الطريق إلى ساحة التغيير (4-6)
دعاءٌ يتردد في الطُرُقات .. وروح البردّوني تطوف المكان

الكاتب:

28 سبتمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

بعد فراغنا مساء يوم الخميس من لقاء د.عبدالملك المتوكل.. عُدت بصحبة شوقي قبيل أذان المغرب بدقائق إلى ساحة التغيير.. وكما في ميدان التحرير المصري، تجد في كل مداخل ساحة التغيير بصنعاء شباباً يتولون مسؤولية تفتيش أي أحدٍ يرغب بدخول الساحة، للتأكد من هويته، وعدم حمله لأي أسلحة نارية أو أسلحة بيضاء.

ما يُميّز صنعاء عن بقية العواصم العربية هو الطقس.. ففي أكثر شهور الصيف سخونة تتراوح درجات الحرارة وقت الظهيرة بين 25 و 27 درجة.. أما في الليل فتقل درجة الحرارة غالباً لما دون العشرين.. ويسود الجو شيءٌ من لسع البرد الخفيف واللذيذ.. وهو الأمر الذي يهوّن على المعتصمين البقاء لمدة أطول في الساحات.. بخلاف بعض العواصم العربية الثائرة _ كالقاهرة ودمشق _ التي تصل فيها درجات الحرارة صيفاً إلى الأربعين.

كانت طُرُقات ساحة التغيير مُمتلئة بالعابرين.. ومكبرات الصوت ترج المكان، وتصدح بتلاوة القرآن وبالأدعية والأهازيج المحلية.. وقد انشغل البعض بالوضوء استعداداً للصلاة.. وبعد دقائق رُفِع أذان المغرب بصوتٍ جميلٍ عبر مكبّرات الصوت المُمتدة من موقع المنصة الرئيسية أمام مدخل جامعة صنعاء، وعلى طول الكيلومترات الأربع التي تُغطّيها خيام الاعتصام في الشارع الدائري.. وبدأ الناس يفرشون السجّاد بشكلٍ متتابع على طول الطريق.. وبعد قليل أُقيمت الصلاة.. فتراصّ الناس.. وكبّر الإمام.. وتلا بعد الفاتحة بصوتٍ رخيمٍ شجيّ آياتٍ من سورة النمل تحكي قصة ثبات الأنبياء والصالحين أمام جور أقوامهم، والتذكير بأن الله هو مصدر القوّة، والملجأ عند الخوف والرجاء ((أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)).. وفي الركعة الثانية قرأ الإمام خواتيم سورة النمل ((مَن جَاءَ بِالحَسَنةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون * وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).. كان الوقار يلف المكان.. والخشوع يسود الصفوف التي تمتد حتى الأفق.. في منظرٍ مهيبٍ وسط دقائق امتزج فيها الليل بالنهار، والخوف بالرجاء، والضجر من طول البقاء بالأمل بأن نصر الله قريب.

وكان جمعٌ من علماء اليمن قد أفتوا شباب الثورة بجواز أن يقوموا بجمع صلاتي الظهر والعصر.. والمغرب والعشاء.. وذلك بسبب قلّة توفر دورات المياه والانقطاع الدائم للماء.. لذلك عقِب التسليم من صلاة المغرب، أُقيمت بعد لحظاتٍ صلاة العشاء.. وبعد الرفع من الركوع الرابع، بدء الإمام بالقنوت.. وأخذ يُطيل تسبيح الله وتعظيمه.. ثم دعا بنبرة حزينة وكأنه يُغالب البكاء أن يكتب الله لهم النصر، وأن يحتسب قتلاهم في الشهداء، وأن يُرقِّق قلوب أفراد الحرس الجمهوري _ وهي القوات التي تحمي الرئيس _ على إخوانهم شباب الثورة.. وكان يُردد بتأثرٍ شديد: اللهم اهدهِم وأتِ بهم.. ودعا أن يجزي الله المُعتصمين على ثباتهم لنُصرة الحق وإقامة العدل، وأن يكتبهم من المُرابطين في سبيل الله.. وكانت الحشود خلف الإمام تضج بالتأمين، وأيديهم لا تفتأ تتعالى في السماء.

*    *    *    *

بعد الصلاة.. وعلى وقع ضوءٍ خافتٍ مازال يغالب الليل.. تجولت مع شوقي في بعض طُرُقات ساحة التغيير.. فذهبنا إلى المستشفى الميداني الذي أقيم في مسجد (الجامعة الجديدة).. وتحاورنا مع بعض المصابين.. ثم ذهبنا إلى خيمة مجاورة فيها جرحى المواجهات التي حصلت بمدينة تعز (وهي المدينة التي ينتمي لها شوقي).. وكان منظر الحروق والكسور لدى بعض الشباب مؤلماً جداً، ويشي بإصاباتٍ صعبةٍ تتطلب عناية طبية فائقة قد لا تتوفر في اليمن.

تجمّع في الساحة.. ويبدو في الصورة أحد المُندسين 🙂

بعد ذلك توجهنا إلى قُرب المنصة الرئيسية.. حيث كانت الأناشيد تصدح بشكل متواصل.. وكل حينٍ يقوم بعض السياسيين بإلقاء خطابات حماسية.. وكانت هناك مسيرات ليليّة لمجموعات من الشباب تطوف الطُرُقات، وسط خيام الاعتصام، وتهتف:

يا الله يا ذا المنّ  ،،  جنبنا كل الفِتن

يا الله يا ذا المنّ  ،،  احفظ ثوّار اليمن

يا الله يا رحمن  ،،  انصرنا على الطغيان

اعتصام اعتصام  ،،  حتى يسقط النِظام

ونحن نتجوّل في أرجاء ساحة التغيير، لاحظتُ أن هناك دعاءً يتردد عبر مكبرات الصوت في كثيرٍ من المواقع والخيام داخل الساحة.. كان صوتاً شجياً ومؤثراً.. ويدعو الله أن يُنزل عِقابه وعذابه على من ظلم اليمنيين وشرَّدهم وسفك دماءهم.. سألت أحد الأصدقاء: ما قصة هذا الدعاء الذي نكاد نسمعه في كل أرجاء ساحة التغيير؟

أجابني: بأن لهذا الدعاء قصة.. فبعد المحرقة الأليمة التي صنعتها السلطة في مدينة تعز ليل الأحد ونهار الاثنين (29 و 30 مايو).. قررت الثورة أن تُسمي الجمعة التي تليها يوم 3 يونيو (جمعة الوفاء لتعز).. وكان مشهد المحرقة وعشرات القتلى ومئات المُصابين قد فجع كل اليمنيين.. وكان الثوّار يلهجون بالدعاء بأن ينتقم الله من الرئيس وأعوانه على ارتكابهم لهذه المحرقة البشعة.. وبعد خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ زيد الشامي.. صلى بالناس صلاة الجمعة شخص آخر هو الشيخ عبدالحميد الشرعبي.. وفي آخر الصلاة قَنَت الشيخ الشرعبي بالناس، ودعا بهذا الدعاء الذي تسمعه في الساحة.. كان دعاء الشيخ الشرعبي مؤثراً جداً.. وقد ألحَّ فيه على الله أن يُنزل عِقابه على من فجع اليمنيين وارتكب هذه المحرقة.. وكانت الحشود خلفه تبكي تأثراً بما حصل، وتسأل الله أن ينتقم لهم.. ثمَّ.. ما إن فرغت الصلاة.. وبعد دقائق فقط.. حتى حصل التفجير في المسجد الذي كان يُصلي فيه الرئيس صالح داخل قصره بمنطقة النهدين.. وأُصيب الرئيس بذات الإصابات والحروق التي ارتكبها قبل أيامٍ فقط ضد ثوار تعز.. ووصل الخبر إلى الناس مباشرة.. فضج الجميع بالتكبير والتهليل والتسبيح.. وبكى كثيرون تأثراً بما حصل.. وآمن الجميع بأن الله استجاب دعاءهم، وانتقم لهم من قاتل الأبرياء.. ومنذ ذلك الحين، يتبارك الكثيرون بدعاء الشيخ الشرعبي.. لذلك تراه يتردد في كل أرجاء ساحة التغيير.

*    *    *    *

عقِب قضاء بعض الوقت أمام المنصّة الرئيسية بساحة التغيير.. ومتابعة بعض الخِطابات الحماسية وهتافات الشباب.. دعانا شوقي للعشاء في مطعمٍ قريب يقع في أحد شوارع الساحة.. وبعد دقائق من السير على الأقدام، دخلنا إلى مطعمٍ كبيرٍ يقع في الدور الثاني، ويُطل على خيام الاعتصام.. وهو مطعمٌ متخصص بالمأكولات اليمنيّة.. وفي قائمته كثيرٌ من المأكولات التي لم أسمع بها من قبل.. وعلى طاولة مُطلة على الشارع، جلستُ مع شوقي وهاني القحطاني وشابين آخرين، وانضم لنا بعد دقائق الدكتور وسيم القرشي (هو طبيبٌ في بداية الثلاثين من عمره، ومن قيادات الشباب في تعز.. ومن أوائل من خرجوا للتظاهر والاعتصام في الليلة الأولى بمدينة تعز يوم 11 فبراير).

أثناء تناول وجبة العشاء، سألت شوقي وهاني ووسيم عن تقديراتهم لعدد المُعتصمين في ساحة التغيير.. فقالوا لي أنه ليست هناك إحصاءات دقيقة.. ولكن تقديراتهم تتحدث عن أنه يتواجد في الساحة بشكل يومي من الفترة قُبيل الظهر وحتى آخر المساء ما يُقارب المائة ألف.. أما من ينامون في الساحة يومياً فعددهم يُقارب العشرين ألفاً.. وطبعاً في صلوات الجمعة التي تجري بشارع الستين، تتجاوز الأعداد في كثيرٍ من الأحيان المليون إنسان.

ندوة ليليّة في أحد شوارع الساحة

بعد خروجنا من المطعم، ذهبت برفقة د.وسيم القرشي إلى وسط الساحة.. وجلسنا هناك نشرب الشاي في قهوة شعبية.. وسمعتُ منه قصة ما حصل في الأيام الأولى للثورة بمدينة تعز.. وكيف بدأت بالاتساع.. ثم وصولها إلى صنعاء.. ومن ثم انضمام أحزاب اللقاء المشترك وعدد من القوى السياسية الأخرى.. وسألته عن تقديراته لأحجام ونِسب مشاركة القوى والمجموعات الحزبية والمستقلة في ساحات الاعتصام (هذا السؤال.. وسؤال أعداد المعتصمين في الساحات.. كنتُ أسألهما لكل الشخصيات التي التقي بها.. بهدف الوصول إلى أرقام تقريبية من مجموع ما سمعته من تقديرات).. أيضاً سألته عن بعض التمايز في المواقف والتصورات عند بعض القوى المشاركة في الثورة.. وما أسباب عدم الاتفاق؟!

ورغم اقتراب الساعة من الحادية عشرة ليلاً.. إلا أن الشباب في المساحة المُحيطة بالمنصّة الرئيسية لم يتوقفوا عن إطلاق الهتافات.. وإشعال الألعاب النارية.. وتشكيل مسيرات شبابية تحوي العشرات، تطوف شوارع الساحة، وتردد الأهازيج اليمنية بطريقة تُسمى (زامل).. وأمام المنصّة شكّل الشباب حلقة كبيرة.. وقام البعض بأداء رقصات شعبيّة على وقع ضرب الدفوف.. وكلما انتهت مجموعة من أداء رقصات محددة، تتعالى الهتافات المُطالبة بأداء رقصات أخرى (الحيمية.. الحارثية.. الهمدانية.. الحاشدية.. البيضانية… الخ).. حيث تعود كل رقصة إلى قبيلة من قبائل اليمن.

رقصات ليليّة وسط الساحة

تستمر الأهازيج والرقصات حتى منتصف الليل

*    *    *    *

بسبب انقطاع الكهرباء.. ما إن يحلّ الليل على صنعاء.. حتى تغرق المدينة في بحر من الهدوء.. وفي ساحة التغيير.. تبقى المساحة المقابِلة للمنصة الرئيسية صاخبة ونشطة حتى منتصف الليل.. وأضواؤها تشتعل بمولدات الكهرباء.. أما في بقية طرقات الساحة وشوارعها.. فبمجرد ما تتجاوز الساعة التاسعة مساءً.. حتى يجتاحها الظلام.. ويسودها السكون.. وتختفي المصابيح الكهربائية.. وتظهر القناديل.. والشموع.. وتخفت الأصوات.. ويلجأ الشباب إلى الخيام.

قبل حلول مُنتصف الليل.. ودَّعت د.وسيم القرشي.. وقررت أن أتجوّل وحيداً في طُرُقات الساحة وأزقتها قبل أن أعود إلى غرفتي.. كانت جرعات الهدوء الممزوجة بلسع البرد تمنح الروح كثيراً من التسامي والطمأنينة.. ومنظر العَتَمة المُمتدة وأضواء القناديل الخافتة والمنثورة في الطرقات، تجعل الأجواء أقرب لعذوبة الشِعر منها لخشونة الثورة.. عندها تذكرت صورة رأيتها معلقة على إحدى الخيام للشاعر اليمني الكبير عبدالله البردّوني.. وكم أبدع هذا الشاعر في التعبير عن وجدان الفقراء، ووجع المسحوقين.. شعَرتُ بأن روح البردّوني لا تفتأ تطوف في المكان.. وصوت قصيدته الخالدة يتردد بلهجته اليمنيّة الصميمة في كل أرجاء ساحة التغيير.. ليُخاطب المُستبدّين.. وسرّاق المال العام.. وأصحاب النفوذ، والجاه، والسلطة:

لماذا لي الجوع والقصفُ لك؟   ،،   يُناشدني الجوع أن أسألك

وأغرس حقلي فتجنيه أنتَ   ،،   وتُسكِرُ من عَرَقي مِنجلك

لماذا وفي قبضتيك الكنوز   ،،   تمدُّ إلى لقمتي أنمُلك

وتقتات جوعي وتُدعى النزيه   ،،   وهل أصبح اللّصُّ يوما مَلَك؟

لماذا تسود على شِقوتي؟   ،،   أجب عن سؤالي وإن أخجلك

لماذا تدوس حشاي الجريح   ،،   وفيه الحنانُ الذي دلَّلك

ففي أضلعي، في دمي غضبةٌ   ،،   إذا عَصَفت أطفأت مِشعلك

غداً سوف تلعنُك الذكريات   ،،   ويلعنُ ماضيك مُستقبلك

ويرتدُّ آخركَ المستكين   ،،   بآثامه يزدري أوّلك

ويستفسر الإثم: أين الأثيم؟   ،،   وكيف انتهى؟ أيُّ دربٍ سلك؟

غداً لا تقل تُبتُ.. لا تعتذر   ،،   تحسَّر وكفِّن هنا مأملك

غداً لن أصفّقْ لركب الظلام   ،،   سأهتف: يا فجرُ ما أجملك!

البردّوني الحاضر الغائب

*    *    *    *

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق