الهوية “الرومانسية”

الكاتب:

29 أبريل, 2012 لاتوجد تعليقات

إن أحد تجليات ضعف الثقافة السياسية في السعودية بعد تجريف الحياة السياسية ومنذ إفشال الحركات الوطنية هو تصنيف الأفراد حسب انتمائهم الفطري.أي في اختزال هوية الفرد في انتماء واحد، هو انتماؤه الأصلي (عائلي- قبلي- طائفي)، وهي نتاج صورة نمطية تحتفظ بها الذاكرة المعبوث بمحتوياتها، والمفتقرة للخيال والتأمل والنازحة اتجاه السطحية والتبسيط والتزمت.

لذا فإن أزمة الهوية التي نعيشها اليوم ويشاركنا فيها محيطنا العربي نتيجة طبيعية للفجوة الحضارية بيننا -بصفتنا أمةً عربية تعثرت في النهوض- وبين الآخرين بين حقوقنا وواجباتنا وحريتنا مواطنين وأفرادا قبل أن نكون مُنتمين إلى جماعات “عشائرية” وبين أن نحيا حياة العبودية، فلا بد لهذا النوم في كهوف التخلف والاستبداد والرجعية من يقظة، وإنَّ ملامح اليقظة قد بانت مع ربيع الشباب العربي وآماله وتطلعاته، وإنْ قفز الكهول على ظهورهم من أجل اختطافه.

اليوم، بات لزامًا علينا بعد فشل الهويات “العشائرية” بمعناها الواسع في بناء تنظيم سياسي اجتماعي يواكب طموح الشباب في عيش حياة كريمة وعادلة، أن نصدع بسؤال صامويل هانتجتون: مَن نحن؟ أو العلاقة بين الأنا والنحن. خصوصًا مع تشظي الهوية الوطنية وتسيد القبائلية والطائفية للمشهد، ومحاولتها الحجر على الأصوات الوطنية الخارجة عن الطاعة، الكاسرة لاحتكار التمثيل، والنابذة للثنائية السياسية(السنية الشيعية) التقليدية، والمهيمنة على وجود الفرد داخلها وتاليًا على مواقفه وسلوكه وحتى تضحياته. فلا يوجد هوية أنا دون هوية نحن، وعلاج الأولى يفضي لعلاج الأخيرة، أنا الفرد ونحن المواطنون، أم أنا العنصر ونحن “العشائريون”. فالهوية لا تخرج عن كونها عملية تاريخية حضارية تنتقل بالبشرية من الهيمنة الشمولية للنحن إلى حالة متقدمة للتفرد بتعبير نوربرت إلياس. بكلمة واحدة، إعادة تقييم الفرد لذاته داخل مفهوم الأمة القومية دون التنكر للجماعة الأصلية.

أمام حملات إعادة “تأكيد الهويات القاتلة” العشائرية والطائفية بحسب أمين معلوف، واستفزاز أبشع ما في جوفها من عناصر تفاخر وتصادم ومواجهة و”عنف التحيز” بمفهوم ميشيل فوكو، لم يعد موضوع “الهويات” موضوع ترف فكري، بقدر ما هو بوابة النهضة المأمولة، بوابتها من خلال صهر الجماعات التقليدية المعتمدة على دغدغت المشاعر الغرائزية والعواطف الفطرية والمتأهبة دومًا للاقتتال، وبناء “هوية وطنية” تساهم في إعادة الاعتبار للعلاقات البشرية بين الأنا والنحن، وبين النحن والنحن الآخر.

لا تتصف الهويات بالجمود والتصلب، ولا من هوية مركبة من عنصر واحد، مهما كانت قيمته وقوة حضوره، فإذا طغى هذا العنصر على سلوك الفرد أو الجماعة وعلى مواقفها السياسية والفكرية فهو نتيجة الاستغلال الانتقائي للعنصر. والهوية ليست نهائية بكل تأكيد، فهي متغيرة شأنها شأن أي متغير، وعناصرها قابلة للمزج وللتحديث والتعديل، والإضافة والحذف، فهي عملية ممتدة طيلة حياة الإنسان وفي ظل عالم متعولم وسريع التغير يسير فيه الإنسان “بعربة تسوق” يختار من الحضارة العناصر التي تلائم حياته ليقتنيها، حيث لم يعد ممكنًا الركون للهويات الفطرية في تحديد مصالح الأمة ومسارها وتاريخها ولا شكل مستقبلها.

لابد للفرد أن يتأثر بمحيطه وظروف معيشته (أنماط الإنتاج) وموقعه الطبقي، والتنشئة الاجتماعية في تحديد العنصر الأكثر تماهيا معه في هويته والذي يُعطي للانتماء معنى، وبه تستملك الجماعات الأفراد المنتمين لها. في وضعنا الحالي لاشك بأن الفشل في صناعة “هوية وطنية ” للأمة ساهم بشكل كبير في تقوية الهويات الأصلية (عائلية- طائفية- قبلية)، يتضح ذلك أكثر من خلال عجز الدولة في التعبئة السياسية على أسس وطنية في القضايا الكبرى، والاتكال على الهوية الدينية للقيام بالمهمة وقد حدث ذلك داخليا في التصدي (للقاعدة) وخارجيا في حرب الخليج أو في مواجهة الحوثيين. كذلك تجاهل الفرد السعودي لفلكلور العيد الوطني وسفره لقضائه في البحرين أو دبي، أو الاستخفاف بمنهج مادة الوطنية وغيرها كثير من الأمثلة، ناهيك عن الاختلاف حول أحداث التاريخ ورموزه وما أفرزته من قلق الجماعات المذهبية والقبلية على تشوّه ذاكرتها الجماعية.

 

إن الإشكالية الكبرى التي تواجه الهوية الوطنية تكمن في وثوق الأفراد في الهويات الأصلية باعتبارها المنقذ والمُعبر عن مصالح أبنائها، أبناء الطائفة والقبيلة والمنطقة، وبتنا أمام حقوق الجماعات وتصدر زعماء العشائر للجدل والحوار والتفاوض السياسي، حيث تقوم الجماعات بالعمل السياسي المنظم لضمان تحصيل مصالحها، وقد أضحى الفرد وكأن لا وجود له خارج انتمائه الأصلي، وباتت المحاصصة هي أفضل الممكن، في حين أن المحاصصة تمنع الاستبداد وتوسع دائرة المنتفعين من الثروة الوطنية للزعماء فقط، لكن لا تؤسس لمواطنة؛ كونها تناقض جوهر الحقوق الفردية. يتعزز هذا الشعور في ظل غياب جدية المشاريع السياسية التي يتبناها النظام في المساهمة ببناء “هوية وطنية”، فقد مُيّعت المؤسسات السياسية مثل مجلس الشورى ومشروع الحوار الوطني وهيئات حقوق الإنسان وتحويلها من مشاريع سياسية إلى مشاريع خدمية.

لكن أمام هذا المشهد السريالي، وفي ظل هذه الصورة القاتمة، ليس أمامنا إلا الشروع في إقحام مفاهيم الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي والمشاركة الشعبية في الحياة السياسية. إن عملية تأسيس الهوية الوطنية الجامعة تبدأ من إعادة تعريف الفرد السعودي لذاته على أسس المساواة والعدالة والحرية، وانتماؤه الطوعي والنهائي للهوية الوطنية وللأمة القومية، قبل الجماعة الأصلية، وفرض هذه المفاهيم بصفتها قواعد أساسية في اللعبة السياسية.

خاص بموقع “المقال”. 

 

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق