بؤس الخطاب الجمعي: إشكاليات مقالة العامر (٢-٢)
29 مايو, 2013 لاتوجد تعليقات
نشر الدكتور سعد البازعي في صحيفة الجزيرة ورقة بعنوان ”حالات حصار الأدب والهوية والصراع العربي الإسرائيلي “ بتاريخ ٢١/ إبريل/ ٢٠٠٣ جاء فيها حوار أجرته الغارديان مع محمود درويش يتحدث فيها الشاعر الإسرائيلي يهودا أميخاي ويقول ” شعره يخلق نوعًا من التحدي بالنسبة لي، لأننا نكتب عن المكان نفسه يريد هو أن يستعمل المشهد الطبيعي والتاريخ لمصلحته وعلى أساس من هويتي المدمرة. لذا فإننا في تنافس: من منا يمتلك اللغة والأرض؟ من يحبها أكثر؟ من يكتب عنهما أفضل؟“ ويعلق البازعي ”ومن الطبيعي ألا يعتري موقف درويش هنا أي نوع من التردد تجاه القضية التي تشغل حياته وأعماله كلها، كما قد يبدو من مقارنته لنفسه بأميخاي، إنه فقط يحاول أن يوسع من دائرة الرؤية لديه لكي يرى العدو دون أن تعميه الكراهية المتوقعة في حالته فهو يقول لصحيفة «الغارديان» ( والحديث هنا لدرويش) إنني أؤنسن الآخر على الدوام، بل لقد أنسنت الجندي الإسرائيلي، وسأواصل أنسنة العدو“ وهنا أنقل عبارات أخرى من ورقة البازعي حيث يقول فيها درويش
إلى قاتل:
“لو تأملت وجه الضحية
وفكرت، كنت تذكرت وجه أمك في غرفة
الغاز، كنت تحررت من حكمة البندقية
وغيرت رأيك: ما هكذا تستعاد الهوية!”
قضية الصراع العربي الإسرائيلي قضية إنسانية في جوهرها عربية في تصنيفها.
يخلط كثير من الناس بين مفهوم الصراعات السياسية وبين الصراعات السياسية التي يسقط بها ضحايا من البشر، فهم يرون أن أي جريمة يكون دافعها سياسيًّا تكتسب قضيتها من كونها سياسية لا من كونها إنسانية، هذه المشكلة نراها حينما تُصنَّف قضية إنسانية في جوهرها مثل قضية الصراع العربي الإسرائيلي على أنها قضية سياسية فقط.
هذا الخلط نراه بشدة حينما يُفصَل بين القيم الأخلاقية وبين السياسة، وهذا سيجعل المفهوم السياسي متقدمًا على المفهوم الإنساني، مع العلم أن الحقوق السياسية هي جزء من حقوق الإنسان كون السياسة هي بالأصل إحدى مساحات إدارة الحريات والحقوق الإنسانية، وهذا يقتضي بالضرورة أن الهوية والدين والثقافة وتقرير المصير والانتماء تنبع من كون الإنسان فردًا حرا في تحديد خياراته، والمجتمع الذي هو بالضرورة مجموعة من الأفراد الأحرار يقررون مصيرهم كونهم يكتسبون كل شخص منهم باعتباره فردا حقوقه السياسية من خلال حقوقه كإنسان، وأن الاعتداء على الحق السياسي على أفراد وقبل حتى سقوط ضحايا هو اعتداء على حقوق الإنسان بالضرورة، فمثلاً حينما يُحرَم شخص ما عن التعبير عن رأيه في السياسة هو تعدٍّ على حقه كإنسان، وحينما يُمنَع أي إنسان فردا عوضًا عن مجتمع مكون من أفراد من حقه في تشكيل جمعية أو كيان أو تجمع هو تعدٍّ على حقه كإنسان بالضرورة، ومن هذا المنطلق تصبح القضية العربية في فلسطين هي قضية إنسانية أولاً عربية تصنيفًا.
في فلسطين هناك مجموعة من البشر يعيشون بها، ثم أتى احتلال عسكري قام بطرد مجموعة من الناس وأسس دولة بغض النظر عن كون هذه الدولة ديمقراطية أو لا على أنقاض هذه الأرض، فتولد عن هذا العمل ثلاث جرائم رئيسة:
1. التهجير القسري : هُجِّر ملايين الناس من منازلهم ومن قراهم ومزارعهم المتوارثة لمناطق أخرى أو دول أخرى. وهذه جريمة ضد الإنسانية، وهذا النوع من الجرائم لا يُحل بشكل سياسي ولأنه حق لا يسقط بالتقادم بطبيعة حال مثل هذه الجرائم، وهذا يعني بالضرورة أنه يجب تعويض الضحايا من قبل المحتل عن فترة التهجير بالإضافة إلى إعادة ما صُودِر من مزارع وبيوت وقرى لأصحابها، والحق الخاص لا يسقط بالتقادم ولا يُحل كصراع سياسي قد يقبل التفاوض أو التسوية السياسية.
2. القتل : خلال عملية التهجير القسري سقط ضحايا كثيرون من المعترضين على هذا القرار كلهم من المدنيين، سواء أكانوا أطفالا أم نساءً أم رجالا مقاومين أو غير مقاومين فكلهم مدنيون ولا ينطبق على أي عنصر مليشيا فلسطينية أو مقاومة فلسطينية صفة العسكرية، وهؤلاء يجب تعويض ذويهم وتقديم الاعتذار بشكل رسمي من قبل الداعمين لإسرائيل من القوى الإمبريالية والكيان الصهيوينة بصفتهم قادة وعسكريين ودافعي ضرائب.
3. الفصل العنصري: أكثر من نصف سكان المنطقة يقعون تحت نظام لا يعترف بهم ولا يمثلهم ولم يختاروه ولم يصوتوا عليه ولا يرضون به معبرًا عن هويتهم أو ثقافتهم أو دينهم، بل يصر هذا النظام أن يجبر السكان على أن يعترفوا به نظامًا شرعيا له هوية دينية لا تمثل إلا أقلية سرقت منهم أرضهم، وهذا بالضبط هو أقسى درجات الاضطهاد والتعدي على حقوق الإنسان، ومهما كان هذا التعدي مقبولا دوليًّا فهو لا يعني سوى أن الجماعة الدولية متعدية على حقوق الإنسان.
وهذا سيقتضي بالتاكيد تفكيك الدولة الصهيونية العنصرية، دون أي عملية تطهير عرقي معاكسة ضد الصهاينة من حيث هم أفراد، خصوصًا أن الجيل الموجود في إسرائيل الآن هو الجيل الثاني أو الثالث، فهم بالنهاية وجدوا أنفسهم في تلك المنطقة عاشوا بها وتربوا على أرضها، وبطبيعة الحال لا أحد سيعفى من الحق الخاص ولكن الحق العام يمكن أن يخضع لمساواة بعد التسوية الشاملة.
حل الدولة الواحدة صيغ لأول مرة من قبل الحزب الشيوعي الفلسطيني في منتصف الأربعينيات، ثم تبنته لاحقًا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكذلك الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وهذا أيضًا ما تطرحه الحركات اليهودية المعادية للصهيونية.
النقطة الأهم التي أحب أن أبرزها هنا هي أن الموقف من القضية الفلسطينية يجب أن يُحل إنسانيًّا ومن خلال الحل الإنساني سيكون بمقدور أصحاب القضية كأفراد من تحديد خياراتهم ومصيرهم سواء بالتصويت لقيام دولة ثنائية القومية ديمقراطية أو دولة علمانية واحدة تجمع بين مواطنين على قدر من العدالة والمساواة. العرب في المنطقة بعد الحل العادل والإنساني الشامل سيشكلون الأغلبية بنسبة لا تقل عن ٧٥٪ وبطبيعة الحال سيكون بمقدورهم تحديد الهوية الأساسية لدولتهم لكن أيضًا لن يكون حلا إقصائيا معاكسا كما تبرر إسرائيل دائمًا أن العرب يريدون بإلقائهم في البحر.
المُغالطات في خطاب العامر:
في مقالة الزميل سلطان العامر قام باستعراض جملة كبيرة من المغالطات ثم اعتقد بأني أقول أشياء لم أقلها وبدأ في الرد عليها، فهو تصور أن الطرح الإنساني يقتضي بالضرورة الشكل الأمريكي الإمبريالي، ثم استجمع كل النقودات التي هي بالضرورة متوفرة ومتاحة في الرد على ما اعتقد هو أنني أقصده، وهنا أحب أن أرد على ما كتبه.
أولا: تصور الحل القانوني.
يفتتح العامر رده بعد ما لخص مقالتي بشكل جيد( يشكر على التلخيص ) بتصور أني أطرح الحل القانوني كقيمة أخلاقية عُليا فوق كل شيء فيقول “هذا الشرح المطول لمعنى أن تكون قضية ما ”قانونية“ مهم جدا لأنه سيوضح المآزق التي سيقع فيها من يرى ما يحدث في فلسطين على أنه ”جريمة اعتداء على بشر يقطنون في فلسطين“ كما يفعل الطويرقي، بل إنه حتى في أمثلته يقوم بطرح أمثلة على جرائم ”قانونية“ ويتساءل ماذا سيفعل القاضي حين كذا وكذا، فهو ينظر لما يحدث في فلسطين كما لو كان قاضيًا”
1. حينما ضربت مثال القاضي لم أكن أنوي المسار القانوني الذي اعتقده العامر، كنت أريد أن أوضح للقارئ اعتمادًا على المنطق البسيط والبدهي بأن أظهر الأشياء من المنظور الأخلاقي كما لو كان القارئ حكمًا، هذا المنطق الذي اعتمده أنا يكون بناء على أن البشر لهم قيمة أخلاقية عليا يلتجئون إليها، وكما قلت في الجزء الأول من المقال بأن القيم العليا الأخلاقية هي ما تدفع الناس لأن يحكموا على أي حدث في العالم من خلال منظومتهم الأخلاقية العليا التي تتجاوز بالضرورة التكييفات القانونية لها. حينما يُهجَّر أحد ما في أي مكان في العالم فأنا أدين هذا التصرف سواء أ كانت لي خبرة قانونية أم لا، وسواء أكان هذا مخالفا لقوانين المنطقة الذي هُجِّر فيه أم لا، بالنهاية تصوري أنا فردًا عن فعل ما هو بالضرورة ينبع من قيم أخلاقية عليا، أتشارك بها فردًا مع باقي البشر في العالم، ولا أنكر أن تطبيقات الأخلاق نسبوية لكنها تشترك في الجوهر الأساس، وهذا مطلق بالضرورة.
2. يظن أنه حينما أقول بشر موجودون في فلسطين هذا يقتضي بالضرورة أنهم مجرد أقلية هامشية ليس لهم حقوق سياسية، وهذه مغالطة كما شُرِح أعلاه، فمجموعة البشر الموجودون في فلسطين لهم حقوق إنسان كاملة، وبما أنهم أغلبية ساحقة، فحرياتهم الإنسانية ستكون متضمنة بالضرورة الحريات السياسية، وحرياتهم السياسية ستقتضي بالضرورة أن يقرروا ” العرب كأغلبية واليهود كأقلية” في تحديد مصيرهم وتشكيل دولتهم بالطريقة التي يرتضونها لأنفسهم.
ثانيا: تجريد الصراعات السياسة من الأخلاق “الداروينية المستترة“.
يقوم العامر بوضع السياسة باعتبارها بنية واقعية تعلو فوق الأخلاق والحقوق، وعليه فإن أي قضية تكتسب الصبغة السياسية فيجب حلها عن طريق السياسة فيقول: “في حين أن المسألة ليست صراعًا بين أفراد بل هو صراع بين جماعات سياسية، والصراع بينهما ليس على ملكية أرض ملكية تجارية بل على السيادة على هذه الأرض”. ويقول في المقال الثاني: “كل مجال من مجالات التجمع البشري يحمل منطقًا خاصا به”. هذا المنطق يرى الحياة من منطلق الصراعات السياسية، بمعنى أن الصراع السياسي هو المشكل الأعلى لكل شيء في الحياة وأن ما ينتج عن هذا الصراع سيكون ملزمًا لما هو تحته، بغض النظر عن أي اخلاقيات أو قيم حقوقية مشتركة بين البشر، هذا المنطق يشبه إلى حد كبير الفلسفة الداروينية في الاجتماع، حيث إنهم يرون أن حالة الصراع هي حالة طبيعية يفرضها الواقع لأن البشر سيكونون في تدافع وانتخاب طبيعي. وهذه النظرة للأسف ستفرض بالضرورة استسلاما أخلاقيا للصراعات السياسية، وأن السياسة تعلو على كل شيء، ولأن طبيعة السياسة هي حالة من التدافع فليس من المفترض أن تحكم إلا بمنطقها وما تفرضه على بقية نواحي الحياة، بمعنى أن الفرد لن تكون له إرادة حرة خارجة عن إرادة الجماعة، وعلى الرغم أنه لم توجد هناك جماعة مسيسة لم تجير قطاعات كبيرة من الأفراد لصالح فئة صغيرة تعتقد في نفسها أنها هي المعبر عن الأمة وأن الفرد لن تكون له حقوق نابعة من فردانيته كون أصل الحقوق نابعا من ذاتها وهي التي تمثلها واقعيا، هنا تصبح الجماعه رهينة الحزب الحاكم الذي يتبنى الخطاب الجمعي، وأن بقية الأفراد عليهم أن يكونوا جزءًا من هذه الجماعه كما تعبر هي عن نفسها .
ثالثا: انسحاق الحرية الفردية وخضوعها لقيم الجماعة.
يقوم العامر بنفي أي حرية أصلية للفرد، ولا يعد أن للفرد كيانا منفصلا في ذاته، إنما هو جزء من الجماعة بالضرورة وإن كانت له حرية فهي ما تعطيه له الجماعة وما تسمح له به، دون أن يكون هناك حق فردي وهبه الله له، كما هو لدينا
بصفتنا مسلمين أو حق طبيعي كما عند الملحدين، ويفتتح العامر بالزعم أن الحق الطبيعي هو مجرد “ميتافيزيقيا” ليبرالية فقط، ثم يقوم بشرح استدلالته حيث يقول: “كل فرد يولد ضمن جماعة سياسية، لا يمكن أن يوجد فرد في العراء، بل يولد ضمن جماعة سياسية تتعهده في سنواته الأولى التي لا يستطيع فيها الاعتماد على نفسه بالرعاية والتنشئة والتربية التي تغرس فيه قيم هذه الجماعة ولغتها وتاريخها” ما يريد قوله هو أنه كما أن الجماعة تتعهده في سنواته الأولى فهذا سيقتضي بالضرورة أن يكون منتميا لها دون خيار منه، ثم يؤكد هذه المفارقة العجيبة التي لا أعلم كيف هي لا تدل على عكس كلامه وأن الإنسان له الحق الطبيعي من حيث كونه إنسانا قبل أن تفرض الجماعة عليه قيمها، بقوله “علاقة الفرد بجماعته السياسية هي علاقة انتماء لم يخترها ابتداء مثلما أنه لم يختر أسرته وشكله ومكان ولادته ووقتها” فهل كونه لم يختر ذلك سيعني بالضرورة أن عليه الانصياع لإرادة الجماعة وأن يبحث عن حريته من خلالها فقط؟
ثم يترك العامر مساحة صغيرة من الحرية الفردية استطاع أن يمررها من خرم الإبرة بقوله “إلا أنه- على عكس أسرته وشكله- بإمكانه دوما تغيير انتماءه وأن ينتقل إلى جماعة سياسية أخرى، وهذا الفعل – أي الانتقال من جماعة سياسية إلى جماعة سياسية أخرى- هو الهجرة”.
هذا الحق رغم صغره إلا أنه حق وهمي غير حقيقي ومناقض لفكرته الأساسية من عدة جوانب:
أ- ماذا إذا رأت الجماعة كونها هي المصدر الوحيد للتشريع والحقوق بأنه ليس من حق أفرادها الهجرة والانتقال من بلد لبلد؟ هذا الحق تعطيه لائحة حقوق الإنسان التي هي قيم أخلاقية عليا ولكنه ينفي أي شيء فوق سلطة الجماعة، فمثلا في كل دول المعسكر الشرقي سابقًا كانت تعد الهجرة هو فعل خيانة، وكوريا الشمالية اليوم تعد الهجرة أو الرحيل هو فعل خيانة بالضرورة وتتعامل مع أي محاول للهرب أو الهجرة بعقوبة الإعدام.
ب- الغالبية الساحقة من البشر لا تملك هذا الحق واقعيا، الدول التي يريد البشر الهجرة إليها تشترط شروطا معقدة للهجرة والتأشيرة، هذا عوضًا عن العقبات الاقتصادية التي تواجه طالب الهجرة.
ج- كون هذا الحق متعذرا فلسفيًّا وعمليًّا، فإن هذا سيسقط بالضرورة أحقية تغلب الجماعة لأن باب الهجرة والمفارقة متعذر على الغالبية.
رابعًا: الدولة الحديثة هي الشكل المتطور من الجماعة.
يعتمد العامر في مقاله على أن الدولة الحديثة هي الامتداد الطبيعي لتشكل الجماعة السياسية، فهو يرى أن الإدراك الحسي تطور لإدراك تخيلي فيقول: “هذه الدول تمثل الشكل الحديث للتنظُّم السياسي، إذ إن كل دولة من هذه الدول تقوم على دعوى تمثيل سيادة جماعة سياسية- أو أمة- على رقعة جغرافية محددة بحدودها”. ثم يقول: “أي إدراك للانتماء المشترك مع أفراد آخرين غير مدركين حسيا بناء على عناصر يعيشون ضمنها بشكل يومي…” حتى يصل إلى “في حين أن الأمريكي الذي يعيش في واشنطن يمتلك من العناصر والأدوات الحديثة ما يمكنه من تخيل نفسه متشاركا مع شخص في ولاية كاليفورنيا- أي شخص لم يره ولا يعرفه بشكل شخصي- ضمن جماعة سياسية”. وهذا كلام غير دقيق، بدليل أن هناك دولا حديثة شكلت أمما من قوميات مختلفة مثل سويسرا وبلجيكا، بل أنه في سويسرا هناك -مثلا- القومية الفرنسية وهم السكان الفرنسيون الذين على تماس مع دولة من ذات الأمة تتصل حدوديًّا معهم وهي فرنسا، ومع هذا الفرنسيين السويسريين يعتقدون أن سويسرا بقومياتها الألمانية والإيطالية تعبر عنهم، كما أن الفرنسيين الكنديين وعلى الرغم من محافظتهم على ثقافتهم الفرنسية ودفاعهم الشرس عنها إلا أنهم يعدون كندا تعبر عنهم رغم أنهم أقلية مقارنة بالكنديين الإنجليز. وهناك أمثلة في العالم كثيرة على وجود قوميات في دول أخرى على الرغم من أن لهم دولا قومية حديثة. فليس بالضرورة أن شكل الدولة الحديثة هو امتداد طبيعي لتطور الجماعة السياسية الطبيعية، وهذا نراه واضحًا في أوروبا عند السكان الذي يعيشون على حدود الدول رغم تداخلهم الثقافي والديني إلا أن أمتار بسيطة تجعل كل منهم منتميا لدولة مختلفة.
خامسًا: اعتبار الإنسانوية قضية ثانوية.
حينما تُنتهك حقوق الإنسان في أي مكان في العالم، فإنه يترتب علينا واجب أخلاقي برفض هذا الانتهاك وإدانته ومحاولة إيقافه قدر المستطاع، هذا هو المبدأ الأساسي الذي يجب أن يتبناه البشر، لأننا ببساطة لسنا مجرد أفراد في جماعات محلقة في الهواء، نحن البشر نتشارك الماء والهواء والطبيعة والأرض والموارد، ونعيش على خطوط تماس تجمعنا، هذا المعنى الطوباوي هو معنى قيمي أخلاقي مطلق، لكنه مثله مثل أي شيء آخر يكون محدود بظروف واقعية، أنا لا أستطيع أن أحمي الكوري الشمالي من تسلط رئيسه، فموقفي من عدم مساعدته ينبع من تعذره واقعيا، لكني أدينه، ولو استطعت تغييره فسيكون من الواجب علي التدخل وإيقاف الانتهاك، هو نفس المبدأ الذي يدفعك للتدخل إذا رأيت رجلا يحاول قتل طفلته، أنت هنا مطالب بالتدخل أخلاقيا إذا كنت تستطيع ذلك، أو التبليغ عن الجريمة للآخرين كي يحاولوا إيقافها، هذه النظرة غائبة عن العامر في رده، لأنه يعد الواجب الأخلاقي ينبع من انتماء الفرد للجماعة، وأن مساعدة الآخرين أو تدخلهم هو مجرد تكرم وتفضل منهم حيث يقول: “وبهذا المعنى أيضا يصبح موقف الفرد المنتمي للجماعة السياسية التي تعرضت للاحتلال يختلف عن موقف الفرد غير المنتمي، فالفرد الذي ينتمي لتلك الجماعة من واجبه أن يدافع عن جماعته وأن يضحي من أجلها وأن يسعى في سبيل تحررها من الاحتلال” ثم يقول: “بالمقابل، فإن الفرد غير المنتمي للجماعة السياسية يُفَسَّر تعاطفه ومناصرته للقضية بكونها موقفًا أخلاقيا دفعه إليه نبله ومناصرته لما يراه حقا”
سادسًا: حينما تكون الإنسانوية علاقة صراع سياسي فقط.
يقع العامر في معضلة الصراعات السياسية، فهو لا يرى الوجود إلا من خلال أنا والآخر، نحن وهم، هذه النظرة تغرق في الاختلافات ثم لا ترى أي مشتركات، والمشكلة أن النظرة الإنسانوية تحاول أن توجد الرباط المشترك بين البشر لخلق حالة من التوافق كحد أدنى خاصة حينما يكون الحد الأدنى المراد هو الأرضية الحقوقية بين البشر، إلا أنها عند العامر هي صراع بين كتلتين وأنه بالضرورة هناك حالة سياسية تنبع من صراع أطراف، فهو يقيس العملية السياسية من خلال أنا والآخر فيقول نقلا عن كارل شميت الذي استشهد به “إن التمييز السياسي الذي بناءً عليه يمكن رد كل الأفعال والدوافع السياسية إنما هو التمييز بين الصديق والعدو… العدو السياسي ليس بالضرورة أن يكون شريرا أخلاقيا أو قبيحا جماليًّا”. وكارل شميت الفيلسوف والقانوني عضو الحزب الوطني الاشتراكي النازي يقول أيضا معارضاً الديمقراطية والانتخاب “إن المعتمد حاليا من طرائق انتخابات شخصيّة وسريّة (…) من شأنه أن يقصي الشعب، كوحدة، عن الدائرة العامة (…) ويحصر صناعة الإرادة السياسية بفذلكة الإرادات الفردية الخاصة والسريّة، أي في الواقع بتطلعات وأحقاد جماهيرية لا يمكن ضبطها. إن تحديد الديموقراطية هذا عبر الاقتراع الشخصي السري هو من ليبرالية القرن التاسع عشر، وليس من الديموقراطية”. هذه النظرة الذي يبتسرها بتمكن العامر لكي يقدم الوجه البدائي منها في تبنيه خطاب شميت من أن المجال السياسي هو أنا والآخر هي المفسر الوحيد للانسانوية، فنجد العامر يكمل على أرضية الصراع في نقده للإنسانوية بقوله أنها تماييز بايولوجي فيسأل باستنكار إذا كانت الإنسانوية رابطا بايلوجيا فمن هو العدو ؟ هل هم الحيوانات ؟
هذه النظرة تميزت بها النازية التي يتبرأ منها العامر في بقية المقال، حيث إنها صنفت الإنسانوية لدرجات ولم ترَ اكتمال الجوهر الإنساني إلا في الإنسان الآري أو الكامل، وهذا هو النقد الإنسانوي التي توجهه حنا ارندت في نقدها للإنسانوية، فتجربة أرندت النقدية لا يُمكن أن تجتزأ من سياقها التاريخي ومقاومتها للإنسانوية عند النازيين، هذه النظرة التي يتوهمها العامر كانت سابقة لدى القوميين قبل أن تكون مطية الليبراليين الأمريكان على استحياء. الفرق هو أن نظرة الإنسانويين اليوم لا تجرد أحد من إنسانيتة حتى المجرم وحتى مرتكب الجرائم الإنسانية، فكل المنظمات الحقوقية الإنسانية تطالب بالمحاكمات العادلة لمرتكبين الإبادات الجماعية، ومجرمين الحرب على اعتبار أنهم بالنهاية لهم حقوق إنسانية رغم جرائمهم. فلا يمكن أن يتهم الخطاب الإنسانوي غير المسيس الذي يرى الحق الإنساني حقا مقدسًا بشبهة خطاب كارل شميت أنا والآخر الذي يتبناه العامر.
سابعًا: وهم طمس الثقافات عند أي خطاب مؤمن بحقوق الإنسان
يعتقد البعض أنه إذا تبنينا خطابا إنسانويا فإننا بالضرورة سنتخلى عن ثقافاتنا ولغاتنا وأدياننا، وهذه سقطة لا أحد يقول بها إلا شخص جاهل، لأن كون لنا ثقافات وأديان ولغات وطباع وعادات مختلفة لن يمنع أن تكون لنا حقوق إنسانية واحدة. الإنسان في أمريكا كجوهر هو الإنسان في الصين وهو الإنسان في الإسكيمو، الإختلاف الثقافي لا يبرر أن تكون لأي أحد منهم حقوق متفاوتة في الحياة، أعلم أن متطلبات هذه الحقوق وتطبيقاتها تختلف بشكل نسبوي لكن في جوهرها هو حق واحد. وهذا الحق الواحد لن يجعل الصيني يتحدث الإنجليزية ولا أن يتخلى عن عاداته وموروثه، ولهذا كل الأنشطة والممارسات التي تؤمن بالخطاب الإنسانوي تركز على الاختلافات الثقافية والعرقية والدينية، لا يوجد هناك إنسان يعتقد بأنه إذا كنت إنسانا فأنت يجب عليك أن يكون دينك كذا أو ثقافتك كذا.
الخطاب الإنسانوي خطاب يعترف بالتنوع على أنه التطبيق الأساسي للحق والحرية. حينما أؤمن أن لك حقوقا متساوية معي فأنا مؤمن بالضرورة بتميزك الثقافي واختلافك، وهذا يقتضي بالضرورة أن أحترم حقك في الحياة وفي التعبير أيا كان هذا التعبير مختلفا، بعكس الخطاب الجمعي الذي يتأسس أن الجماعة هي الأساس وعليه فالخطاب يجب أن يكون جامعا ومحددا للإطار العام ولا ينبغي للفرد أن يخرج عنه.
الخاتمة
حاولت الاختصار وتجاهل المواضيع المكررة في مقال العامر، وتعمدت أن يكون مقالي الأول هو مقدمة توضيحية لكل النقود التي وجهتها لمقال العامر التي هي بطبيعة ليست شاملة لكل ما كتب ولكني حرصت أن تكون واضحة ومحددة في مفاصل بنيوية، وجعلت معظم المقال الثاني استشهادات من مقال العامر مع الرد عليها، وقبل أن أختم أحب أن ألخص ما كتبت نحو التالي:
أولا: الحق الطبيعي رغم أنه تبلور في عصر التنوير لدى فلاسفة العقد الاجتماعي، إلا أنه له أصول مشابهة في الإسلام، والتأكيد أنه رغم تطوره في سياق التنوير الأوروبي إلا أن السياق الأوروبي ليس بمعزل عن السياقات التاريخية المحيطة.
ثانيًّا: أهمية حقوق الإنسان وحقيقتها وأصلها وأنها قيم مشتركة يجمع عليها أغلب البشر وإيضاح تيارات النقد لها، والتأكيد أن النظرة للواقع تحت الأخلاق وليس فوقها وإيضاح مدى خطورة رفع الواقع لما هو أعلى من الأخلاق وثم يتحول الواقع لصانع لها بدل أن يتأثر هو بها. ثالثا: القضية الفلسطينية وغيرها من قضايا النزاعات السياسية يُمكن أن تحل بناء على أساس إنساني مع الحفاظ على الهوية والثقافة والحق بالحرية دون أن يفقد البشر هوياتهم بفقدان الحرية، الرد على مغالطات واسقاطات سلطان العامر التي قام بها على الخطاب الإنساني.
ونهاية أحب أن أذكر أنه إن كان للقومية حق، فهي تعبير عن الحرية بعد أن يمتلكها الإنسان فردًا ليتصرف بها كما يشاء.
خاص بموقع “المقال”
لا توجد تعليقات... دع تعليقك