الإرهاب في عيون المؤسسات الرسمية

الكاتب:

13 يناير, 2012 لاتوجد تعليقات

تسود نظرة تقليدية لدى المؤسسات الرسمية والحكومية في بلدان الخليج والعالم العربي تجاه الإرهاب، هذه النظرة تلخص الإرهاب ببساطة على أنه ممارسة للعنف تُرتكب ضد مدنيين أو موظفين حكوميين أو جنود في الجيش؛ الهدف منها تهديد النظام السياسي ومحاولة بث الفوضى ونشر الخراب في البلاد، ومن خلال هذه النظرة يُجرَّم الإرهابي ويُنظَر إليه على كونه “وحدة” مستقلة في أفعالها ومسالكها، وحدة جوهرية لا دخل لأي طرف خارج عنها في تأسيسها وتنشئتها، فالإرهابي خرج فجأة وقرر التفجير والتدمير وإلحاق الضرر بالآخرين دون أن يكون للظروف السياسية والاجتماعية والتعليمية أيُّ إسهام بذلك، وبالتالي فالتعامل مع الإرهابيين يجب أن يتخذ منحى عسكريًّا وأمنيًّا ليس غير، دون أن يتجاوز ذلك للبنية الفكرية والدينية والظرفيات الاجتماعية والسياسية التي أفرزت الظاهرة الإرهابية.

ولعلنا لا نبالغ إن قلنا بأن هذه النظرة فيها من الصحة الشيء الكثير، وأن إدانة الإرهاب مسألة لا اختلاف فيها، فالعنف والتفجير والقتل والتدمير هي ممارسات إجرامية خطيرة تؤدي لخسائر كبرى في الأرواح والماديات، وأن الجانب الأمني له دوره الملموس في التصدي لهذه الظاهرة الإجرامية. ولكن مدار الخلاف لم يكن قط حول ضرورة إدانة الإرهاب، وإنما يدور بالتحديد حول الأسباب والمسببات، وحصر الأطراف وجعلها متعلقة فقط بالفاعل دون أي إشارة للدور السلبي الذي قامت به جهات مختلفة تجاه هذه الظاهرة.

وأعقاب ثورة مصر الأخيرة برزت ظاهرة الإرهاب من جديد، ونشأ الشغب والعنف ولكن هذه المرة ليس من قبل الجماعات الإسلامية التي رأى كثيرون أنها كانت بمنزلة المشجب الذي علق عليه مبارك كل خيباته وهزائمه التنموية، وإنما هذه المرة جاء الشغب والعنف من قبل بعض المتظاهرين. المتظاهرون الذين كانوا بالأمس أعداء لمبارك، واليوم هم في عداد المجرمين والمخربين بحسب نظرة الجيش المصري.

ضمن نظرة نقدية للحدث، لا يمكن التبرير لمثل هذه الأعمال على أنها ظاهرة طبيعية تنذر بتحول ديمقراطي ومدني سلمي، فمن أوضح الواضحات أن العمل السلمي والمدني يتوخى الحذر في جانب العنف ويحاول ما أمكن له إدانة مثل هذه الممارسات، فالعنف من احتكار السلطة الشرعية / الدولة، بحسب عبارة ماكس فيبر المشهورة. غير أن استسهال العنف بهذه الطريقة الفجة ينبئ عن وجود عقلية غير مدنية قابلة للانحراف في أي لحظة إلى عمل إجرامي، لا نستطيع القول أن المتظاهرين المصريين جلهم من الإرهابيين وإلا لتماهينا لا شعوريا مع النظرة الرسمية التقليدية نحو الإرهاب، وإنما يفترض هذا المقال أن الإرهابي ليس حزمة من الشرور المتكدسة في قلب إنسان، شرور تنتظر اللحظة المواتية للانفجار والتشظي وتمزيق الآخرين أشلاء، بل على عكس ذلك كله، فالإرهابي هو إنسان في نهاية المطاف، ومثلما أن الإنسان تخلقه الظروف المختلفة، فكذلك الإرهاب، صنيعة الإنسان، مقدود هو الآخر من عناصر متفاوتة في الكم والمقدار.

وضمن عقلية مدنية وديمقراطية حديثة، لا يمكن تصور أي حدث إرهابي على أنه مجرد ممارسة إجرامية مصرومة الصلة عن الواقع الاجتماعي برمته، ومن خلال نظرة سريعة على ما وقع في مصر وقبلها السعودية والجزائر وبعض الدول الإسلامية، نجد أن الإرهابي يتذرع بوجود الظلم والطبقية و”المعاصي” المجاهر بها، وهي كلها ظروف قادت هذا الإرهابي لتمزيق نفسه وقتل غيره في الوقت نفسه، وأرشيف التسجيلات الإرهابية يختزن الكثير والكثير من هذه الاعترافات التي يختلط فيها الجانبُ العاطفي مع الجانب العقلي والتحليلي، فأسامة بن لادن كان يتذرع بوجود فلسطين رهينة بيد الإسرائيليين ويعد المسلمين بتحرير هذه الرهينة المغلوب على أمرها، ولولا وجود هذه الذريعة (الفعل الأصلي/ الاحتلال) ما وجد الإرهاب بصفته مقاومة مشروعة من وجهة نظر مرتكبي المقاومة (الإرهاب كرد فعل).

هذا يعني أن الإرهاب قول حق أريد به باطلا، كما يتردد في التراث العربي، ولكن هذه الحقيقة تتحول عند المؤسسات الرسمية إلى حقيقة مجتزأة، فيكفي أن يُتعامَل عسكريا مع الإرهابي لسحقه، ولا أحد يكترث بعد ذلك للأثر الاجتماعي والفكري الذي خلفه هذا الإرهابي هذا من جهة. ومن جهة أخرى لا يمكن تحميل المؤسسات الرسمية أي خطأ من نوعه، فهي مؤسسات وكأنها تعيش خارج التاريخ وخارج الكون، وكأن أفعالها محدودة وغير متعدية.

أما الواقع فهو يشهد بخلاف ذلك، فالبنية الخالقة للإرهاب هي بنية متغلغلة في صميم أي مجتمع بشري، وهي قابلة للتحول في أي لحظة نحو فعل غريزي وحيواني متوحش قد يخرج من طور الكمون والقوة إلى طور الفعل والمبادرة في أي لحظة، ووحده المجتمع المدني الحديث حاول ترويض هذه النزعة الحيوانية من خلال بث النزعة الاستهلاكية والمادية التي روضت الإنسان المعاصر وجعلت منه أداة في يد الإعلام والصناعة والعمل المنظم والبيروقراطية المؤسسيَّة، وليست هذه دعوة للخروج من عمق الغريزة إلى عمق الاستهلاك؛ لأن هذه النزعة الأخيرة لها ما لها من السلبيات المعروفة، وإنما هي دعوة للتخلي عن النظرة التقليدية نحو الإرهاب أو أي فعل بشري متوحش، فالإنسان لا يخلقه سببٌ واحد، بل مجموعة مركبة ومعقدة من الأسباب، في المجتمع والسياسة والاقتصاد والمعرفة، وطالما لم يُتعاطَ مع هذه الأسباب في تنوعها وعمقها وتأثيرها، فإن الإرهاب قد يبقى وربما يزدهر، تماما كما وقع في مصر، قبل الثورة وبعدها!

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن طريف السليطي

كاتب في جريدة المدينة باحث في الفكر والفلسفة
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق