عن الصحافة وبيان القطيف والإصلاحيين

الكاتب:

27 ديسمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

بعد أن فرغت من قراءة عديد من المقالات والتقارير الصحفية السعودية المنشورة في زمن قريب عن البيان الصادر من نشطاء ومثقفين ومهتمين بالشأن العام الذي ندد بالتشديد الأمني على منطقة القطيف – شرق السعودية-؛ جراء خروج مواطنين من المنطقة في مظاهرات تحتج على عدة مواضيع تتعلق بالمنطقة وتنميتها وحقوق سكانها الذين تعرض كثير منهم للاعتقال والحبس تحت مبررات مختلفة، وأُطلق فيما بعد سراح عديد منهم وبقي – حتى اللحظة- مَنْ بقي، وتحدث أيضا عن المعتقلين ومنهم معتقلو جدة -غرب السعودية- حول حقوقهم المشروعة نظاما بمحاكمات عادلة، ووجدت بين هذه المقالات المختلفة والتقارير الصحفية شبه نقطة واحدة تنطلق منها كافة في بناء نقدها وهي: الأمن والأمان، فما الأمن والأمان هذا؟!

# قرية الأمن والأمان:

الضابط “نيكولاس أنجل” اسم شخصية الممثل “سايمون بيج” في فيلم “هوت فز: 2007” الإنجليزي، يخرج في فيلم تدور أحداثه حول قصة انتقاله من مركز أمن العاصمة “لندن” للعمل في مركز أمن إحدى القرى الإنجليزية الصغيرة، وكيف أنه بعد مدة قصيرة واجه سلسلة من حوادث الوفاة التي تُسجَّل في أوقات متقاربة، الشيء الذي يثير شكوكه في كونها مجرد حوادث لا جرائم قتل!، ومع محاولاته في فتح ملف هذه الحوادث والتحقيق فيها، إلا أنه يواجه سخرية من زملائه حتى اعترضه رئيسُ المركز قائلا: نيكولاس!، أنت تثير الريبة بتصرفاتك الغاضبة مع زملائك، هل تعلم أن هذه القرية لأربعين عامًا لم يحدث فيها جريمة قتل واحدة؟، فقد حازت وبشكل متوالٍ على جائزة أفضل قرية آمنة من الملكة!

أفضل قرية آمنة!، لم تقنع هذه الإجابة نيكولاس كثيرا، وقرر أن يبدأ التحقيق وحده، وبعد سلسلة طويلة من الأحداث والاكتشافات والربط بين الحوادث، وصل نيكولاس إلى المفاجأة، تكاد تكون القرية بكافة سكانها متورطة في جرائم قتل!، رجالا ونساء بمَنْ فيهم رئيس مركز الشرطة وأسقف الكنيسة!، وذلك في لجنة أو بالأحرى “عصابة” تتشكل بكثير منهم تحت مسمى “الحفاظ على القرية”، تصدر أحكامها على ضحاياها: “ممثل فاشل” يسيء لصورة القرية الفنية!، وعجوز ستبيع أرضها لغريب من خارج القرية سيكون دخيلا على ثقافة القرية وعاداتها!…إلخ

ليثير لديَّ نيكولاس باكتشافه سؤالا: هل بالفعل من الممكن أن يكون ثمة قرية يتحول كافة سكانها إلى مجرمين؟!

– لماذا لا بل دولة بأكملها وليست قرية!، أو هكذا تقريبا أجبت عن سؤالي، وحتى أكون دقيقًا، فقد كان جوابي متأخرا بعض الشيء عن السؤال، إذ كان وقت نهاية الفيلم، أي بعد انتصار نيكولاس بعد سلسلة من أحداث أخرى بمحاربته هذه العصابةَ بل مواجهته هذه القرية الموبوءة، وخصوصا بعد أن استراح نيكولاس في مشهد من المشاهد الأخيرة للفيلم، ويقف أمامه أحد كبار الضباط من مركز شرطة العاصمة؛ مقدما له شكر مركز العاصمة والحكومة، حتى انتهى في ذلك قائلا: حسنا نيكولاس، هل تعلم أن بعد ذهابك وانتقالك ازداد معدل الجريمة في العاصمة؟!، ما رأيك بالعودة فأنت قادر بمساعدتنا على الحد منه!
ماذا يعني الضابط الذي يشكر نيكولاس هنا في قوله: ازداد معدل الجريمة؟!

# دولة الأمن والأمان:

ازدياد معدل الجريمة وطلب الضابط مساعدة نيكولاس في الحد منه، لعل هناك مَنْ لا يستوعبه في الوقت الذي تمارس فيه الحكومة السعودية الترويج لدعاية ذات أهداف سياسية شمولية للسيطرة والنفوذ فوق إرادة الشعب التي تنتهك فيها أبسط حقوقه ومقومات مواطنته، هو الأمر الذي جعلني أجيب بأن فعلا من الممكن أن تتورط دولة بأكملها وليست قرية، حكومة بكافة قواها في مختلف المجالات، التعليم بمختلف وسائله، والمنابر بمختلف أشكالها، والإعلام بصحافته ومثقفيه، في حملة من الخداع والتضليل بمفهوم “أمن وأمان” رجعي لا يمت للتأريخ الإنساني الحديث بأي صلة، مفهوم “أمن وأمان” في شكله المطلق، الذي لا أجد له أنسب وصف سوى: غاية تبرر الوسيلة، تلك التي أودت بأكثر من خمسة آلاف مواطن في السجون؛ بمبرر القضايا الأمنية المتعلقة بالإرهاب، وذلك حسب الرواية الرسمية لوزارة الداخلية في وقت قريب، التي لا يمكن أن تكون رواية عاقلة بعد انقضاء وقت طويل على شبه توقف أي من الأعمال الإرهابية، بل رواية تناقض كل مزاعم القضاء على الإرهاب بأفضل ما يمكن، ما الأفضل هذا الذي لا يعرف سوى الزج بالمواطنين في السجون ولسنوات طويلة، دون أدنى مقومات العدالة، وتنفيذ أبسط أبجديات نظام الإجراءات الجزائية في نيل المتهمين حقوقَهم في المحاكمات العلنية، وإصدار الأحكام القضائية على المدانين والإفراج عن الذي تثبت براءته؟!، ما المبرر الذي يجعل أكثر من خمسة آلاف مواطن في السجن طوال هذه السنوات وحتى الآن؟!

هذا السؤال الأخير الذي أشك في كوني أمتلك جوابا دقيقا عنه، سوى أن الحكومة السعودية تمارس سلوكا شموليا في السلطة لا يتجسد فقط -حسب ما أتصور- في تعاملها مع ملف الإرهاب، بل حتى في تعاملها مع المواطنين المحتجين في القطيف، ومعتقلي الرأي الذين ليس لهم آخر حتى اللحظة، وكل من يكون “خارجا” على ما يشبه منظومة “لجنة الحفاظ” على قرية الفيلم!، هذا السلوك الشمولي في السلطة الذي تمارسه الحكومة السعودية ومنذ وقت طويل، هو الذي يجعلها تقوم بتصدير هذا المفهوم المطلق “للأمن والأمان”، ممتدا حتى التزوير في التأريخ، الذي تروج من خلاله أن لولا هذا الوجود الحكومي في الوطن ما تمكن هذا الشعب من الأمن والاستقرار، وماعدا ذلك فيما قبل فليس إلا ضربا من الفوضى المطلقة، وليس هناك من مفهوم آخر سوى هذا المفهوم!

هذه الأحادية في الرؤية التي تلغي وجود مفهوم نسبي لا مطلق “للأمن والأمان”، لا تكتفي فقط بالإيقاع بكثير من المواطنين ضحايا لاستراتيجيتها الديماغوجية في إقناعهم بذلك استنادا إلى مخاوفهم، بل حتى تطمس المنطق من عقول كثير منهم، وهل يُسأل ولو لمرة واحدة ذلك السؤال الذي كتبه المؤلف: عرفان حمور، في كتابه “قواعد الأمن والأمان في مجتمعات العرب القديمة”، قائلا: “لو كان الأمن بالفعل معدومًا تماما في العصور القديمة، هل قامت مواسم الحج والأسواق والأعياد؟، التي كانت تقوم على مختلف المواضع من بلاد العرب وما كان يجري فيها من تجارة وانتقال قوافل؟!”.

فهذا الذي يسميه حمور في كتابه أنه معيارٌ دقيق يمكن أن يزن الأمور بمقدارها، هو ما يعد سببا رئيسًا على غلبة الأمن في مناطق لتلك المجتمعات القديمة.
وعندما أقول “في مناطق”، فأنا أعني هنا مفهوم “الأمن والأمان” النسبي، الذي ينخفض في مناطق لأدنى الدرجات، ويكون متوسطا ومرتفعا في أخرى، الذي من خلاله يمكن لي في تصوري أن أفهم أيضا قيام خلافات ودول على امتداد التأريخ ولعقود وقرون طويلة وتعاقبها، وإلا سيكون سؤالي هنا الذي أنتهي به بعد سؤال حمور:
كيف يمكن أن تبرر لنا هذه الدعاية السياسية بمفهوم الأمن والأمان بشكله المطلق، استمرار هذه الخلافات والدول لعقود وقرون طويلة، ولم تسقط في ظرف شهور وسنوات بل حتى لم تُذكر ولم يحصل قيامها، طالما كان ما قبلها ليس إلا فوضى تامة، ولولاها لم يكن من أمن وأمان؟!
أما الجزء الأخير من السؤال، الذي أوجهه لكُتَّاب تلك المقالات والتقارير الصحفية مَنْ يقدمون أنفسهم “مثقفين”:
هل لو كانت هذه الدعاية السطحية صحيحة افتراضا، ما العامل المعجزة هنا الذي ساعد تلك الخلافات والدول في الانشغال بتنمية شتى العلوم والمعارف، تلك المكتسبات العلمية الثقافية التي تنسبون أنفسكم إليها، وتتحدثون حولها، وتقتبسون منها، ويشيد كثير منكم بها؟!

# الهامش كمتن:

ومن الأفكار الشائعة حتى الآن، أن المؤسسات السياسية يمكنها أن تشكل علاجا لنواقص المجتمع، وأن تقدم الشعوب ناتجا عن أشكال الحكومات، وأن المتغيرات الاجتماعية يمكن أن تنتج بمجرد سن القوانين، هذا وهم كبير، كيف تُبنى المؤسسات وهي بنات الأفكار والعواطف والأخلاق والطبائع؟، أليس الشعب هو مَنْ ينتجها؟!، كيف تصبح خلاقة عصرها وهي مخلوقته؟!،

وقد قال فوكولاي: “تتساقط المؤسسات حينما تسن القوانين على رغباتها فلا تتعامل مع حالها وواقعها إلا لتلك الرغبة لا الحقيقة، وهذا ما أشعل المقاصل بعد الثورة الفرنسية!”.(غوستاف لوبون/ سيكولوجية الجماهير).

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق