رب “صمت” قال لصاحبه دعني

الكاتب:

10 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

في أمريكا عام 1964م يوم أن كان لون البشرة وحدَه كافيا ليمنحك أو يحرمك شيئا من حقوقك، توافد السود إلى أوهايو؛ ليشهدوا ميلاد خطبة أضحت بعد ذلك ملحمة نثرية، ترويها شفاه المناضلين والمحرومين في كل أقطار العالم، وقف مالكولم إكس يومها؛ ليؤكد للمهمشين السود أنهم ليسوا أمريكيين، قائلا إن كل الأجناس التي جاءت بعدنا من أوروبا أخذت حقها، كل عين زرقاء مرت على هذه الأرض أصبحت أمريكية، غير هذه الوجوه السمراء التي ما زالت ضحايا نظام يفرق بين لون وآخر، “أتظن أنني إن جلست يوما معك على طاولة طعامك، أشاهدك تأكل من صحنك ولا شيء يملأ صحني، أتظن أننا قد اشتركنا في العشاء؟”، كان الوتر الحزين الذي يعزف عليه مالكولم هو وتر الحقوق والانتماء، وتر الشعور بالغربة في أرض الوطن، وطن يمنح الحب لكل القادمين ويبخل أن يعطي حقوقا إلى بعض ساكنيه، شعور بالجفاء من أرض تدار بأيدي البيض وحدهم، إلا أنه مع ذلك كله لم يذهب إلى البيض ليستجدي حقوقه، كان عليه أن يقنع السود بادئ ذي بدء أن لهم حقوقا لم يأخذوها بعد. تلك الوجوه السمراء التي قدمت لتستمع إلى تلك الخطبة، غادرت بفكر غير الذي جاءت به.

-كان إقناع المهمشين أن لهم حقوقا لم يأخذوها هي الخطوة الأولى.

وليس بعيدا عن هذه الحادثة، فقبل عقد من الزمن تقريبا ظهر فيلم كرتوني ظريف بعنوان (Chicken Run)، يحكي عن مجموعة دجاج فُرِض عليها أن تنتج كل يوم بيضا لصاحب المزرعة، والدجاجة التي يظهر منها تقصير أو كلل فإن مصيرها إلى آلة الفطائر لتلقى حتفها هناك، غير أن دجاجة لماحة اسمها (جينجر) لم يرق لها ما تراه من ذل واستبداد، وآلمها كيف أن هذا البيض وهو ملكهن يمنحونه صاحبَ المزرعة لينعم به وحده؟ وفي يوم مهيب حشدت (جينجر) بقية الدجاجات، وأعلنت خطة هروب تخلصهن من هذا الاستبداد، كانت الخطوة الأولى لدى (جينجر) لا تتمثل في إقناع صاحب المزرعة بأنه ظالم، وأن عليه منحَ الدجاج بعض حقوقهن، بل أن تقنع الدجاجات عينها بأن لهن حقوقا، وأن ما يقوم به صاحبُ المزرعة ليس إلا ذلا واستبدادا ونهبا لثرواتهن، وعندما أعلنت خطة الهروب من فوق سياج المزرعة إلى أرض خضراء لا سيد فيها، لف الصمت والخوف وجوه الحاضرات، فتساءلت إحداهن -والبراءة تملأ منقارها- مَنْ سيصبح سيدنا هناك؟ مَنْ سيطعمنا؟ إلى مَنْ سنمنح هذا البيض؟ كانت فكرة السيد والعبيد جاثمة في عقولهن، أخبرتهن (جينجر) أن لا سيد ولا مزارع هناك، إنما الحرية وحدها ستملأ تلك الأرض الخضراء، نحن مَنْ سيقرر مصيرنا، ونحن وحدنا مَنْ سينعم ببيضنا، بدت تلك الأرض الخضراء حلما جميلا وأملا يافعا لتلك المغلوبات على بيضهن، إلا أن دجاجة يائسة رأت أن لا مفر من هذه المزرعة، وأن نسبة الهروب من فوق ذاك السياج لا تتجاوز واحدا بالمليون، عندها صرخت جينجر قائلةً: “إذن، مازالت لدينا فرصة!” لكنها تمتمت بعد ذلك، المشكلة ليست في السياج الذي يلف المزرعة، إنما في السياج الذي يلف هذه العقول.

-إقناع المهمشين أنهم قادرون على التغيير هي الخطوة الثانية.

ليس بعيدا أيضا عما سبق ذكره، ففي العقد الأخير من القرن الماضي شهد العالم مجازرَ لم يشهد مثلها من قبل، في رواندا عام 1994م كانت قبيلة الهوتو التي تشكل أغلبية السكان في البلد تقوم بإبادة عرقية لقبيلة التوتسي، وقد ذهب بسببها قرابة مليون نفس خلال تسعين يوما فقط، كانت الرصاصات والسكاكين التي تحملها أيدي أفراد تلك القبيلة لا تفرق بين روح شيخ أو امرأة أو حتى طفل صغير، قبلها بسنتين في جزء آخر من العالم بدأت تصفية أخرى على أيدي الصرب في سراييفو، أناس ذهبت أرواحهم ولا ذنب لهم غير اعتناق دين آخر، في العقد نفسه مجازرُ أخرى في زائير والشيشان على مرأى ومسمع من العالم أجمعين.

عندما أوشك ذلك العقد الدامي على الرحيل، أعلن منظمو جائزة نوبل عام 1999م عن أن جائزة السلام لتلك السنة ذهبت إلى منظمة مدنية تدعى بـ”أطباء بلا حدود”، وقف رئيسها آنذاك في أوسلو ليلقيَ كلمة المنظمة، غير أن الأسى أثقل لسانه، فراح يلوم كل الصامتين الذين وقفوا ينظرون إلى تلك المجازر ولم يصنعوا شيئا، راح يلوم الساسة الذين اختلطت لديهم مفاهيم الحياد والصمت، كان مما قال: “نحن لسنا متأكدين أن الكلمات دائما تحفظ الأرواح، لكننا نعرف تماما أن الصمت -لا شك- يقتل”.

-أن نخلع ثياب الصمت ونفعل شيئا حيال حق ضائع تلك الخطوة الثالثة.

***

يخالجني شعورٌ أحيانا أن الأمثال والحكم التي تسبغ الفضائل على الصمت وتعدد محاسنه هي حكم أنتجها أناس مستبدون؛ ليقنعوا مَنْ تحتهم بذلك، أقنعوهم أن الصمت حكمة، وأن السكوت من ذهب، لكنهم لم يخبروهم أن الصمت وحدَه لم يرجع حقا أو ينشر معروفا. إن الاستبداد والظلم ليسا مرتبطين فقط مع سياسات الدول والشعوب، قلِّبْ ناظريك في وجوه المهمشين في كل مكان، في البيوت ودوائر العمل وحتى مع العمال؛ لتعرف إلى أي مدى قد يستبد الإنسان، إن بعض الناس لو أعطي ولاية على شخص واحد فقط لظلم واستبد ولم يعطه حقوقه ولو “دمت عليه قائما”، تلك النفوس المستبدة تخشى ثقافة الحقوق؛ لأن الذين يجهلون حقوقهم هم أكثر الناس رضا بالواقع.
كان من أحب الأشياء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أيام الجاهلية حلف الفضول، عندما يُنصر المظلوم ويؤخذ حقه بقطع النظر عن عرقه أو قبيلته أو حتى دينه، الظلم ظلم، لونه قاتم وطعمه مر، لكنه لا يعرف لونا أو عرقا أو حتى دينا، فوقوع الظلم في أي مكان -كما يقول مارتن لوثر- تهديد للعدل في كل مكان.
إن نشر الوعي الحقوقي بين الأفراد هي الخطوة الأولى لرفع أي ظلم، وإقناعهم بأنهم قادرون على التغيير هي خطوة لا تنفك عنها، علينا أن نؤمن أن التغيير ورفع الظلم لن يجلبه صمتٌ، فاليوم مَنْ يقف على أعلى سيادة في العالم هو أحد أبناء أولئك المهمشين السود الذين عانوا طويلا مع الحرمان، لكنهم آمنوا بالتغيير، وفعلوا شيئا حيال حقوقهم فكان لهم ما أرادوا، بل حتى (جينجر) عندما خلعت ثوب الصمت وأقنعت مَنْ حولها بالتغيير ظفرت أخيرا بالهروب، وها هي اليوم مع صاحباتها تنعم في تلك الأرض الخضراء مع بيضها وبحريتها.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق