من الذي اغتال النقابات المدنية؟ (المتنبي وحلم المؤسسات)

الكاتب:

7 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

واحرّ قلباه ممن قلبه شبمُ … ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ !

هكذا ابتدأ أبو محسد ونبي الشعراء الملقب بأبي الطيب المتنبي بكائيته التاريخية على لحظة الغرام السياسية التي جمعته بسيف الدولة في قصيدة هي من روائع ما صنع المتنبي ومن أكثر قصائده شهرةً حيث أبياتها المتعددة التي صارت حكماً ثابتة متداولة.

وحين قرأ الأديب الكبير محمود شاكر تاريخ المتنبي من خلال شعره وقدّم تحليلاً نفسياً له أدى به الحدس إلى أن المتنبي قد وقع في غرام أخت سيف الدولة.. ثم طفق شاكر يسرد أبيات المتنبي فيها واقفاً متاملاً مستنبطاً من الشعر ماخطر على بال المتنبي وما لم يخطر.

وإذا كان لي أن أقرأ شيئاً يسيراً عن المتنبي السياسي الذي خسر علاقته بالسياسة لمجرد أنه خسر علاقته بسيف الدولة فسأقول بأن المتنبي ربما كان سيتحسر على أن السياسة الحمدانية والمملوكية والإسلامية كانت “شمولية”.. وكانت مستبدة.. فبرغم مناصرة المتنبي للاستبداد إلا أنه سرعان ما أدرك مشاكله في تلك اللحظة التي غضب عليه فيها شخص واحد.. فكان ذلك الشخص هو كل شيء وكل السياسة وكل الدولة.. وكان “سيف الدولة”!

ربما كان المتنبي سيتحسر على  انعدام المؤسسات المدنية والأهلية واستقلال القضاء لأنه في حالة اتهام المتنبي كما حصل في الوشاية به.. فإن رأس الهرم في السلطة القضائية هو نفسه رئيس السلطة التشريعية والتنفيذية “سيف الدولة” الذي سيحكم بالضرورة طبقاً لهواه الغاضب وربما سيختلق التهم وربما وصف المتنبي بأنه على علاقات مشبوهة بالروم.. فهي تهمة المتنبي التي صنعها يوماً فرجعت عليه في دولة الاستبداد.. فالمتنبي كان يلمز بعض خصومه وخصوم سيف الدولة بأن لهم ذات توجه الروم وإن كانوا عرباً

“وسوى الروم خلف ظهرك روم … فعلى أي جانبيك تميلُ”

ولكن هذه المرة مال سيف الدولة عليك يا أبا الطيب لأن السياسة المستبدة تمشي تبعاً لهوى رجل واحد كنت تستخدمه يوماً ضد خصومك فنجحوا مرة في استخدامه ضدك.. فهو بلد لا تحكمه المؤسسات!

لأجل كل هذا ربما كان المتنبي سيطالب باستقلال السلطة القضائية.. وبالمؤسسات المدنية لأنه في نفس هذه القصيدة البكائية.. كان يقول:

“يا أعدل الناس إلا في مخاصمتي … فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ “

فهو يلاحظ بوضوح شديد أن الخصم والحكم شخص واحد مما يستحيل معه أن تحصل على قانون العدالة.

هذا بالتحديد هو ما يحصل في مكافحة الفساد في السعودية على سبيل المثال.. وهو السر وراء أن كل هيئة أو منظمة أو جمعية لمكافحة الفساد تصبح عملاً رتيباً بيورقراطياً وعالة على الناس والشعب وجزءاً جديداً من المشكلة ومن الفساد عوضاً عن أن تكون الحل.. لأن “الخصم هو الحكم” والخصام حوله.. كما يعبر المتنبي.

مكافحة الفساد إذا لم يكن بهيئات مدنية مستقلة يشرف عليها أفراد من الشعب بإرادة شعبية لا سلطة للحكومة عليهم فهي ستعود جزءاً من المشكلة.. وستكون الخصم والحكم لأن الجهة التي تأمر بها وهي الدولة كلها بطولها وعرضها ستستثني نفسها من المحاسبة والمراقبة والمسئولية.. ولأجل ذلك رغم كل الوعي الإعلامي والكثافة الإعلامية حول الفساد وإنشاء المنظمات والهيئات التي يفترض أن تكون “مستقلة”.. إلا أن السعودية مثلاً لا تتقدم في معدلات الشفافية العالمية ومكافحة الفساد.. إن لم تتراجع وتتأخر.

الرقابة الحقيقية هي تلك التي تقوم بها منظمات شعبية ومؤسسات مستقلة من خلال الإعلام والصحافة وجماعات الضغط والنقابات وغيرها.. وليس من خلال الرقابة الإدارية الداخلية التي تراقبها الحكومة نفسها.. فتعود الإشكالية التي طرحها المتنبي من جديد “فيك الخصام وأنت الخصم والحكم”.

ويأخذني الحنين حين أتذكر أن كثيراً من الباحثين المستشرقين  مثل ماسينيون وبرنارد لويس وجورج مقدسي وغيرهم يرون أن التاريخ الإسلامي المبكر كان يملك أبكر التجارب في العمل المدني والأهلي والنقابات.. ممثلةً في المدارس التعليمية المستقلة ومدارس المذاهب الفقهية المختلفة في العراق والشام والحجاز ومصر وغيرها التي كانت تملك أهم الخصائص المدنية في كونها مستقلة عن الحاكم (الخليفة أو غيره) وتموّل نفسها بنفسها من خلال الوصايا والأوقاف والمكتبات الخاصة بها.. وكونها تدير ذاتها من خلال الناظرين والإدرايين.. ولأن لديها أهدافاً واضحة مشتركة في حماية التعليم المذهبي المستقل وحماية الرأي الفقهي الذي قد يدخل كما فعل في مرات كثيرة في خلاف مع صاحب القرار.. وقد يملك نسبياً أدوات الضغط الخاصة به.

ويا للحزن.. فبرغم هذا الثراء التاريخي المبكر والعريق في التاريخ الإسلامي في وجود المدارس والمؤسسات والمذاهب التي أغنت التاريخ باختلافها وتعددها واستقلاليتها.. إلا أن أيدي العبث السياسي السلطوي امتد ليتغول على كل شيء ويملك كل شيء.. فيدير كل شيء.. ويصبح هو قاضي الدولة ومشرع الدولة ومنفذ الدولة.. وسيف الدولة.. وحينها يعود بنا الشجن القديم الذي قدمه المتنبي قبل ألف عام.. في نبوءته: “فيك الخصام وأنت الخصم والحكم” !

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن عبدالله العودة

كاتب حاصل على ماجستير قانون
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق