الديمقراطية بعيداً عن أرض المعركة

الكاتب:

21 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

بالرغم من أن قضية الديمقراطية والمشاركة السياسية كنهجٍ ضروريٍ لإدارة المجتمع لم تُحسم بعد في ساحة الجدل الفكري المحلي، فإن أجواء الصراع الفكري حول مركزية هذه القضية ، وكذلك حول جملة القضايا الأخرى التافهة التي تُثار بشكل مستمر ( كتأنيث محلات اللانجري، و خزي الماريوت وعاره) يجب ألا تكون مُلهية عن أهمية البناء المنهجي لفهم الديمقراطية، وإثارة التساؤلات حول وسائل فاعليتها، والمفاهيم التي تتعلق بها.

قد يبدو الاهتمام بجودة منتج “الديمقراطية”، والمفاهيم والقضايا التي تتعلق بها وبتحسين أدائها- مثل الشفافية، و المجتمع المدني، وصناعة السياسات والتشريعات، وعلاقة السلطات الثلاث ببعضها، وغير ذلك من القضايا – ضرباً من الترف الفكري أو انشغالاً بمسائل ليست ملحّة، وقفزاً على المراحل. وهذا الأمر قد يبدو صحيحاً إلى حدٍ ما إذا ماتم الإغراق فيه.

إلا أن مسائل ” ما بعد التصويت” (Beyond Voting) يجب أن تحظى كذلك بقدر من الهم الفكري المنهجي على مستوى النخب وغير النخب حتى في المجتمعات التي لم تتحصل إلا على نصف تصويت لمجالس بلدية مجردة من الصلاحيات.

حين ملاحظة الجدل المحلي بشأن “الديمقراطية والمشاركة السياسية”، فإن اللافت هو أن مساحة السجال الفكري تكاد تنحصر في مناقشة الجوانب الشرعية للديمقراطية. هل هي مشروعة أم غير مشروعة؟ هل التصويت على القضايا الشرعية مباح أم هو تحكيم لغير الشريعة؟ مالذي يجوز إخضاعه للتصويت وما الذي لا يجوز؟ من هم أهل الحل والعقد وهل يُشرع أن يكونوا بانتخاب الأمة أم لا؟ هل يجوز أن تشارك المرأة بالانتخاب والترشح؟ ومسائل أخرى تندرج ضمن هذا الإطار. وهذا المسلك لا شك في أهميته ومشروعيته في مجتمع مسلم يستمد الحكم على أفعاله وتصوراته من الشريعة. لكنه يجب ألا يُهيمن على دائرة النقاش بحيث تنجّر أطياف الإصلاح المهمومة بالشأن العام إلى التقوقع في إطار هل يجوز أم لا يجوز؟ وتنشغل عن سؤال ما هي صفات و وسائل الحكم الرشيد.

إن الإغراق في التناول الشرعي لقضية الديمقراطية والانقسام حول مشروعيتها من عدمها قد لا يكون محققاً لآثار نافعة تتساوى مع المجهود الفكري والاستهلاك الزمني الذي يتم إنفاقه لمصلحة هذا السجال. وذلك لعدة أمور، من أهمها:

أولاً: إن آفاق الصراع الفكري المحلي بشأن الديمقراطية مسدودة. فالأطياف المتدافعة لا تملك أية وسيلة لحسم الخلاف في ظل هيمنة طرف ثالث منتفع من حالة ممانعة الديمقراطية. بل إن الطرف المتنفذ المستفيد من حالة الممانعة هذه كثيراً ما يستخدم الحجج الشرعية التي يثيرها الممانعون لتسويغ فكرة الاستبداد ولتصفية خصومهم المؤمنين بالديمقراطية. وغالباً ما يتم ذلك باسم الشريعة وبخاتم أهلها.

إن المناخ غير الحر لا يسمح بالتدافع العادل للأفكار بغية الوصول للحقيقة، فضلاً عن أنه لا يوفّر أية آلية مجدية ومتفق عليها لحسم القضايا الإجتماعية والإصلاحية الجدلية. ولذا، فإن السجال حول التصور العادل لنظام الحكم الرشيد لن ينتهي إلى حالة وفاق اجتماعي في ظل وجود طرف مهيمن يستفيد من شرعنة الاستبداد. وخاصة حين يتفق أطياف المجتمع على أن ثمة مظالم عظيمة، وفساد مالي كبير، وتخبط في تحقيق المنجزات التنموية ، وكل ذلك يتم تحت مظلة عدم شرعية الديمقراطية، ورفض الأفكار الغربية المستوردة.

كما أن طبيعة النظام الفردي قد تسمح بتحول مفاجئ نحو اختيار المشاركة السياسية وفقاً للمزاج السياسي أو ظروف المرحلة. أي أن قراراً سياسياً واحداً يُتخذ بانفراد قد يحسم جدلاً فكرياً واسعاً استغرق الآلاف من الساعات والأوراق والكلمات. ولمثل هذا التحول في المسائل الجدلية شواهد عديدة انطفأ فيها النقاش الشرعي وسلّم فيها الجميع لحكم الحاكم.

وبالرغم من أن مسألة “الديمقراطية” تختلف عن الحالات الاجتماعية الأقل شأناً، إلا أن المتغيرات الإقليمية، والضغوط الدولية قد تدفع السياسي إلى خيار التوسيع الجزئي أو الصوري للمشاركة الشعبية من خلال التصويت مع الحد من الصلاحيات. وحينها سينتهي صراع (يجوز أم لا يجوز) ولكن مع نشوء نظام “مشاركة” معاق غير قادر على تحقيق إرادة الجماعة ومصالحها. وهنا يكون “ماراثون” الصراع الشرعي حول الديمقراطية كالمُنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.

ثانياً: إن التركيز على البناء المنهجي لتصور الديمقراطية الفاعلة، والاستيعاب المتقدم لأدواتها ومكوناتها، وقراءة تجارب الدول المتقدمة وكيفية تطويرها لهذا المنتج الإداري، ودراسة الواقع الاجتماعي المحلي من أجل التنبؤ بكيفية تعاطيه مع الديمقراطية، ومن أجل رفع مستويات الوعي بتحقيق المشاركة السياسية بطريقة راشدة ومثمرة ينبغي أن يحظى بمساحة جيدة من البناء والجدل الفكري يتساوى على الأقل مع مناقشة الحكم الشرعي.

إن هذا المسلك المنهجي مفيد على مستويات عديدة، أحدها تحسين التصوّر للواقع المعاصر الديمقراطية من أجل إسباغ الحكم الشرعي الدقيق عليها في الجملة، وعلى مكوناتها وأجزائها التفصيلية.

إذ تصور النازلة مرحلة أساسية لبناء الحكم الشرعي ” والحكم على الشيء فرع عن تصوره”. والنظام الديمقراطي حين يتم تناوله يجب ألا يتم اختزال تصوره في أنه ” حكم الشعب” أو ” التصويت على أحكام الشريعة”، فهذه طريقة ساذجة في توصيف نظام معقد ومتطور ومتجدد.

كما أن تصور آثار النظام الديمقراطي على المجتمع ينبغي أن يكون جزءاً من الإدارك الكلي لواقع الديمقراطية. فإدراك علاقة الديمقراطية بالعدالة، وتحقيق الأمن، والحرية، وتحجيم الفساد، وتحقيق التنمية، وتحسين بنية التعليم والصحة والخدمات ، والإنتاج وتحسين الاقتصاد أمر في غاية الأهمية من أجل الموازنة الشرعية بين واقع الاستبداد وواقع الديمقراطية.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن ثمة جهود منهجية محلية تستهدف تنمية الوعي والبناء المؤصل لقضايا الديمقراطية والإصلاح السياسي بعيداً عن أجواء الصراع وضغوطات المعركة. منها على سبيل المثال كتاب ” في الاجتماع السياسي والتنمية والاقتصاد: مدخل لتكوين طالب العلم في عصر العولمة لمجموعة مؤلفين من تقديم عبد العزيز القاسم” ، وكتاب “رجل السياسة: دليل في الحكم الرشيد للدكتور توفيق السيف”، إلا أن القضايا الجدلية هي الأكثر جذباً وحظوة في الساحة الفكرية بطبيعة الحال.

ثالثاً: إن أهمية تغليب تكثيف المناقشة المنهجية لمكونات الديمقراطية وأدواتها على حساب تكرار الدوران في دائرة صراع المشروعية يتأتى أيضاً من أن منتج “الديمقراطية” هو منتج حيوي ومتجدد ومركّب كما سلف الذكر. ولذا فإن مؤيدي الديمقراطية فضلاً عن ممانعيها حين ينشغلون بالصراع على حساب البناء، سيكتشفون أنهم في حالة من العوز الفكري للفهم الواعي لهذا المنتج وطريقة أدائه حين يقدّر الله أن يحين وقته.

ولذا فإن من المشاهد في واقع دول “الربيع العربي” قدراً من التمايز في التعاطي الواعي مع مخاض الديمقراطية بين المنظومات ذات الإدراك الرشيد للنظام الديمقراطي كقوى العمل السياسي في تونس، وبين المنظومات ذات التجربة الحديثة كالواقع في ليبيا. والأمم التي ظلت ردحاً من الزمان تحت هيمنة الاستبداد وهي تتعطش للحرية وللانطلاق نحو التنمية والبناء والإنتاج ثم تحصلت بعد جهدٍ عظيم على آلة “الديمقراطية”، من الظلم ألا تجد من يحسن استخدام هذه الآلة ويتعامل معها بطريقة منتجة حين تُسلّم له.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق