النخب السعودية ما لها وما عليها

الكاتب:

6 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

تؤمن النخبة السياسية السعودية بمقولة تخيروا نخبكم فإنّ العرق دساس. لا تفكير في اختيار النخب من خارج الصندوق، ولا مفاجئات في التعيينات التي تحدث بين عمر مديد وآخر، كل شيء يمضي بتراتيبية قاتلة حد الموت، وأدوات تقييم لا تحتل الكفاءة العلمية و الإدارة والأداء الوظيفي أعلى القائمة، مع عدم نفي وجودها، مثلما تحتل الثقة و الولاء والنسب والتسلسل في الجهاز البيروقراطي للدولة.

إن دراسة النخبة السياسية وما يحيط بها من نخب فرعية من المواضيع المهمة في علم الاجتماع السياسي، ومن الأمور التي تُسهل استيعاب كيفية صنع القرارات السياسية الكبرى، وصياغة الاستراتيجيات، وتطبيق آليات الحكم، ومتابعة الإشراف عليها، وكذلك التوجه الديني و القيم العليا والسلوكيات.

تختلف النخب الفرعية المحيطة بالنخبة السياسية أو بـ”نخبة النخب” كما يُطلق عليها في بعض الدراسات بين النظم السياسية، من حيث الأهمية، والتأثير، فما يوجد في السعودية من نخب وزارية ودينية وثقافية، وأخرى موزعة على هيئة “تضامنيات” كما يسميها الدكتور عبد العزيز الخضر ساهم النفط في تكوينها، ليست بالضرورة موجودة بذات المكانة والمواصفات والسلوك والتأثير في أنظمة ملكية أو أميرية مشابهة، أو حتى أنظمة ديمقراطية. ففي النظام الأمريكي تشكل المؤسسة السياسية والعسكرية والشركات الكبرى النخب الرئيسية في الدولة، في حين يتراجع تصنيف التجار والعسكر لأسفل الترتيب السعودي.

يشكل الجهاز البيروقراطي للدولة الرافد الأول للنخبة الوزارية وهي تعتمد بدرجة كبيرة على العلاقات الشخصية مع كبار العائلة المالكة، حيث يعتبر مجلس الوزراء هو الجهاز التشريعي والتنفيذي للدولة، وهو أقرب الدوائر السياسية في عملية صنع القرار، تتوزع الوزارات غير السيادية بين التكنوقراط وكبار المشايخ، لكن تبديل الوزراء لا يؤدي عادةً لتغييرات جذرية في الحياة السياسية في البلد، ولا في هيكل الوزارة التي يشغلها، وأنّ أقصى ما قد يحدثه وزير هو تحسين  أداء وزارته، حيث تتسم العلاقة بالفردية وغياب المؤسساتية، بالإضافة لعوامل كالمركزية والبيروقراطية، أما خطاب الوزراء فيتسم في مجمله بالعمومية والإنشائية التي تفتقر إلى المضمون السياسي، ولا تخلو الخطب من عبارات المديح والثناء على منجزات “نخبة النخب”. هناك أيضاً عامل محدودية اختيار الطاقم المساعد للوزير، فأي وزير في الدولة، لا يستطيع إقالة أو توظيف كبار الموظفين بالوزارة إلا بأمر ملكي، لكن ذلك لا ينفي الدور المهم الذي قدمه بعض الوزراء في التنمية والعمران الذي حدث في السعودية منذ نشأتها.

 تعتبر النخبة الدينية هي الحلقة الأقوى بين النخب الفرعية حضوراً وتأثيراً في ذهنية صانع القرار وفي المشهد الاجتماعي، والأكثر قوة بين بقية النخب منذ الاتفاق التاريخي، كونها تلامس جوهر الشرعية السياسية، وصلب المبرر الأخلاقي للاستفراد بالسلطة، وهي تحظى باهتمام بالغ لدى “نخبة النخب”، لكن هذه المكانة تراجعت بشكل لافت بعد وفاة الشيخ محمد بن إبراهيم الذي تركزت معظم المناصب الدينية الرسمية الحساسة في يديه، قبل أن يتم توزيعها على مجموعة من العلماء أبرزهم الشيخ بن باز، وقد عُدّ ذلك التوزيع نجاح للحكومة نحو طريق بناء دولة المؤسسات. بشكل عام ماتزال النخبة الدينية تمثل ثقلاً لا يستهان به، لكنها لا تصل حدّ الشراكة الحقيقية في صناعة القرارات السياسية، مع إنها تتموضع عن يمين “نخبة النخب”، وتقيم موازنة بين قيمها المعلنة ومصالحها المادية التي توفرها لها هذه العلاقة المميزة. تركز النخبة الدينية على الشأن الاجتماعي وتسعى لتحديد مسار تشكله والتغييرات التي تطرأ عليه، وتراعي إيديولوجيتها الدينية في التعامل مع أي تحديث يمكن أن يؤدي لتراجع دورها، لكنها لا تجازف بالتصادم مع السياسي، إلا في حالات نادرة تنبع من جرأة وشجاعة ذاتية لدى الشيخ. لبعض المشايخ المحسوبين على المؤسسة الرسمية تجارب استقلال في الرأي، أو تمرد ناعم، لم يُحالفها النجاح، كتجربة عضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبد الله بن جبرين المشاركة مع الموقعين على بيان تأسيس “لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية”، فظهر اسمه في اليوم التالي في الإعلام الرسمي بـ”المدعو بن جرين” قبل أن يبادر بالانسحاب والتراجع عن تبني “البيان” الشهير في الإعلام الرسمي أيضاً. كذلك قصة الشيخ سعد الشثري مع قضية الاختلاط في جامعة الملك عبد الله. باختصار شديد، لم يعد الاستقلال في القرار واردا ضمن النخبة الدينية، كما أنها تتحاشى الحديث في السياسة ما لم تكن بطلب أو بتوجيه مباشر من السياسي، وباتت مقتنعة بالدور الاجتماعي المرسوم لها ولا تُطالب هي بالمزيد.

 تلعب النخبة الثقافية دوراً محورياً في عملية إنتاج الثقافة، وتساهم بشكل كبير في صياغة القيم والمبادئ العليا، وتسعى للهيمنة على ترتيب أولويات قضايا النقاش العام. تتوزع النخبة الثقافية السعودية على شبكة ضخمة من القنوات والصحف والمجلات التي تملكها النخبة السياسية، لكن ليس كل من يعمل ضمن هذه الشبكة هو جزء من الصفوة الإعلامية المنخرطة في توابع المشروع السياسي. أقحمت أحداث الحادي عشر من سبتمبر النخبة الإعلامية في عمق المشروع السياسي، بعد أن كانت على الهامش. استدعيت النخبة الإعلامية لأداء وظيفتين مؤقتتين: تحسين صورة السعودية المشوهة بعد الهجوم الإرهابي على نيويورك، ونزع غشاء القداسة عن الأصولية الدينية، وقد نجحت في البداية، بفضل الدعم السخي، ومهاراتها الفردية، وبفضل مساعدة المجتمع الحالم بإشراقه تنويرية. برزت عندها أسماء كثيرة نُسبت على عجل لتيار ليبرالي سعودي قد يولد من رحم الأزمة السياسية الجديدة وغير المعهودة للمملكة مع العالم، لكن بعد عقد من الزمان، خاب الرجاء، واكتشف أن الحمل كان كاذبا، وأنّ أي من هؤلاء الإعلاميين لم يحمل على عاتقه تبني ” الجنين الليبرالي”. لذا فمن الخطأ، الذي قد يصل حد الخطيئة أن توصف هذه النخبة بالليبرالية؛ لأن مبادئ الليبرالية تظهر شحيحة عند ممارسة النخبة لسلطتها الرابعة، وهذا يجبرنا بكل تأكيد على الفصل بين هؤلاء وبين الليبرالية كاعتناق وتطبيق، لكي لا يتكرر “الظلم الفكري” الذي جرى على العلمانية بين الأوساط الدينية. أضف إلى ذلك الرشاقة التي يمتاز بها هؤلاء الإعلاميين في التنقل ذهاباً وإياباً بين الوهابية والليبرالية دون حمل أي عبء إيديولوجي، لا من هذه، ولا من تلك. أكثر من ذلك، أخذوا عن الفردانية أبشع ما في جوفها وتنصلوا من كون حرية الفرد هي كنه الليبرالية، وراحوا يقايضون بانتهازية بشعة مكاسب فردية آنية بأخرى جماعية مؤملة.

و لمن يهوى رصد وتدوين الملاحظات، يمكنه تتبع إصرار هذه النخبة على أولوية “التنمية” على الإصلاح السياسي، لكن تفتيشاً دقيقاً في مقالات هؤلاء الكتاب قليلاً ما يقود إلى معنى واضح لمفهوم “التنمية”، ونادراً ما يُعثر لديهم على دليل محسوس يحدد ملامح أولية لشكل هذه “التنمية” المنتظرة، فضلاً عن سُبل الوصول إليها.

ينتهي بنا المطاف إلى خلاصة، أنّ النخب السعودية لا تؤمن بأي إصلاح سياسي قد يصل في أي فصل من فصول السنة. يتحدثُ النخبُ مع الشعب بلغة الأمس. إنها تعاني حالة قطيعة تدريجية مع الواقع، يمكن قياس التململ الضارب في أطناب الجمهور من خلال تفاعله معهم. إنّ أحداً من أبناء الجيل السعودي الجديد لا يعول عليهم في أحداث الانعطافة التاريخية. الناس قد قرروا الاتكال على أنفسهم في تغيير واقعهم المنتقل من البؤس إلى اليأس.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق