السعودية السلطة والشرعية والاستمرارية

الكاتب:

29 أكتوبر, 2011 لاتوجد تعليقات

يمكننا القول، بلا مجازفة، بأن شيئاً كبيراً قد تغير في ذهنية الجمهور العربي مع انطلاقة موسم سقوط الأنظمة، جعلتهُ- أي الجمهور- يُحدّث إدراكهُ لمكانتهِ في الدولة، ويتدبر في السلطةِ السياسية التي تحكمه وسلوكها، ويمعن النظر أكثر في كل ماله علاقة بالحياة السياسية ومفرداتها. أحد المفاهيم المُهمّة التي اقتحمت فضائنا العربي هو مفهوم “الشرعية السياسية”.

إن الشرعية السياسية في أبسط معانيها عبارة عن فعلي الأمر والنهي للسلطة، والقبول والانصياع للجماعة التي ارتضت لنفسها هذه المكانة، شريطة أن تحصل السلطة على حدٍ  أدنى من الطاعة والرضى الضمني  لدى الأغلبية، عبر إبرام عقد اجتماعي يفوض بواسطتهِ الشعب السلطة الحاكمة في التصرف في حلـّهم وحلالهم وفق شروط متفق عليها. هذا على المستوى النظري، أما في الوضع العربي الراهن فإن مصادر الشرعية المتنوعة لا تحتسب الشعب إلا في عملية التعداد السكاني، والكلمة الأولى والأخيرة للسلطة وأجهزتها الأمنية.

تكتسب الشرعية السياسية أهميتها في كونها المبرر لقيام السلطة السياسية، ثم لأفعال الحكومة المنبثقة عنها اتجاه الأفراد والجماعات ضمن إطارها السياسي؛ فأي سُلطة مهما كانت قوتها المادية تحتاج لمبرر أخلاقي عند منعها أو سماحها بعمل ما. بعبارةٍ مختصرة، الشرعية السياسية تصنع السلطة السياسية، وتسوّغ تصرفاتها، وتسهر على ديمومتها.

يمكن مقاربة الشرعية السياسية بحسب الدكتور توفيق السيف في كتابه ” رجل السياسة/ دليل في الحكم الرشيد” من زوايا مختلفة، منها ما هو قانوني، ومنها ما هو فلسفي، ومنها ما هو اجتماعي، والأخير هو ما يهمنا، حيث يسلط الضوء على الوصف والتفسير لما هو كائن الآن، لا ما يجب أن يكون عليه النظام، كما يغوص هذا الجزء في الفوارق بين الأنظمة والمجتمعات وما الذي يجعل من بعضها راسخاً ومستقراً، والآخر مهتزأ ومتقلبًا.

في كتابه “السعودية السلطة والشرعية والاستمرارية” سعى الباحث “تيم نيبلوك” لسبر أغوار ديناميات السلطة السياسة السعودية وأبعادها الكثيرة والمتشعبة. فمن المعروف أن الدولة السعودية مادة دسمة للبحث والكتابة بالنسبة للكثير من الباحثين؛ لكونها تحظى بمكانة خاصة في الاقتصاد العالمي؛ ولأنّ مستوى إنتاجها من النفط وأسعاره مؤثر في شرايين القلب الاقتصادي للدول العظمى، كما أن موقع المملكة الإستراتيجي في الخليج العربي يؤهلها لحماية هذه المنطقة ذات الحساسية المفرطة، أضف إليها قضية محاربة الإرهاب. إن ما سنتناوله من دراسة “تم نيبلوك” الغنية بالمعلومات هو المصادر الأربعة التي يستمد النظامُ السعودي شرعيته منها:

أولاً، الشرعية الإيديولوجية: حيث تلعب العقيدة الدينية دوراً مركزياً في تعزيز الشرعية السياسية في المملكة وذلك ناجم عن قيام النظام السياسي بالتحالف مع المؤسسة الدينية بتبني نظام عقائدي خاص، يتعلق بآلية تنظيم المجتمع، وكيفية حراسة إيمانه. بحسب ” تيم نيبلوك”: لطالما قدم النظام نفسه حامياً للعقيدة الإسلامية، ومساعداً على نشر الإيمان في أجزاء أخرى من العالم. وقد ساهم في نشر هذه الإيدولوجيا الوفرة المالية التي تحققت بعد اكتشاف البترول، بالإضافة لوجود الأماكن المقدسة (الحرمين الشريفين) التي يقصدها مسلمو العالم.

ثانياً، الشرعية التقليدية: يستند هذا المبدأ على أن الناس اعتادت على طريقة في الحكم متوارثة من الآباء والأجداد، لم يعرفوا غيرها، فانسجموا معها، كما هي دون قيد أو شرط. في السعودية، نجد بأن العادات والتقاليد تمدّ السلطة السياسية بحزمة من القوة اللامرئية لكنها محسوسة. فالقبائل تلعب دوراً موحداً ضد النزاعات رغم تراجع زخم القبيلة والقبائلية بعد تبدل دوائر المصالح في النظام الاقتصادي الجديد.

 ثالثاً، الشرعية الكاريزمية أو (الشخصية): وفحواه أن السعودية تعتمد على مقام الملك كأب وكشخص قائد للبلاد والعباد، يستطيع النجاح بما تتمتع به شخصيته من مواصفات من لم شتات المجتمع تحت عباءته التي تتخذ العلاقة بينه كحاكم وبين المحكومين شكلاً أبوياً.

رابعاً، شرعية فلسفة الرفاه والسعادة: تنتج هذه الشرعية عن نظام اقتصادي اجتماعي رعوي يقدم خدمات توفر الرفاه والسعادة من خلال أداء الحكومة لدور (الجمعية الخيرية) التي تكفل الشعب، وينجم عن هذه الحكومة الخدمية الأجندة، والخالية من أي مضمون سياسي، الحق بالحكم عن طريق التزامات توفر للشعب السُبل الفضلى لتلبية حاجاته.

يعتقد “تيم نيبلوك” في نهاية هذا الباب بأنه من الصعوبة جداً الفصل بين الشرعية الشخصية والشرعية التقليدية أو شرعية فلسفة السعادة. النظام السعودي رغم مزجه بين مصادر الشرعية الآنفة الذكر إلا أنه لا يتبنى فكرة أن الشعب مصدر مباشر للشرعية، كما أنهُ يستعيض عن مبدأ المساواة القانونية بفلسفة “بيعة الأغلبية الصامتة”. إعادة شريط الأحداث الماضية، ومراجعة القرارات الملكية الأخيرة، التي أتت لتؤازر هذه الشرعية يعطي صورة شبه كاملة عن مسار الإصلاح السياسي في المملكة وتجاهله لأية مشاركة شعبية. فيما يتعلق بالكاريزما تمّ إصدار قانون يجرم أي مس بمقام الملك أو منصب ولي العهد. أما الإيديولوجية الدينية فيكفي أن نتوقّف عند الدعم المادي السخي  للمؤسسة الدينية الراعية لها، وما تم اعتماده من مبالغ تصل لملياري ريال، منها 200 مليون ريال لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رغم كل اللغط الذي شابها في السنوات الأخيرة، كما تمّ منع وسائل الإعلام الرسمية من نقد مفتي المملكة أو أعضاء هيئة كبار العلماء. أما فيما يتعلق بالرفاه والسعادة فقد ضخّت السعودية أموالاً تعتقد أنها سوف تساهم في تحسين أوضاع الطبقة المحرومة، عبر وضع حد أدنى للأجور، ومحاولة حل أزمة السكن برفع قيمة القرض إلى 500 ألف ريال، ومعالجة قضية البطالة بالإعانة الشهرية للعاطلين.

بين حزمة القرارات الملكية كان للأمن نصيب لا يستهان به، فأُضيفت 60 ألف وظيفة عسكرية جديدة، ناهيك عن صفقات أسلحة تصل إلى 60 مليار دولار، فرضتها ظروف المرحلة الراهنة التي تعيشها المنطقة العربية، وإلا فإن الأنظمة الملكية لا ترتكز عادة على قوة العسكر كما تفعل الجمهوريات لصون شرعيتها، قدر ارتكازها على قدرة النظام على رسم حالة استقرار داخل الممالك وتوليد اعتقاد بأن المؤسسة السياسية القائمة هي الأكثر ملائمة للمجتمع.

إن النظام السعودي ليس كبقية الأنظمة العربية. مازال النظام السعودي فاعلاً ومتيناً، وقادر على إبقاء باب الأمل مفتوح. لكن المقلق في دراسة الدولة السعودية الحديثة هو التجاهل التام لكل ما يمت للمشاركة السياسية بصلة، فالبنية التحتية للدولة ليست مؤسسات خدمية وقوة عسكرية فقط. إن ارتفاع منسوب الوعي لدى العامة يستوجب إلحاق الشعب كمصدر أساسي ومباشر للشرعية، والعمل على تطوير البنية التحتية السياسية بالتزامن مع البنية الخدمية. هذان المساران في عملية التنمية ينبغي أن يسيران بالتوازي في عملية الانتقال من الحالة الطبيعية للحالة التعاقدية المدنية، وفقدان أحدهما مؤشر غير مُطمّئن.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق