ينابيع الأنا الطائفية

الكاتب:

5 يوليو, 2012 لاتوجد تعليقات

في الزمن الطائفي يتحول الإنسان إلى مومياء. إلى كائن مشوّه. أحاسيسه، مشاعره، مواقفه، دموعه، انفعالاته، جميعها تحركها الصور والأصوات الطائفية التي تحتكر تشكيل مشهده. الأنا الطائفية تختزل سلوك الفرد فيتيبس ضميره، وتتحلل إنسانيته، ويموت فيه الإنسان، فتفيض روحه الطائفية من وسط جثته الهامدة.

 من هذه الروح الطائفية يُغذي الفرد تصنيفه لذاته وللآخرين، ثم محبته أو كراهيته لهم، ومن خلالها يبدأ رصد أخطائهم وتجاوزاتهم وشجب جرائمهم، ويبرر جرائم طائفته التي سُجن معها في زنزانة المصير الحتمي المشترك منذ ولادته، يبحث عن مخرج شرعي يريح به نفسه لكل ظلم تقترفه الجماعة أو أفرادٌ منها، أو شخص محسوبٌ عليها سياسيًّا، وإن لم يكن يعرف عنه سوى ما تتناقل وسائل الإعلام. الطائفة وزعماؤها معصومون من الزلل. والإنسانية توهب وتسلب بعد تحديد طائفة الشخص. منا أو منهم، هم ونحن هي عصا ميزانه للأمور وهي عالمه، فيصبح السُّني في بوركينا فاسو أقرب إليه من الشيعي في بلده، والعكس. لا قيمة هنا للإنسان كونه إنسانا ولا للجيرة والأوطان، في تجاهل شبه متعمد للانتماءات الطبقية والعقائد السياسية والفئات المهنية والتحالفات المدنية التي تجمع أصحاب المصالح المشتركة؛ عندئذ تتضخم الأنا الطائفية أكثر وأكثر، ويُختصر الفرد بهويته الطائفية، وكأن هناك ما يمنع الإنسان من أن يكون مسلمًا، وسُنيًّا، وسعوديًّا، حجازيا، وقوميًّا، وتاجرًا، ومحاميا، وناشطًا في حقوق الأقليات في آن.,

هذه الأنا الطائفية المتوترة دائمًا، لا تكتفي بالتصرف من منطلقات طائفية صرفة، ولا بالإطلال على الكون من النافدة الطائفية الضيقة، بل تتسابق لتحويل الطائفة إلى طائفية عبر هندسة عقيدة سياسية للجماعة بحيث يتم عبرها توجيه سلوكهم أو مواقفهم السياسية التي لا ينجح التجييش دونها، كما تصبغ المختلفين معها وتصنفهم مذهبيًّا تمهيدًا لتصفيتهم معنويًّا، وهذه التصنيفات بالمناسبة، ليست اختيارية بل يدفع لها الإنسان دفعًا أحيانًا، وسط مجتمع لا يرحم و منقسم هو الآخر طائفيًّا بحكم العصبوية الدينية للسلطة، وبفضل الصراع السياسي بين أكبر دولتين مذهبيتين في المنطقة. بهذا المستوى من التفكير ليس مستغربًا أبدًا الدفاع عن جرائم صدام حسين في حق الشعب العراقي ما دام الضحية لا يشاركه الانتماء .وليس مهما أبدًا أن تُهدم مدينة تاريخية كحمص فوق رؤوس ساكنيها ما دام الأطفال والنساء من الطائفة الضد، فالأنا الطائفية هي المخولة بإرسال موجات العواطف في كل تفاصيل أحداث حياته اليومية.

يرفد هذا النوع من الأنا الطائفية بنية تحتية (الأخلاق الأصلية) تخرج من أصلاب تاريخ المجتمع بحسب تشارلز تايلور والتي تشكل ما يسمى بالثقافة العامة للجماعة، تحتوي هذه الثقافة على “منظومة معقدة من المشاعر والترابطات الوجدانية الاجتماعية والمذهبية ومن الثقافة الشعبية التقليدية”، تتولى تعزيز الفخر بالانتماء للجماعة، وهو شعور حيوي ومقبول ما لم يشجع على التنابذ والعنف وعلى أحادية الانتماء، يجدر الانتباه هنا إلى الانتقائية التي تمارسها الأنا الطائفية في التعاطي مع الأخلاق الأصلية والاستعارة منها، في نزع الشرعية عن الطائفة المقابلة حيث يُطوَّر ضدها عقيدة تحقق هدف تجريد الناس من صفاتهم الإنسانية.

في المجمل تُشيد كل جماعة أسوارها الخاصة لعزل أناها الطائفية وتهيؤا للحرب الطائفية القادمة، حيث التخويف من الآخر حرفة يحترفها دعاة وسياسيون مهرة في دراسة نفسية الأنا الطائفية أو سيكولوجيا جماهيرها، وفي تجهيز الأنا الطائفية للتصادم والعنف، ثم للتفاوض على أشلاء المساكين كما يحدث عادةً بعد كل حرب طائفية، وقد تشارك هذه الأنا بوعي أو دون وعي في بناء خندق الطائفة الكبير، بعدما تستبعد الأفراد غير المنتمين للجماعة وتعدهم غير مرحب بهم، مستعينة على ذلك: بلغتها المشتركة وتاريخها النضالي المختلط بالأساطير، ورموزها وعباداتها وعاداتها وتقاليدها، حيث تشكل الذاكرة الحية الجماعية، التي تحفظ تمايز واستمرارية الجماعة ولحمتها بصفتها جسمًا بحسب توصيف الدكتور وجيه كوثراني في كتاب الطائفية والحرب.

دائمًا ما تقوم الأنا الطائفية باستحضار الماضي السحيق وقصصه وأبطاله وإسقاطها على الحاضر بصفته نسخة طبق الأصل عما حدث للجماعة الطائفية بالأمس، إن كانت انتصارات أو هزائم ملحمية، من أجل استنهاض همة الجماهير الطائفية التي ما كنت لتقف على رجليها لولا الحضور القوي للأنا الطائفية، المهم في عملية الاستحضار هذه هو تكريس النفسية الانعزالية النابذة والنافرة من التواصل مع الآخر، في مقابل التأكيد على المصير الطائفي المشترك وحجب رؤية المشتركات التي تقدمها الهوية الإسلامية و العربية.

في المحصلة النهائية، يحدونا الأمل بعقول تتكفل بكبت الشهوات الجنونية للأنا الطائفية، وأن تمنحنا المشتركات الإنسانية التحصين اللازم “ضد الطائفية”، من خلال التعجيل بالاعتراف بحق الآخر في الوجود وبالتعددية خيارًا سياسيا استراتيجيا قادرا على لجم نزوات التفكك التي تفرضها الأنا الطائفية على مجتمعاتنا العربية الهشة.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق