التحليل المكاني للربيع العربي – لماذا حصل هنا، لماذا لم يحصل هناك؟ 1 – 3

الكاتب:

21 سبتمبر, 2012 لاتوجد تعليقات

منذ أن اندلعت انتفاضة تونس والأسئلة تتوالى. لماذا حصل ما حصل؟ وكيف حصل؟ ولماذا الآن؟ أسئلة كثيرة تنتظر الباحثين كي يناقشوها لسنوات قادمة في محاولة تحليل هذا الزلزال الذي لم ينته بعد وفي محاولة توقع الأحداث القادمة والمسار الأفضل لها.

أحد هذه الأسئلة الملحة هو سؤال لماذا هنا؟ لماذا حصلت انتفاضات الربيع العربي في دول عربية معينة ولم تحصل في دول أخرى؟ سؤال طُرِح منذ بداية 2011 وهذه المقالة محاولة للإجابة عنه.

 

  • ·      الدمقرطة:

دراسات “الدمقرطة” Democratization أو “علم الانتقال” Transtology هو فرع من العلوم السياسية يبحث عن كيفية حصول التغيير في النظم السياسية والانتقال من شكل حكم إلى آخر، غالبا من نوع ما من أنواع الديكتاتورية إلى نوع ما من أنواع الديموقراطية. وهو يبحث ذلك على مرحلتين، المرحلة الأولى هي مرحلة “الانتقال”، التي يحصل فيها الخروج من نظام سياسي إلى آخر، والمرحلة الثانية هي مرحلة “الترسيخ”، التي تترسخ فيها قيم الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة مما يضمن عدم العودة للديكتاتورية، وهي مرحلة مهمة كون العديد من الانتقالات قد تعرضت لانتكاسة أعادت الأوضاع للوراء.

وقد برز هذا مجال من العلوم السياسية إلى النور بعد ما عرف بـ”موجة الديموقراطية الثالثة”، التي اجتاحت أغلب مناطق العالم منذ السبعينيات، فصالت وجالت من أوروبا الجنوبية إلى أميركا اللاتينية، ومن أفريقيا وأوروبا الشرقية إلى أطراف آسيا، ولم تبق منطقة من مناطق العالم إلا قد دخلتها الدمقرطة بدرجة من الدرجات باستثناء الشرق الأوسط الذي صُنِّف في هذا الحقل من الدراسات بوصفه منقطة عصية على الانتقال الديموقراطي، فصارت الأدبيات تكتفي فقط بمحاولة تحليل أسباب ما سموه بـ”الاستثناء العربي”، تارة بربط الموضوع بالدين الإسلامي أو ثقافة شعوب المنطقة، وتارة بمحاولة تحليل سلوك الطغاة العرب وتكتيكاتهم في تجنب الانتقال الديموقراطي، وأخرى بتسليط الضوء على الدعم الأجنبي لهذه الأنظمة ودوره في بقائها. ورغم وجود شبه إجماع في هذه الدراسات على عدم وجود أي ديموقراطية عربية إلا أنها تحدثت عن وجود شكل مميز من أشكال الديكتاتورية في الدول العربية يعرف بـ”الديكتاتورية التعددية”، وهي أنظمة الحكم الديكتاتورية التي تسمح بهامش من الممارسات التعددية.

في 2011 تغير كل شيء. اجتاحت الاحتجاجات كل دولة عربية (باستثناء الصومال ربما). ولكن كل دولة تعرضت لدرجة مختلفة من الاحتجاج، بعضها تعرض لاحتجاجات كبيرة مثل تونس ومصر، وأخرى تعرضت لاحتجاجات بسيطة مثل لبنان, بعض الاحتجاجات غلبت عليها الدعوة لإسقاط النظام وأخرى غلب عليها الدعوة لإصلاحه، بعض الاحتجاجات كانت سلمية وبعضها كان مسلحًا مثل ليبيا. فما الذي جعل الربيع العربي يأخذ هذا المنحى ويختلف من دولة لأخرى؟

تقصى عالم السياسة جان تيوريل – في بحث أنهاه عام 2011 – حالات الانتقال للديموقراطية حول العالم من 1972 وحتى 2005 وتوصل إلى أن احتمالية الانتقال إلى الديموقراطية تزداد في ظل الأنظمة التي تصنف كديكتاتوريات تعددية على عكس الأنظمة الديكتاتورية الأحادية. ليس هذا فقط، إنما وجد أنه كلما زادت هيمنة الحزب الحاكم في الديكتاتوريات التعددية قلت فرص الانتقال الديموقراطي. وعلى ضوء هذه الدراسة الحديثة سأحاول تحليل التوزيع الجغرافي للربيع العربي.

  • ·      ما الدول العربية التي شهدت انتفاضة في 2011؟

كي نحاول قياس الدول التي تعرضت للربيع العربي في 2011 سأضع 3 معايير أساسية:

أ‌)       حصول مظاهرات شارك فيها الآلاف يغلب عليها الطابع السلمي.

ب‌)     حصول تغييرات حكومية كبيرة بسبب الاحتجاجات السلمية.

ت‌)     سقوط رأس النظام بسبب الاحتجاجات السلمية.

وقد كان الأدق أن نقيس المعيار الأول بالنسبة المئوية للمشاركين في الاحتجاجات مقارنة بتعداد السكان لكن ذلك متعذر بطبيعة الحال، لذلك لجأت للقياس بالآلاف وذلك لأنه في كل الدول العربية كان حشد الآلاف قبل 2011 مسألة صعبة وتحمل مخاطر أمنية جمة خصوصا إذا كانت تطالب بإسقاط النظام أو بإصلاحات عميقة أو إذا كانت تنتوي الاعتصام المفتوح في ميدان رئيس.

وقد اشترطت هنا أن يكون الحراك سلميا في غالبه لسبب بسيط، وهو أن الثورات المسلحة ليست ممثلة لأغلب الشعب بالضرورة ولا تعتمد على قوة الدعم الشعبي بقدر اعتمادها على المعايير العسكرية التقليدية، كحجم القوات وتوفر السلاح والذخيرة وخطوط الإمداد وقواعد التدريب… إلخ، لذلك نجد أن الثورة الليبية انتقلت من انتفاضة مسلحة محدودة إلى ثورة مسلحة منظمة حين حصلت على منطقة حظر الطيران، وفي سوريا يعد التفوق العسكري للنظام من أهم أسباب استمراره إلى الآن.

بالإضافة إلى ذلك فقد استثنيت الدول التالية من البحث: السودان، الصومال، فلسطين، والعراق. وذلك لأن هذه الدول عاشت العقود الماضية في حالات مستمرة من الحروب والحروب الأهلية والكوارث الإنسانية والتدخل الخارجي، أو ما سأطلق عليه اسم “الاستثناء الحربي” الذي يجعل من المتعذر تحليل وضعها بنفس الطريقة التي نحلل بها وضع باقي الدول. فبينما كانت الدول العربية تشهد ربيعها كانت السودان تنقسم لدولتين بعد حربين أهليتين تعدان من أطول الحروب الأهلية في التاريخ، ومعارك المستمرة بين النظام في الخرطوم ومعارضيه في كردفان والنيل الأزرق وغيرهما، بالإضافة إلى عمليات القصف الإسرائيلي والأميركي على السودان.

أما الصومال فقد عاش العقود الماضية كلها ضمن حروب أهلية متكررة ووقعت البلاد بين الحركات المسلحة والقراصنة والمجاعات والتدخل العسكري المستمر من عدة دول أفريقية ومن أميركا والإتحاد الأوروبي.

أما العراق فلم تتوقف فيها الحرب منذ الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، التي ذهب ضحيتها مليون قتيل تقريباً، تلتها حرب الكويت ثم الحصار والقصف لمدة 12 عاما تقريبا انتهت بالغزو في 2003 ثم استعار الهجمات الإرهابية الغامضة والاقتتال الطائفي اللذان لم يتوقفا إلى تاريخ كتابة هذا المقال.

وحال فلسطين غني عن التعريف، الاحتلال وكافة مظاهره من استيطان وتهجير وقتل وأسر وتعذيب وتجسس وسرقة للمياه والموارد الطبيعية وتنفيذ عمليات الاغتيال وغير ذلك، كلها عوامل تجعل فلسطين دولة عربية لا يصح تحليل وضعها بمثل ما نحلل به وضع الدول الأخرى.

ولا يمكن هنا ضم سوريا لهذا الاستثناء رغم وجود الاحتلال والاستيطان الاسرائيلي للجولان السوري منذ 1967 وذلك لأن الحالة العام في سوريا لم تكن أبدا حالة حرب منذ وقف إطلاق النار في 1973، على عكس حالة الحرب الواضحة في الحالات الأربع السابق ذكرها.

فإذا وضعنا هذه المعايير تحت الاختبار لباقي الدول العربية التي لا تخضع للاستثناء الحربي سنخرج بالجدول التالي:

من هذا الجدول يتبين لنا أنه – وعلى العكس من التصور السائد إعلاميا– فقد شهدت عديد من الدول العربية كالكويت وجيبوتي والمغرب “ربيعها” الخاص بها في 2011، وليس فقط دول الثورات. وأيضا يتبين لنا أن الحالة الليبية لا تنطبق عليها معاييرنا للانتفاضات العربية وذلك لأنها نحت مسار الثورة المسلحة في أول أيامها، وهو ما سنتطرق له لاحقا.

وقد حصلت جيبوتي على نصف درجة في معيار سقوط رأس الحكم وذلك لأن الاحتجاجات أجبرت الرئيس على إجراء انتخابات رئاسية ولكنه ربحها وسط إدعاءات من معارضيه بأن الانتخابات كانت مزورة.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق