).. فثمّة تيارات وجماعات وشخصيات من صميم الحالة الإسلامية، أقدمت على مُمارسات عمليّة لا تتوافق مع الإنتاج النظري السابق لها.. وهي بهذا الفِعل وكأنما تُخبرنا بقُربِ تحوّلٍ وشيك في التنظير لهذه الموضوعات كي تتوافق مع المُمارسة العمليّة على الأرض.

وحين أتحدث عن كون الممارسات تسبق التنظير، لا أقصد بالطبع التفسير الجدلي الماركسي للتاريخ (البنية التحتيّة تصنع البنية الفوقيّة) الذي يُشير إلى مستوىً آخر – مُرتبط بالبنية لا بالصيرورة الاجتماعيّة – من التأثير وصنع الأفكار.. وإنما عن حجم تأثير التفاعل السياسي والاجتماعي في تطبيق الأحكام وفهم مقاصد التشريع.

_______________________________________________

* هذه المادة مدخل لدراسة بعنوان: الإسلاميون وربيع الثورات.. المُمارسة المُنتجة للأفكار

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق