لم نكن طائفيين

الكاتب:

2 يونيو, 2013 لاتوجد تعليقات

 لا يمكن فهم مأساة الحالة السياسية العربية الجارية اليوم دون إدراك أهمية سؤال الهوية السياسية غير المجاب عليه حتى الآن أو ربما – وهذا الأسوأ – مجابٌ عليه بطريقة خاطئة. إن حالة الدول العربية التي تعاني بشكل متواصل من القابلية لمعارك طائفية أو عشائرية أو جهوية ومازالت عاجزة عن صنع هوية وطنية جامعة لكل أفراد الشعب هي في حالة مأزقٍ وجودي, والدولة العربية لم تكن حالتها هكذا دوما منذ تأسيسها كدولة حديثة, ففي مرحلة طرد الاستعمار والمد العروبي كان هنالك تسامٍ على الهويات الأولية _الطائفة و المنطقة والعشيرة_  وطموح لصنع دولة قائمة على الهوية العربية التي تعتبر الثقافة الإسلامية جزءاً لا يتجزأ من منظومتها. لم يكن الأفراد أصلاً يعرفون أنفسهم تعريفا طائفيا في المجال العام فضلاً على القادة السياسيين، بل كان مجرد ذكر الهوية الطائفية للقائد السياسي عيباً (1) , وفي الجيل الأول من المقاومة ضد الاستعمار لم يكن المقاومون ينظرون إلى أنفسهم نظرة طائفية ولم يسعوا لتحقيق الحرية لطائفتهم أو لمطالبها، وكانت الشعوب العربية تنظر إليهم بصفتهم أبطالاً قوميين، ونذكر مثلاً “سلطان باشا الأطرش” الذي رفض عرض فرنسا له بأن تُقام دولة للدروز في مقابل أن يتوقف عن قتالها، فسلطان باشا الأطرش لم يقاتل لأجل الدروز ولا لأجل دولة درزية بل قاتل لتطهير الأرض العربية من وجود المستعمر. وعلى خلاف ما نرى اليوم لم تكن المعارضة في الدول الخليجية تعِّرف نفسها طائفياً أو قبلياً للحصول على مكاسب لطائفتها، بل كانت المعارضة في دول الخليج منذ الثلاثينات قومية الطابع واستطاعت أن تنجح نجاحاً نسبياً في التغلب على الايديولوجيات والقوى القبلية والطائفية داخل البلاد وبين أبناء المجتمع .(2)
إذا كان هذا هو تاريخنا فلماذا الآن كلما تلفت المراقب يجد أن كثيراً من الدول العربية على شفا حرب طائفية أو جهوية سواء كانت هذه الحرب باردة أم ساخنة، وأن المحاصصة الطائفية أو الجهوية صارت مطمحاً لكثير من المعارضات؟!، ما الذي تغير في الأربعين سنة ً الماضية؟!، في نظرنا هناك عاملٌ مهم أدى إلى هذا التغيير وقاد إلى صعود خطاب الهويات الأولية في الساحة السياسية، وهذا العامل هو تراجع الأنظمة العربية أو المجتمعات العربية عن تعريف ذاتها بالهوية العربية في المجال العام, وتحول الأنظمة العربية وخاصة في الدول المركزية من أنظمة ذات مشروع عربي جامع إلى أنظمة تحارب هويتها العربية وتنزع نزوعاً قُطرياً تحول إلى حالة عشائرية وعائلية تحتكر السلطة وتلعب بمقدرات الشعوب العربية. هذا الانحسار للهوية والمشروع العربي أدى بالضرورة إلى صعود الهوية الأولية للفرد العربي، فتارةً كان ذلك رداً على استخدام السلطة للهوية القبلية أو الطائفية لاكتساب شرعية الحكم، وتارةً أخرى كان استجابة ً لزعم السلطة بأن المجتمع يريد افتراس بعضه وأن السلطة َ هي الحامية له من الطوائف الأخرى. وفي كلتا الحالتين كان هذا علاجا غير مجدٍ و يفاقم من المرض، ومتى ما كانت علاقة الفرد بالسلطة قائمة على هويةٍ أولية فهذا تسييس لها وإنذارٌ بانشطارٍ عمودي قد يحصل للمجتمع في أي لحظة.
يبقى السؤال لماذا لم يعد الناس يعرِّفون أنفسهم بالهوية العربية في المجال العام ويستخدمون الهويات الأولية والطائفية تحديداً عوضا عنها؟ هنالك مد ديني أصولي على مستوى العالم كله ومنطقتنا العربية اكتسحها هذا التسونامي, بالإضافة إلى وجود دول تعرِّف نفسها بتسييسها للمذهب صراحةً ً كإيران أو ضمنا كالسعودية، وبطبيعة الحال أي تسييس لهوية أولية يعني إزاحة الهوية العربية. العامل الثاني هو إجبار الفرد تعريف نفسه طائفياً للدخول إلى المجال العام بمأسسةٍ بشعة للفشل العربي في صنع دولة وطنية، و قد حدث ذلك في لبنان والعراق، ومن المفارقات أنه في العراق الهوية العربية غير صالحة للاستخدام في المجال العام لكن الهوية الكردية صالحة لذلك، والعامل الثالث هو أن هذه الهويات المذهبية عابرة للحدود، وهنا يكمن خطرها، فالحرب الطائفية التي حدثت في العراق أثرت على علاقة السنة والشيعة في الوطن العربي وفي أماكن متفرقة من العالم، و ساهمت في جعل الفرد العربي يعِّرف نفسه بهويته المذهبية وليس بهويته العربية, وأخيراً علينا أن نعترف بأن أحد أسباب تراجع الهوية العربية كهويةٍ يعرِّف بها الفرد ذاته في المجال العام هي أنها اُسْـتخدمت لقمع الهويات الأولية في المجال الخاص و اُســْـتخدمت لقمع الهويات الأخرى غير العربية – وهنا نؤكد أنه يجب أن يحصل أصحاب هذه الهويات على حقوق فردية وجماعية داخل الدولة باعتبار هويتِهم – وهذا كان من أخطاء بعض الأنظمة التي رفعت شعارات القومية, ورغم أن هذه الأنظمة لم تكن تعرف نفسها بهوية طائفية ولم تكن مجتمعاتها على خطر حربٍ أهلية إلا أنها فشلت في صناعة الهوية التي تجمع مواطنيها, فنظام البعث العراقي الذي استخدم المحتل الأمريكي بروبغاندا أنه طائفي ضد الشيعة وحاول أن يقنعنا بذلك النيوليبراليون العرب لم يكن طائفياً رغم كونه مستبداً, وأي دارس واعٍ للتاريخ يعلم أن اتهام نظام البعث بأنه طائفي كلامٌ فارغ وأن قيادات كبرى في نظام البعث العراقي لم تكن سنية و أن هنالك معارضين اغتالهم النظام وكانوا عرباً سنة، لكن أنظمة البعث في سوريا والعراق كانت ترفع شعارات قومية دون أن تطبقها كواقع في استراتيجياتها الداخلية والخارجية، وقد تحولت هذه الأنظمة من حكم الحزب إلى حكم العائلة والعشيرة، وفشلت في صنع هوية تجمع المواطنين، ولم تتعامل مع الأقليات غير العربية بشكل جيد، وهي في الأساس لم تتعامل مع المواطنين العرب باعتبار الهوية العربية التي تخلق المشترك بينهم، لذلك بمجرد زوال هذه الأنظمة أو ضعف سلطتها المركزية ظهرت الانقسامات الطائفية.
نحن لا نؤمن أن القومية العربية أيديولوجيا نقدم إجابات من خلالها على كل شيء، فضلاً على أن نؤمن أن القومية هي الحل, لكننا نقول أن تعريف الفرد العربي نفسه بالهوية العربية في المجال العام هو الحصن الذي يحول دون قيام حروب طائفية، والتاريخ خير دليل على ذلك، وأن استعادة التاريخ حين كان المد العروبي موحداً لمكونات الأمة وحين كان مشروع عربي يجمع جماهيرها من المحيط إلى الخليج مهم جداً في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ منطقتنا، لأنه في لحظة الصدام الطائفي والسعار الحالي نحتاج للتذكير أننا لم نكن دائماً بهذا الشكل، وأن هذا ليس قدرنا، وأننا قادرون على تجاوز هذا الصدام حين نخرج من تسييس المذاهب وتعريف أنفسنا طائفياً في المجال العام، وأن مشروعاً عربياً يؤكد على هويتنا العربية التي نتشارك فيها يمكنه أن يقف في مواجهة سيادة الهويات الطائفية.
1- انظر عزمي بشارة أن تكون عربيا في أيامنا. ص 60
2- خلدون النقيب. المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية. ص 126
Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق