التيارات السعودية واختيار المعركة

الكاتب:

15 مارس, 2012 لاتوجد تعليقات

إن من يقلب صفحات التاريخ الاجتماعي السعودي سيراه تاريخا متواصلا في قرع الطبول والتحشيد للمعارك الاجتماعية واستعراض العضلات الفكرية, إن التاريخ الاجتماعي السعودي هو عبارة عن تاريخ معركة طويلة وشاقة ومنهكة وغالبا ما  تكون”ساذجة”, هذه المعارك التي يدخلها باستمرار أطياف من المثقفين السعوديين في إطارات مختلفة ومتباينة وفي حالات كثيرة يطول بالمثقف العمر ويدخل المعركة بشعارين مختلفين ومتضادين كما أن لاعب كرة القدم يلعب في حالات بشعارين مختلفين وأيضا اللاعب يخضع لإرادة السوق ويبحث له عن فريق جديد يحقق معه بطولة ًما فكذلك المثقف السعودي يخضع لإرادة السوق السيكولوجية, وفي حالات كثيرة عندما يـَخـْسر ويخرج فريقه من المنافسة يأتي المثقف السعودي ليتملق الطرف الآخر لكي يحنو عليه ويضمه إلى فريقه  ويرتدي “التي شيرت الآخر” ويواصل اللعبة وكأن شيئا لم يحدث, والتيارات السعودية تتسم بشيء من الغرابة إذ أنها في الغالب تُنكر من قبل من تُطلق عليه فالمدخلية والسرورية والتنويرية والأخوانية والقومية والتقدمية ومؤخرا الليبرالية والحداثة ينكر خصومها انطباقها عليهم, وهذه أحد خصائص مجتمعنا المبارك التي قلَّ أن تجدها في غيره, ومرحلة اختراع التيار مرحلة تستحق الوقوف عندها قليلا , فالمثقف السعودي يبتكر تصنيفا جديدا ويُفضل أن يكون “اسم التيار” موجودا في الخارج ثم يـَضع المثقف خصائصه وسماته وأقواله  _ حتى وإن كان خصمه يرفض هذه الخصائص والسمات والأقوال _ ثم يقوم بالعملية الأخيرة والأكثر دقة وتمحيصا بأن يفتش في دفتر ذاكرته ويتذكر أسماء الأشخاص الذين يكرههم ولا يرجوا  لهم خيرا في الدنيا ولا في الآخرة  ويجعلهم ممن ينتمون إلى التيار الذي ابتكره, ومن المضحك أن تعلم أنه في فترة من الفترات قبل شيوع مصطلح الليبرالية كان يستخدم مصطلحٍ “الامبريالي” ليوصف به بعض المثقفين السعوديين, إن معركة التيارات في القضايا الاجتماعية دموية والرحمة كلمة لا وجود لها في قاموسها و يُستخدم فيها كل الأسلحة المحرمة إنسانيا والضرب تحت الحزام في العادة يكون أكثر من الضرب فوقه والعبرة بنجاعة السلاح وفعاليته لا بقيمته الأخلاقية لذلك احتفلوا حينما أجري اختبار لسلاح التكفير وأثبت قدرته الفائقة في دك عظام الخصم.. أما سلاح “العرق” و”العائلة” فتراجعوا عنه ليس لأنه أخلاقيا لا يجوز استخدامه.. لا، فقط لأنه لم يكن سلاحا ناجحا و ضرره أكبر من نفعه.

ورغم صعوبة إقفال الأذن والعين عن هذه المعارك الطاحنة وتجاهل الجمهور المتعطش لرؤية “معركةٍ ما” فإن لم تكن في مجال السياسة فلتكن في المجال الاجتماعي.. دعونا نتجاهل كل هذا الحمق و نسأل على ماذا تتصارع التيارات و الانتلجنسيا السعودية وكيف يتحدد من ينتصر؟

 

صراعٌ على ماذا؟

الصراعات الكبرى التي خاضتها التيارات والانتلجنسيا كانت صراعات على قضايا اجتماعية في الغالب أما القضايا السياسية فنعم كانت هنالك مطالبات سياسية لكن لم تثر ردة فعل اجتماعية حقيقية بل كانت ردة الفعل من الجانب السياسي , المشكلة في التيارات السعودية أنها تريد خوض معركةٍ ما لإثبات وجودها.. وهذه المعركة ستكون اجتماعية لأنها أسهل وأقل خطورة لكن المشكلة التي لا يريدون الاعتراف بها أنهم لا يملكون الأدوات الحضارية لخوض هذه المعارك وحسمها فمثلا قضية قيادة المرأة أو دراسة الفتيات وهي من أكبر المعارك و شُغل بها العقل السعودي كيف تم الخوض فيها وكيف انتهت ومن انتصر فيها؟

أتذكر مقولة لأحد الأشخاص يقول عبارة معناها: “انتصرنا عليهم في قيادة المرأة وانتصروا علينا في جعل المرأة تبيع الملابس الداخلية”  لا أعلم ما هو تفسير مفهوم الانتصار لدى هذا الشخص لكن كل المعارك الاجتماعية السعودية التي انخرطت فيها التيارات المختلفة لم ينتصر فيها تيار فكري واحد .. لأنه و بكل بساطة التيارات لا تملك أدوات الحسم وبالتالي لا يمكن أن تنتصر!

فما معنى مثلا أن يكون 10 مليون سعوديا يرفضون نظريا قيادة المرأة للسيارة؟ هذه العبارة لا يختلف كثيرا أثرها في الواقع عن عبارة أن هنالك 100 مليون أمريكي لا يمانعون مبدئيا أن تقود المرأة السعودية السيارة.

دعك يا صديقي الآن من قضية أن كل السعوديين الذين طالبوا “بديمقراطية” إنما كانوا يتحدثون عن ديمقراطية تمثيلية ولم يخطر ببالهم ديمقراطية مباشرة كتلك التي كانت في اليونان ويكون للشعب حق التصويت مباشرة على القوانين, دعك من هذا ودعنا نتحدث عن مغزى المعارك الاجتماعية فما هي فائدة أن تُقنع فرد سعودي أو أفراد أو مئات أن هنالك خطر محدق ومخططات سرية و مُحْكمة وبعيدة المدى ستدمر دين الإسلام من أساسه.. وهذه الخطة لا يمكن تطبيقها ما لم تقد المرأة السعودية السيارة! وأنك أيها المتحدث استطعت بقدرتك الذهنية الخارقة إلى اكتشاف هذه الحقيقة, لنفترض أن الأغلبية اقتنعتْ بهذه الفكرة ما الذي سيحدث؟ لا شيء, وكذلك الطرف الآخر ماذا لو تحدثتَ لساعات أو كتبت صفحات تلو الصفحات وأثبت بالحجة والبرهان غير القابل للدحض أن قيادة المرأة للسيارة حق طبيعي وأن حرمانها منه أدى ويؤدي إلى تخلخل الاقتصاد ونشوء أخطار أخلاقية وكوارث إنسانية عظيمة.. أي الطرفين هنا انتصر؟ لا أحد لأن أداة الحسم قبل كل شيء وبعد كل شيء ليست في يد الأغلبية وليست في البراهين والحجج بل لدى السلطة,  لذلك كل التيارات والانتلجنسيا رغم كل اختلافاتها العريضة إلا أنها تتفق في شيء واحد وهو “محاولة نيل رضا السلطة” لأن كل التيارات تعلم أنه عندما تكسب السلطة في جانبك ستستغني عن حاجتك لإقناع أحد بفكرتك, ونعود إلى مقولة “انتصرنا عليهم في قيادة المرأة وانتصروا …الخ ” هنا الانتصار لا يعني شيئا سوى أنه ولعلــَّةٍ تعبدية لا يستطيع إدراكها عقل المواطن البسيط قررت السلطة أن تستمر بمنع قيادة المرأة للسيارة وتسمح للمرأة ببيع الملابس الداخلية, وبمعنى آخر وافقتْ التيارات إرادة السلطة ورغبتها في موقف وخالفتْ إرادة السلطة ورغبتها في موقف آخر.

 

– الحرية تعني المسؤولية :

يقول الرجل الطيب  برنارد شو في عبارة منثورة ولم أطلع على مصدرها ((الرجال يكرهون الحرية لأنها تعني المسؤولية)) ونستطيع براحة ضمير أن نقلب العبارة لتكون ((الناس يرتاحون للتبعية لأنها تعني انعدام المسؤولية))  عندما لا يكون لرأي الإنسان “العادي وليس المفكر الملتزم أو العالِــم” اعتبارا أو أثرا في الواقع وهو يعلم أن رأيه ليس مهما لدى الآخرين فهنا يصبح هذا الرأي ليس مهما حتى لديه هو , وبالتالي لا يهتم كثيرا بأفكاره ورؤاه لأنها لن تنفع أحدا ولن تضر أحدا ولك أن تتخيل الفرق بين درجة البحث والتمحيص والاختبار والاستشارات التي سيفعلها من يترشح للكونجرس الأمريكي ليبين وجهة نظره في مناهضة أو مناصرة فكرة الإجهاض ويقنع به ناخبيه وبين رأي رجل يقولها في مسجد أو مجلس والحاضرون يؤمون  برؤوسهم.

 وهنا أذكر قصة حدثت لي فقد طُرحت قضية التدخين ودور الدولة فيها فقال صديقي: المفترض على الدولة أن تمنع بيعه مطلقا وتصادره من الأسواق وبما أني من المدرسة التي تقول كلما كفت يد الدولة عن حياة الناس الخاصة وأعطتهم حرية الاختيار كان أفضل نددت بهذا الموقف التوتاليتاري وقدمت حججا كثيرة ومطولة وحينها قرر هذا الصديق إنهاء النقاش وهمس ((قد تكون محقا.. لكن لماذا أُحــَمل نفسي إثم السماح بشيء محرم..)) والغريب أن هذا الصديق مدخن ويطالب بمنع التدخين وأنا لست مدخنا وأرفض أن تتدخل السلطة في هذا الشأن, إن هذه الحالة التي تبرز فيها العقلية “الورعية” بالمفهوم السعودي الفذ! هذه العقلية تستمد شرعيتها من خلال أن الآراء غير معتبرة ولا يعتد بها فلذلك يقرر الفرد السعودي حينما يوضع بين ثنائية “إمكانية ارتكابك إثم – يقينك بعدم ارتكابه” سيختار الخيار الثاني بشكل فطري لأنه حتى لو اختار الخيار الأول لن يتغير شيء ولن يكسب شيئا, وذلك في نظري أحد الأسباب التي تجعل الفرد السعودي لديه القدرة العقلية الهائلة أنه في خلال جلسة واحدة يفتتح حديثه بإمكانية وجود حياة خارج الأرض و ينهيه بإخبارك أفضل محل يبيع “المكسرات” وطبعا لا ينسى أن يمر بالثورة السورية وأن يبين لك بأن الحجاج بن يوسف قد تعرض لظلم من التاريخ وسامح الله من كتب التاريخ!

فالحالة السعودية لأنها تبعية لم تستطع إنضاج عقل واعي يستطيع التعامل مع القضايا بشكل جدي ويدرس أبعادها وتداعياتها على المجالين الخاص والعام لذلك لا اعتبار بالأغلبية فيها ما لم يكون لهذه الأغلبية اعتبار في مجال سن التشريعات ونقضها.

 

– معركة نيل أدوات المعركة :

إن كل المعارك الاجتماعية التي خيضت طوال العقود الماضية استنزفت الطاقات والفكر ولم تحسم شيئا و كانت مضيعة للوقت وما لم يكن قصد الانتلجنسيا أن تزجي وقتها و تـُعلم المجتمع بوجودها فهي أخطأت باختيار معركتها, إن المعركة الوحيدة التي تستحق أن تخاض في العصر الحالي بل يجب أن تخاض هي معركة امتلاك أدوات المعركة وإعطاء المجتمع حقه الطبيعي في القدرة على سن التشريعات التي يريدها والاعتراض على التشريعات التي يناهضها بانتخابه مجلس الشورى وتوسيع صلاحياته, ولتعلم كل التيارات والانتلجنسيا أن القضايا الاجتماعية التي تشارك في إدارة رحاها إنما هو نوع من الهروب من المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها وأنها بذلك ستكون مجرد أداة في يد السلطة لتشارك في إلهاء المجتمع السعودي عن قضاياه الحقيقية.

 

خاص بموقع ” المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق