المشهد السعودي.. ومركزية المرأة

الكاتب:

9 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

رحل العام 2011 م بكل ما فيه من معجزات كونية، وبدأ العام 2012 م والمنطقة العربية سوى الخليجية تشهد حراكا سياسيا يزيل عنها قشور سنوات الاستبداد والتهميش, في حين المنطقة الخليجية تشهد تحركا تنمويا واجتماعيا وصناعة جديدة لنفسها كقوى سياسية ودينية تدير شؤون المنطقة, كل ذلك في الوقت الذي ما زال المشهد السعودي يعاود المشهد نفسه منذ أيام التسعينيات وإن اختلفت بعض الرموز, ويعيش كوميديا ليس آخرها ملاكمة المثقفين على أحد القنوات ولا تحريم أن تبيع المرأة وتشتري.

تتناسخ المواقف والأدوار وفي النهاية الكل يتقاتل على لعب دور البطل والمنقذ سواء التيار المثقف “الليبرالي” أو التيار الممانع “السلفي”, ومن هنا فإنني سأعتمد على الدخول إلى هذا المشهد من الفصل الأخير بصفته نموذجا ما يزال حيًّا يحكي أبعاد ما يحدث وراء الكواليس من حراك النخب السعودية وتغريدها خارج السرب بعيدا عن هموم المواطن الذي لا يهمه ما يحدث في بهو الماريوت ولا يشغله من سيبيع للنساء ملابسهم الداخلية!

سأقوم بمساءلة هذه التيارات من خلال استقراء سياقات مواقفها وقضايا الرأي العام التي تثيرها وتشغل بها عقول الناس, ما يحدث اليوم في الحالة السعودية هو تكرار لما كان يحدث أيام التسعينيات من تصادمات الصحوة بغير الصحويين والعكس, لكن الفرق اليوم أن العالم مسطح كما يعبر توماس فريدمان، والمعلومة اليوم لا يمكن أن تكون حكرًا على أحد، فالكلمة التي أطلقها الأستاذ صالح الشيحي سارت بها الركبان قبل أن يقوم من مقامه, وهنا الإشكالية ففي عهد التسعينيات كان الوصول إلى مثل هذه المعارك الفكرية ليس متاحا لأي أحد ولا يعلم مظانه إلا من كان مهتما بالحالة الثقافية والفكرية في البلاد, واليوم الجيل الجديد بأسره يشاهد قسرًا ما يجري من التساوم على حياته وحرياته وحقوقه من قبل هذه التيارات.

ولعلي أحاول تفكيك مسميات التيارين الأبرز في المشهد السعودي “المثقفين” و”الممانعين” وتحليلهما, قبل الحديث عن القواسم المشتركة التي نشاهدها في كل معركة فكرية.

-التيار المثقف:
بداية سأتحاشى أن أصف هذا التيار بالليبرالي, وذلك انطلاقا من قناعة مفادها أنه لا يوجد ليبرالي بالمعنى المصطلحي لهذه اللفظة في بلادنا, الليبرالية تحمل في طياتها مفاهيم ما ورائية وقيم وملامح، وما يمارس هنا هو تشبث بالجزء المركزي من المشهد الفكري السعودي “المرأة” لا غير، ولذا فضَّلت إطلاق مصطلح المثقفين على الرغم من كونه مصطلحا يصعب إطلاقه عليهم بالمعنى “الهيغلي القديم” أيضا لكنه على كل حال هو المصطلح الدارج لهذه النخبة التي تمتلك حق الكتابة والنشر والظهور في وسائل الإعلام -المرئية والمقروءة والمسموعة-, هؤلاء هم” محترفو الثقافة” في مجتمعنا، وهم القائمة التي تُدعى  لكل ملتقى ثقافي, لذا فهم ملتزمون بقواعد مشتركة يمكن أن تُقرأ في ما يسكتون عنه ولا يقولونه في نتاجهم الأدبي والثقافي, لذا أظن أن الشيحي قد اخترق وثيقة المثقفين “الافتراضية ” ولا أتوقع أن يدوم قلمه طويلا.

وهنا تجنبت إطلاق الليبرالية على هذه؛ وذلك لأن الليبرالية  لها سياقات لا يجرأ أحدهم على التصريح بالدعوة لها, فالتعايش والحرية والمدنية والمرأة مصطلحات يطلقها هؤلاء كثيرا في كتاباتهم لكنهم يتوقفون كثيرا أمام البوح بسياقاتها ومتوالياتها الفكرية التي تنتهي إلى استبدال الأرض غير الأرض والبشر غير البشر, وحين يهاجمهم أحد “”الممانعين” أمام الجماهير بأن الليبرالية كفر ومعصية وخزي وعار فهم يفضلون الهرب دائما للاحتماء بلافتة “وفق الشريعة الإسلامية” و”الخلاف السائغ” وهلم جرا لتنتهي الليبرالية في مشهدنا بليبرالية سلفيهّ! وللتعمق أكثر في سوسيولوجيا المثقفين السعوديين ينبغي أن ندرك أن هذه المجموعة من المثقفين لم تتخرج في جامعة القلعة في أسبانيا ولا في جامعة لوثان, لكنها نشأت وتلقت ثقافة هذه المجتمع وتراثه ودرست في تعليمه النظامي وتلقت ذات المناهج التي تبرأت منها لاحقا في أحد معاركها الفكرية مع التيار الإسلامي بحجة تفريخ الإرهاب, وهنا يجب أن ندرك أن المثقف والشيخ هو ابن هذا المجتمع ويتقاطع معه كثيرا في أنماط تفكيره وتحليله للمواقف والحوادث, وحين تواصلت هذه المجموعات مع المثقفين العرب وغير العرب فكريا واجتماعيًّا من خلال الدراسة الخارجية أو المؤتمرات والندوات العربية، لاحظ هؤلاء مقدار الانفتاح والحريات التي تعيشها هذه البلدان مما يتوافق مع سلوكيات البعض الذاتية, وهنا حاول هؤلاء استنساخ هذه الأفكار المنفتحة وإسقاطها على مجتمع تختلف طبيعته المادية والتاريخية، ولذا يعاني تيار المثقفين من أزمة الإسقاط كأداة تجمع أكثر نتاجه, فهم كثيرا ما يهتمون بالاتساق الداخلي لرؤيتهم في حين يكتفون باستقراءات بسيطة للواقع الاجتماعي والتاريخي السعودي، والشاهد على ذلك أن أكثر نتاج هذا التيار هو نتاجٌ لواقع افتراضي لا يمكن أن يمثل أو يحكي حال المجتمع السعودي, فالمجتمع السعودي كأي مجتمع بشري له مكوناته المعرفية والتاريخية والدينية التي تختلف عن تلك المجتمعات الملهمة لمثقفينا, وهنا تقف هذه المجموعة عاجزة عن غربلة الأفكار الحديثة وكذلك التراث لاستخراج مفاهيم وأفكار تقدمية تدعو للتطور والمعاصرة وتتفق في ذات اللحظة مع التصورات الإسلامية والأبعاد التاريخية  لهذه البلاد، ولذا لا غرابة أن يبقى مثقفونا يغرودن حول قضايا جزئية ويقدمون لنا نتاجا “منحلا” ويدعون إلى خطوات تقدمية تتمركز حول المرأة ظنا منهم أن هذه هي الخطوة الأولى التي يمكن أن تفتح على المجتمع أبوابا أخرى من التغيير.

-التيار الممانع:
وهنا سأتجنب أيضا استعمال مصطلح “السلفية” حيث إن السلفية أداة إنتاج معرفي واتجاه فكري وليست تنظيماًا فكريًّا أو حركيًّا, ولا يملك أي أحد الحق بأن يتحدث باسمها, فالسلفية لا تتمثل في شخص أو مجموعة غير معصومة، ولا يمكن أن تختزل في نتاج السلف الصالح فقط, ولذا فالسلفية بوصفه مصطلحا له عديد من الإسقاطات في الواقع المعاصر بين السلفية، والتقليدية، والحركية، والوطنية، والجهادية وغيرهم ممن يدعون أنهم يمثلون السلف, وسأبحث هذه الفكرة بشكل مفصل في مكان آخر ليس مقامنا هذا مجاله.

المجتمع السعودي مجتمع “محافظ” بطبيعته التاريخية والدينية، لذا فضلت إطلاق ” مصطلح التيار “الممانع” على التيار “المتحفظ”؛ نتيجةً لمنهجية هذا التيار ومركزيته في التعامل مع الواقع. وللتمثيل على  ذلك -لا أكثر- الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- كان أحد المجددين المعاصرين, وقد نشأ في مجتمع لديه كثير من الإشكاليات الدينية والفكرية, فقام بمجهود كبير ونتاج غزير في تصحيح كثير من المعتقدات والسلوكيات السائدة في عصره ومعالجتها, لكن دور التيار “الممانع” الذي حاول استنساخ أقوال الشيخ ومواقفه وإسقاط ما كتبه على واقع اجتماعي مختلف كثيرًا، وربما كليا عما كان عليه الشيخ وأصحابه, وبذلك أضر هؤلاء من حيث لا يشعرون بدعوة الشيخ التجديدية كما أضروا بالسلف الصالح حين تبنوا السلفية في جزئها الفرعي لا الكلي الأصولي, ولو أن هذا التيار “الممانع” واصل مسيرة الشيخ والسلف التجديدية باستخدام ذات الأدوات المعرفية التي كانوا يعملونها لتجديد الإسلام  بدلا من الجمود على كتب الشيخ أو السلف الصالح وإسقاطها على حياتنا اليومية, لذا فلا غرابة أن يجلس اليوم طلاب علم حول شيخهم ساعات طويلة يتناقشون ويتحدثون عن عبادة الأصنام، وتحليل مقالات الجهمية، والصلاة على القبور، في حين العالم ينتظر منهم حديثًا حول قضايا المجتمع الشاغلة، وتحديثا للتصورات الإسلامية ومعالجة مستجدات الواقع.

 ومن هنا يمكن أن أقول إن سبب تسميتي لهم بالتيار “الممانع” كون هذا التيار يقوم على قاعدة ومنهجية واحدة وهي المحافظة على المجتمع كما هو في عصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب, ولذا فمواقف هذا التيار كلها تعود إلى ممانعة أي جديد, ومحاربة أي مشروعات تقدمية أو تطويرية، وما حدث مع التلفاز والقنوات الفضائية والإنترنت شواهد على ذلك، سيسيولوجية هذا التيار تتركز حول “ردة الفعل” وممانعة أي جديد، وحين يتحول هذا الجديد إلى واقع مفروض فإن هذا التيار قادر على أن يستخرج لنا طرقا كثيرة للتعايش مع “الجديد” ومجاراته، كما هو واقع الإعلام الإسلامي والمواقع الإسلامية العنكبية وتعليم المرأة ومشاركة المرأة سياسيا في شؤون البلاد.

فالمنهج “الممانع” كما قلنا مع تيار “المثقفين” أيضا يقوم بدور كبير وجهد معرفي كبير في التواصل مع التراث الإسلامي لكن ذلك على حساب الواقع والحادث, فلا يتوهم أحد أنني أدعو إلى إخضاع الإسلام للواقع لكن الإسلام الحق والرسالة الخالدة لابد أن تكون واقعية تعرف الواقع ولا تجهله, وتتعامل معه ولا تغفل عنه, ولذا فالمجتهد لا يبني تصوراته على فراغ واقعي, فالتيار “الممانع” يغرق كثيرا في القياس على أقوال السابقين، وهذه ملاحظة مهمة أود تسجيلها هنا حول قواعد هذه المدرسة التي أضافت عمليا أصلا جديدا لأصول الاستدلال والاجتهاد وهو “القياس” لا على النص الشرعي وإنما على نصوص الفقهاء والعلماء الذين صدرت مقولاتهم لمعالجة واقع قائم, فليست نصوصا صالحة للاستدلال ولا صالحة لكل زمان ومكان.

-مركزية المرأة:
المرأة السعودية مختطفة بين هذين التيارين الذين تعود جل معاركهم الفكرية حول المرأة, المرأة السعودية المحافظة التي نشأت في بيئة إسلامية في حقيقة الأمر لا تحتاج إلى أكثر من الثقة, وفسيولوجيَّا حين تعطى المرأة الثقة من الرجل فستكون أكثر قدرة على الحفاظ على كينونتها من حالة الوصاية وفرض الأفكار عليها, فالتيار “المثقف” يتعاطى مع قضايا المرأة لذات المرأة في كثير من تجليات مثقفيه وسلوكياتهم الخاصة, وحين غردّ الشيحي حول قناعته بما رآه في بهو الماريوت, نسى المثقفون أبجديات حرية التعبير واحترام الرأي الآخر، وهاجموا الكاتب الشيحي بشكل لافت كأنهم يخشون أن تكشف هذه التغريدة ما هو أكبر وأطم, ولا نذهب قليلا من هذه الأحداث فالتيار “الممانع” الذي كان قد صدر له كثير من المقالات التي تناولت الشيحي قبل سنوات ورمته بكل أوصاف الليبرالية وغيرها، قد تغير موقفه من الشيحي بسبب تغريدة لا تتجاوز 140 حرف فقط, هكذا نخبنا المثقفة والممانعة مهووسة بالاستقطاب، فمقالة كاتب يمكن أن تجعل منه مثقفا تنويريا أو قد تجعل منه أسدا من أسود الإسلام وحماة الشريعة، وهذا ما يعرب عنه سلوك التيار “الممانع” وكذلك التيار “المثقف”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق