تويتر مُتهكما

الكاتب:

20 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

“كلما ازداد تفكيري في حياة البشر، ازددتُ اعتقادًا أنّ من الواجب علينا أن نجعل شهود هذه الحياة وقضاتها: التّهكُّم والشفقة. فالتهكم بابتسامة يحبِّب إلينا الحياة، والشّفقة بدموعها تقدّس هذه الحياة، والتَّهَكُّم الذي أرغب فيه ليس فيه شيء من القساوة، ولا يستهزئ بالحب والجمال. وهو يهدئ الغضب، ويعلمنا أن نسخر من الحمقى والأشرار، الذين لولاه، لانحدرنا في هاوية الحقد عليهم” …أناتول فرانس

قبل ما يقارب ثماني سنوات اشتريت كتاب “رسائل فارسية”، وكان دافعي الأكبر لشراء الكتاب هو اسم المؤلف لا عنوانه. فكاتب الكتاب هو “مونتسيكو” الفيلسوف والكاتب السياسي الفرنسي، مؤلف كتاب “روح الشرائع”، أحد أهم الكتب في الأزمنة الحديث، وهو الأطروحة التي أثّرت في صياغة دساتير البلدان الحديثة، وأسّس فيه مونتسيكو لفكرة “الفصل بين السلطات”. كانت العلاقة بين عنوان رسائل فارسية واسم الكاتب غامضة ومشوّقة، لكن أسرارها تتفتح حال معرفة أن مونتسيكو كتب هذا الكتاب في بدايات شبابه، من دون أن يضع اسمه عليه، كي يتهكم وينتقد بشكل لاذع وغير مباشر بمجتمعه الفرنسي ونُخبه وحكومته.  

كان الكتاب معالجة لأوجه مختلفة، أراد مونتسيكو انتقادها في مجتمعه وقوانينه وأنظمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واعتمد أسلوب الكتاب على سرد متخيّل لرسائل رجلين من بلاد فارس، يزوران فرنسا في القرن الثامن عشر، ويكتبونها إلى معارفهم في بلادهم، ويضمنّونها ملاحظاتهم على ما يشاهدون في فرنسا. كان أحدهم (ريكا) يهتم بنقد المجتمع ونمط الحياة الباريسية، أمّا الآخر (أوزبك) فيهتم بنقد مظاهر الحياة السياسية، مثل رسائله التي تشنّع على الملكية، وتوصي بالبرلمان، كان مونتسيكو يهدف لتوجيه النقد بطريقة يحمي بها نفسه، لقد كان التهكم “القنطرة” التي دخل منها مونتسيكو إلى مرحلة تأسيسية مهمّة في عالم الفكر الحديث، وهو ليس وحيدًا في ركوب تلك القنطرة.  

وفي نفس ذلك الوقت، كنت معتادًا أن أحمل معي كتابًا لأقرؤه أثناء أوقات الاستراحة في وظيفتي السابقة. أذكر زميلا لي في العمل كان يشاكسني كلما شاهد في يدي كتاب جديد، إذ يقول: (لمَ هذا العنوان؟ وما فائدته؟ ولماذا تقرأ؟… إلخ)، واستمراره في الإلحاح على نفس الأسئلة جعلني أصدق أنه بالفعل “مستغرب” من فعل القراءة. ومع أنه كان بعيد جدًّا عن القراءة إلا أنه كان بالفعل صريحا وشفافًا ومباشرًا في أفكاره. وذات يوم هجم علي وقال ما هذا الكتاب؟ فأخبرته أنه كتاب يحوي “حكايات ساخرة” للفيلسوف الفرنسي “فولتير”. فرد عليّ بفرح: آها، أنت اليوم لا تستطيع أن تقنعني أن “حكايات” و”نكتا” كتبها فرنسي قديمًا تمثل أي أهمية لشخص مثلك يعيش وسط السعودية! رددت عليه: بل مهمة. وشرحت له كيف أن فولتير لعب دورًا مهما في رفع سقف التنبّه والوعي والاحتجاج قبل الثورة الفرنسية، بأدبه الساخر وفنه، وعبر إيصال الشعارات والنكت التي كان يصفها بأنها السلاح الأقوى كونها “الوحيدة” التي تدخل كل بيت. والثورة الفرنسية، من ثم، كان لها تأثيرات بارزة ومتنوعة على العالم كله. نظر لي صديقي والشك يقفز من بين عينيه: إذن تريد تقنعني أن نكت هذا الفرنسي غيرت العالم؟ رددت عليه وأنا أصطنع أمامه إجابة “باردة” كي أزيد في استغرابه: نعم، أظن كان لها أثر في ذلك!

لا أعرف إلى أي مدى من الممكن أن أدافع عن هذا القول، ولكني متأكد أن أدب فولتير الساخر قد فاق في “أثره التاريخي” أثر كثيرين غيره مّمن قدموا المؤلفات العميقة. (مع الأخذ في الاعتبار أن فولتير لم يقدّم أعمالا فكرية أو فلسفية عميقة، وحتى موسوعته الفلسفية قد تجاوزها الزمن). وأخمّن أن أثر فولتير العميق يعود إلى طبيعة المرحلة التاريخية “المفصلية” التي عاش فيها، حيث عدت مرحلة هدم للسائد، ودشّنت عصرا جديدًّا بعدها، أي أن التهكم مثّل فن “النقض” لبنية سابقة، ولا بد -كما نعرف- من “تخلية قبل التحلية”. وهو بهذا المعنى لدى البلاغيين العرب، فيعد أحد الباحثين أن مفهوم التهكم عند العرب قائم على بعُدين:  الهُزء (وهو المعنى الأصلي للتهكم عند العرب كما عند ابن منظور)، والهدم أو التقويض. والحصاد المعرفي المتواصل حتى مرحلة ما بعد الحداثة يؤكد هذا المعنى الأخير وأهميته، وهذا مما يعني أن التهكم لا يحمل الفكاهة فقط، بل رسالة معرفة أيضًا.

ولو لم تكن الفكاهة ومظاهرها وتأثيراتها تحمل بُعدا معرفيًّا ما وجدت اهتماما ومكانها لها في كتابات فلاسفة بارزين كأرسطو، وأفلاطون، وكانط، وشوبنهاور، وبرجسون وغيرهم… وأشهر من كتب عن التهكم بعمق هو الفيلسوف سورين كيركغارد (1813-1855)، في كتاب من أهم كتبه اسمه “مفهوم التهكم” (The Concept of Irony). وهو في الأصل أطروحة عن فلسفة التهكم لدى سقراط.، ووصل كيركغارد فيه لأن يعتبر التهكم بدء الفلسفة وختامها، وهو لديه “حافز” معرفي شبيه بـ”الشك المنهجي” لدى ديكارت. وكيركغارد فيلسوف وجودي كئيب، وأوروبي شمالي متدين من أتباع مارتن لوثر، ومع ذلك لديه اهتمام عميق بالفكاهة، ولا عجب في ذلك حين نقرأ قوله: “حيث توجد حياة يوجد تناقض، وحيث يوجد تناقض، يكون المضحك موجودا”. فربما إذن أن كلمات المتهكم لسن سوى “بنات ألمه”، كما قيل.  

ومع أن كيركغارد يرى أن التهكم يحرر صاحبه، ويقدم له نوعا من اللذة بسبب الاكتفاء والثقة، إلا أن التهكم فن رفيع ودقيق ومغامرة، فهناك من يرى أن “مليميترا” واحدا إلى أعلى قد يجعل المتهكم أضحوكة، ومليميترا آخر إلى أسفل قد يضلل المتهكم وسامعيه! والمسافة جد صغيرة بين التهكم والتبجح (Snobbism)، ويصف نيتشه أن المتهكم قد يلعب دورا مدمرا ويصبح كالكلب “النهّاش”.  

ومن أعظم الأوصاف التي راقتني عن التهكم هي أنهُ “ذكاء الحريّة”. وصف أحدهم مرة أن الطلاب يضحكون في الصف لأي شيء يحدث دون إذن المعلم؛ لأنهم يشعرون فجأة بنفحَة حرية. وهذا القول جعلني أتذكر “تويتر” ونفحات الحرية فيه، ففي وقتنا الحالي، قدّم تويتر بعبارته الرشيقة، ونزر كلامه الذي يأتي كخرز منظوم، وقَصده في عرضه فنّا بديعا سحب لبّ العقول والأفئدة، وصار موطنا مرضيا لها ولجهودها. وطريقة تويتر وأسلوبه مهمة في تركيزها للفكر والعبارات. والعبارة فيه تتنوع أصنافها الشهيرة بين خبر، ومعلومة، وفكاهة، وتهكم، ورأي، وتحليل، بالإضافة إلى استثمارها الواسع في الحوار والجدل والتعليق. ولكن تركيبة تويتر ليست السبب الرئيس في ازدهار فن كالتهكم، بقدر ما أن ذلك يعود إلى جو الإحباط لدى الفرد العادي ووقوعه تحت دائرة من الضغط والاستبعاد، في ذات الوقت الذي ازداد فيه معدل الوعي العام لدى الأفراد، وتوفرت لديهم القدرة على التعبير من خلال الإنترنت. وأتى التهكم اليوم ليكون “فاعلا” و”برّاقاً” في جو الحرية الإلكترونية، لأن عبارة المتهكم قد وصلت بعد أن قطعت كل الأشواط: الفكرة، والثقة، والموقف، واللغة، والهدف، والفكاهة…

والمرحلة التي نعيشها اليوم في السعودية وباقي الدول العربية هي مرحلة إعادة تشكيل فكري، ومن الممكن ملاحظة ذلك عبر عدد من الأحداث التي حتّمت هذا التأُثر الفكري، مثل الربيع العربي. وتعد مرحلة التحول (Transition) من أهم المراحل التي تزدهر فيها آليات “الخلخلة” و”النقض”. فكثير من أدبيات المراحل السابقة قد تصبح مستهلكة وآيلة للسقوط، وفي نفس الوقت تبدو صارمة في الجديّة والمحافظة حمايةُ لشكلها من الاختراق والخلخلة، وهنا يأتي دور التهكم بوصفه دواء ناجحا في تعرية هذا الوضع، وإبراز مفارقاته. وفي الأوضاع “المصطنعة” والزائفة، يكون التهكم أعظم مطلوب.

والتهكم ثقافيا يعني بإحلال مسار مكان مسار آخر، وفي تويتر كان التهكم صوتا بارزا تناغم بشكل واضح مع الثقافة الشبابية الجديدة التي تسيّدت في المشهد الإلكتروني. لقد كان تويتر مكانا لإسقاط الأساطير وقتلها؛ لأنه مناخ مفتوح للحرية والفكر والتعبير. في كل يوم تتوارد العبارات في تويتر وهي تحمل همّ إضافة شيء، وهدم شيء آخر. أي دقائق ينفقها المتابع في تويتر ستجعله يلاحظ كيف أن التهكم نزعة (Trend) شبابية متأصلة فيه. وهي نزعة تلعب دورا معرفيًّا أيضا، فعبارة التهكم تحمل معنىً لتضيفه، وليست مجرد عبارة فكاهية بلا هدف. فكما أن طريق “الإيمان” لا يتأتى فقط عن طريق المنطق والعقل، بل يتصيد النفحات الشعورية والروحية، كذلك شأن الفكر يتأتى أيضاً عن طريق التروّح وإعادة النظر من طرق مختلفة، وإدراج مناطق جديدة من الشعور معه. وللتهكم بصفته فنا وتعبيرا ساخرا وجود وافر في الكتابات الحرة في الانترنت، وله وجود أيضا في الإصدارات المطبوعة، مثل عدد من الكتب التي صدرت في مصر بعد الثورة. والتهكم فن تجده لدى القدماء مثل الجاحظ، والتوحيدي، أو حتى لدى شيوخ دين مثل الراحل عبدالحميد كشك. وللتدليل على أهمية هذا الفن، لا ننسى أن أهم وأشهر إرث بقي من أدبيات الحقبة الشيوعية وإنتاجها هو الرواية الساخرة “مزرعة الحيوانات” لجورج أورويل.    

وللتهكم دلالات متنوعة، وإن كان البعض يرى أن التهكم يؤكد على “الاستبعاد” باعتبار أن المتهكم يتمايز بشدة حين يقوم بالإغاظة أو التدمير، فبرأيي أنه يدلل أكثر على الانتماء والمشاركة، فالمتهكم يُصدر رفضه لجهاز أو مؤسسة أو فئات أو أشخاص، ولكن في ذات الوقت يؤكد أنه محسوب عليهم ومَعني بنقدهم. بمعنى آخر انتقاد المتهكم لعادة في مجتمع من “أميركا اللاتينية” قد يكون استهزاء وسخرية فقط، لكن انتقاده لعادة في مجتمعه يذهب لأن يكون تهكما، فهو يظل جزءًا منه، ومنتميا لإطاره الواسع. والتهكم يوصل رسالة نقدية بالغة، مع مساعدته للمتهكم في التخفف من أعباء النقد المباشر وضغوطه.

ومن المهم معرفة أن التهكم ليس باستهزاء وتعد لا ضابط له، بل هو فن أرقى من ذلك حين يُفاد منه على الوجه الصحيح. قرأت قديما كتاب “أخلاقيات التهكم” للفيلسوف السوري الراحل عادل العوا، وفيه تقرير وبيان لأهمية التهكم وصوره. وبجانب ذلك، ذكر الكاتب أقوالا جميلة عن التهكم في الكتاب، أنقل بعضها في بقية هذا المقال:

يوضح الكاتب أن التهكم يمثل المرآة المقعّرة التي نخجل حين نرى أنفسنا مشوّهين فيها، فنتعلم من قبح تغضننا ألّا نعبد أنفسنا، وكل من يصمّ أذنه عن سماع همسات التهكم، يحكم على نفسه بالوثوقية السكونية، وبالبله السعيد. والتهكم لا يهدف إلى نقعنا في ظل السخريات اللاذعة، ولا إلى أن نصنع دمية بعد أن نكون قد قضينا على سائر الدمى، وإنما يهدف إلى حملنا على ترميم ما بدونه لا يكون التهكم تهكماً: فكرٌ بريء، وقلبٌ ملهم. يقول “برغسون” أن المتهكمين يقفون في منتصف الطريق بين فكرتين، وليس من السهل إحراجهم، لأنهم يملكون السبل، ويملكون المخارج، والغوايات، والأحاجي، وهم كالمشعبذين والصعاليك الذين تضم جعبتهم ألف حيلة وحيلة.

والتهكم نداء ينبغي سماعه، يهيب بنا أن أتمّوا أنفسكم، صحّحوا ما عندكم، واحكموا بأنفسكم! إنه دعوة إلى إنجاز الحركة الفكرية التي تمكن من اكتشاف الرقم المضاد للأرقام، واكتشاف الأفكار المبيتة، وهو يمكنّنا من القراءة بين الأسطر، ومن فهم نصف الكلمة. إن التهكم تظاهر يحارب الظواهر، واصطناع يبدّد الاصطناع، ويميز لنا الجد الحقيقي الذي يصمد أمام النقد، فهو وظيفة فلسفية بامتياز، ووثبة إرهاف لا ينضب، إرهاف تفكير يختبر نفسه بنفسه. كما من شأن التهكم أن يضمن متانة الفكر وغناه. وهذا الغنى يقوم على الفوارق الدقيقة، وعلى التضاد، وعلى قلب الفكرة رأسا على عقب بآن واحد. والتهكم تورية، وهو”ذروة الفطنة”، وعكسٌ للتصلب والجمود، وهو يعي نقصه فيستمر متجددا ومتكاملا. والمتهكم لا يطلب التعمق، ولا يريد أن يلتصق بل يلمس المرضى لمسا خفيفًا!
وتبقى أعينه مفتوحة دوماً على ما ينطوي عليه العالم من أشياء تافهة، ومحدودة، ومتنافرة، ومؤلمة، فهو يعرف أن وراء الظاهر العظيم، قد يختفي، كنز عظيم.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق