(سيادة الأمة) و (تطبيق الشريعة) في ضوء النقد المعرفي

الكاتب:

12 ديسمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

د سليمان الضحيان

هذا المقال كان من المفترض أن أكتبه قبل سنة حينما دار حراك وحوارات ثرية حول (الفقه السياسي) في الإسلام في (الفيس بوك)، لكن حدثت الثورات العربية فأرغمت الجميع على متابعتها، ولقد وجدت الفرصة مناسبة لطرحه هذه الأيام؛ حيث ثارت حوارات حول سيادة الأمة، وتشعب الحديث، وطاشت سهام واتهامات، وكل ذلك رائع، وجميل، ومبهج، ومفرح  -مع ما فيه من تجاوزات-؛ لأن الحراك الفكري -مهما كان- يساهم في تنمية عقليات نقدية فاحصة لدى أجيالنا الشابة، تسأل، وتحاور، وتنتقد، وتعترض، وهذا كله هو الخطوة الأولى لنشر الوعي، ونشر الوعي هو الخطوة الأولى في انبعاث الأمة، ونهضتها.

ثم إني لا أزعم أن ما سأسطره هو الحق المبين، لكن حسبي أنه هو ما أراه صوابا، وأتعبد الله باعتقاده، لكنه -كأي كلام بشري-  قابل للتخطئة، والنقد، والرد، ورحم الله من انتقد بعلم، وعدل.

محور ما دار من حوارات كان عن مسالة (سيادة الأمة، وتطبيق الشريعة)؛ أسيادة الأمة مقدمة على تطبيق الشريعة، أم إن تطبيق الشريعة ملزم دون الالتفات لمشورة الأمة في تطبيقها؟

ومصطلح (سيادة الأمة) يعبر عنها بتعبيرات كثيرة منها (الديمقراطية المطلقة)، وأعني بها الديمقراطية غير المقيدة بأي قيد سوى اختيار الشعب، ويعبر عنها بقولهم (الشعب مصدر السلطات)؛ إذ من خلال تصويت الشعب تتحقق السلطة، فاتخاذ الشريعة مصدرا للتشريع يكون في هذه الحالة مستمدا من إقرار الشعب، أو الأمة بالأخذ بها وتحكيمها، والتصويت على ذلك.

وقد قرأت كثيرا مما طرح بداية من كتاب الزميل الأستاذ نواف القديمي (أشواق الحرية)، ومقالات الأستاذ عبد الله المالكي، وردود بعض الدكاترة، والأساتذة عليه، فوجدت أن الأصل الذي يجب الانطلاق منه للحكم على المسألة كان غائبا في غالب ما طرح من الطرفين، وأنا معنيٌّ بـ(النقد المعرفي) بعيدا عن الدعوة لمذهب، أو فكر معين، لأني أعتقد أن شيوع (النقد المعرفي) كفيلٌ ببناء ثقافة جادة بعيدا عن التجاذات الآيديلوجية، والصراعات الحزبية.

وشيوع (النقد المعرفي) يدفع الجيل الشاب إلى ( الموضوعية )، في تناول القضايا الفكرية، والحكم عليها؛ وهو ما نحتاج إليه.

ولا يخالجني شك أن كثيرا من القراء حينما يتصور المسألة حق التصور، ويدرك الأصل الذي يجب الانطلاق منه للحكم على المسألة، سيتضح له أن الخلاف فيها لا يستلزم التشنيع، و الهجوم العنيف الذي مارسه بعض المتحمسين تجاه من يختلف معهم فيها.

وبعدُ؛ فالكلام في (سيادة الأمة)، وأهي مقدمة على (تطبيق الشريعة) أم إن الشريعة تطبق دون التصويت عليها من قبل الأمة، يستلزم قبل ذلك تأصيل القول في مسألة مهمة جدا وهي (حكم التحاكم إلى غير الشريعة)، فعلى ضوء ذلك يكون الحكم على قول مَنْ قال بشرعية سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة، وقد وجدت أن النقد الموجه للأستاذ عبد الله المالكي ينطلق من القول ( بكفر من لم يحكم بالشريعة) مطلقا دون تفصيل، وكل الردود عليه تنطلق من هذا الرأي، وكأنه رأي مسلم به.

والحق أنه لا يمكن أن يحكم على قول من قال بـ(سيادة الأمة) قبل تطبيق الشريعة إلا بعد معرفة رأيه بحكم مَنْ لم يحكم بالشريعة غير مستحل لذلك، أو يرى أن غير الشريعة أولى منها، أو مثلها، أهو كافر أم مرتكب لكبيرة من الكبائر؟
وبناء على هذا الأصل الذي يجب أن ننطلق منه؛ يتحصل لدينا أربع صور للمسألة، اثنتان منضبطتان معرفيا، واثنتان فيهما خلل معرفي، وإليك التفصيل :

الصورتان غير المنضبطتين معرفيا:

الصورة الأولى: من يرى أن ترك تحكيم الشريعة واستبدال قانون وضعي بها كفرٌ مخرجٌ من الملة مطلقا من دون تفصيل، و يرى في الوقت نفسه أن (سيادة الأمة) مقدمةٌ على ( تطبيق الشريعة)، وأن أمر تحكيم الشريعة متروك لتصويت الشعب، وهذا الرأي غريبٌ عجيبٌ؛ إذْ محصَّلُهُ استشارة الشعب المسلم بين الكفر والإسلام، وبعبارة مبسطة كأنه يقول في استشارته:(مارأيكم أن نكفرَ أو نُسْلِمَ؟)، وهذا بلا أدنى ريب مخالف لكل أبجديات العلم؛ وذلك أن من يرى أن ترك تحكيم الشريعة كفرٌ مخرج من الملة لابد أن يرى إلزام المسلمين بها على كل حال -في حالة القدرة- ولا يجوز التخلي عن ذلك إلا في حالة الإكراه فقط؛ إذ المصير إلى الكفر إنما يفعله المسلم حالة الإكراه، ويرى -بالضرورة أيضا- أن المسلم الذي لا يريد تحكيم الشريعة بعد البيان له، وإقامة الحجة عليه كافرٌ يجب استتابته، وإن أصر على رأيه يقتل، وإذا كان هذا ما يترتب على الرأي القائل بأن ترك تحكيم الشريعة كفر مخرج عن الملة فكيف يُعقل أن يقول مَنْ يرى هذا الرأي بأن (سيادة الأمة) مقدمة على ( تطبيق الشريعة)، فتأمل !!

الصورة الثانية: من يرى أن ترك تحكيم الشريعة واستبدال قانون وضعي بها كفرٌ مخرجٌ من الملة، وبناء عليه فلا يجوز أخذ رأي الناس وتصويتهم على تحكيم الشريعة؛ إذ لا تصويت على كفر، وإيمان، وهذه الصورة تشترك مع الصورة الأولى بالقول بـ(كفر من لا يحكم بالشريعة)، لكنها تختلف في (إلزام الشعب المسلم بتطبيق الشريعة) فالصورة الأولى تحكم بكفر تارك التحكيم، ومع هذا ترى استشارة الناس بتحكيم الشريعة، والصورة الثانية تحكم بكفر تارك التحكيم، ولا ترى استشارة الناس بتحكيم الشريعة؛ إذ مجرد إسلامهم ملزم لهم بتطبيق الشريعة، ولا شك أن الصورة الثانية هي الأصوب معرفيا؛ إذ لا يعقل أن يستشار المسلم، ويخير بين الكفر والإسلام!

وهذه الصورة هي الصورة التي عليها غالبية الإسلاميين المحافظين لدينا، وكانت ردودهم، وكتاباتهم منطلقة من هذا التأصيل.

حسنا ما وجه عدم الانضباط الذي أشرت إليه في تقديمي لهذه الصورة ؟

وجه عدم الانضباط في هذه الصورة أن من يقول بها غير مطرد في تطبيق تأصيله للمسألة، فهم يقررون أن ترك تحكيم الشريعة كفر مخرج عن الملة، وأنه لا يجوز التصويت على تحكيم الشريعة، وأن السيادة ليست للشعب بل هي للشريعة، وهذا كله تأصيل مطردٌ، لا مغمز فيه، لكن وجه عدم الاطراد في تطبيق هذا التأصيل يتلخص ببعض الصور، ومنها:

 1- عدم تكفيرهم للقضاة الذين يحكمون بغير الشريعة في كثير من البلدان العربية والإسلامية ممن يحكمون بالقانون الوضعي، وكل القضاة بتلك البلدان ممن درس الشريعة في كليات الحقوق،  فهم ليسوا من العوام الجُهَّال، أو على أقل تقدير لا يكفرون مَنْ تقوم عليه الحجة من أولئك القضاة.

ودعونا نطرح سؤالا على أولئك الإخوة: ما تقولون في قاض من قضاة تلك المحاكم درس الشريعة، ونوقش وبينت له الأدلة، وأقيمت عليه الحجة، ومع هذا أصرَّ على الاستمرار بالعمل قاضيا يحكم بالقانون الوضعي؛ هل نحكم بكفره؟

2- لا يكفرون أعضاء البرلمان من الإسلاميين الذي يُقْسِمون في أول فوزهم على (احترام الدستور الوضعي المخالف للشريعة -أي الكفري  في رأيهم-، والسهر على المحافظة عليه، وتطبيقه) ممن أقيمت عليهم الحجة، والعجب أنهم يرون أن دخول البرلمانات فيه مصلحة، وتخفيفٌ للضرر، ونحن نعلم أنه لا يجوز الكفر إلا في حالة الإكراه فقط، والأمر في الكفر غير خاضع للمصلحة والمفسدة.

وعليه نطرح سؤالا على أولئك الإخوة: ما تقولون في إسلامي دخل في الانتخابات للوصول للبرلمان، ومن المعلوم أن البرلمان يقتضي القسم على احترام الدستور، والسهر على المحافظة عليه وتطبيقه؛ والدستور دستور ينص على التحاكم إلى غير شرع الله (أي دستور كفري)، ونوقش هذا الإسلامي وبُيِّنت له الأدلة، وأقيمت عليه الحجة، لكنه أصَرَّ، هل يحكم بكفره؟

و إن قال ذلك الإسلامي: إني أريد دخول البرلمان، والقسم على احترام الدستور الكفري، والمحافظة على تطبيقه، أفعلُ ذلك من باب (المصلحة)، و(تقليل المفسدة) أي يريد ارتكاب الكفر من باب المصلحة، هل تواقفون على ذلك؟

وهل مسألة الكفر والإيمان خاضعة للمصلحة والمفسدة؟

3- لا يُحرِّمون السفر للدول التي تتحاكم إلى غير الشريعة سواء أكانت عربية أم أجنبية لغير ضرورة، كالسفر لطلب علم يوجد مثله في بلده المسلم، أو للسياحة؛ إذ إن السفر لتلك الدول يستلزم الإقرار باحترام أنظمة تلك الدول، ويستلزم التحاكم إلى محاكمها التي تحكم بغير الشريعة (أي محاكم كفرية)، بل إن بعضا ممن يرى كفر التحاكم إلى غير الشريعة مطلقا يسافر إلى الدول الغربية للدراسة -وهو غير مضطر لتلك الدراسة- ويعيش فيها السنوات الطوال راضيا بالتحاكم إلى قوانينهم، وخاضعا لها، فتأمل حجم التناقض بين التأصيل والتطبيق في بعض صوره !!

الصورتان المنضبطتان معرفيا:

الصورة الأولى من الصور المنضبطة معرفيا:

من يرى أن ترك تحكيم الشريعة واستبدال قانون وضعي بها كفرٌ مخرجٌ من الملة، وبناء عليه فلا يجوز أخذ رأي الناس وتصويتهم على تحكيم الشريعة، إذ إن مجرد إسلامهم ملزم لهم بتحكيم الشريعة، و يطرد تأصيله هذا في كل تطبيقاتها؛ فيرى كفر الأنظمة الحاكمة التي تقر في دستورها، وقوانينها التحاكم لغير الشريعة.

ويرى كفر القضاة في تلك البلدان الذين يعملون في محاكمها التي تحكم بغير الشريعة بعد البيان لهم، وإقامة الحجة عليهم.

  ويرى كفر الدخول في البرلمانات التي تقوم على دساتير تُقرر أن الشريعة ليست هي مصدر التشريع، ولا يرى أن المصلحة تجيز لأي إسلامي الدخول فيها؛ إذ الكفر والإيمان لا يخضعان للمصلحة والمفسدة.

 ويرى حرمة السفر للبلاد التي لا يُحكَم فيها بالشريعة، ومن سافر-غير مضطر- وتحاكم إلى غير الشريعة في تلك البلدان، وهو عالمٌ بكفر من تحاكم لغير الشريعة، أو جاهل وبين له، وأقيمت عليه الحجة، فهو كافر؛ إذ ارتكب كفرا وهو عالم وغير مُكْره.

الصورة الثانية من الصور المنضبطة معرفيا:

من يرى أن ترك تحكيم الشريعة من غير استحلال لذلك، أو اعتقاد أن حكم غير الشريعة أولى، أو مثل الشريعة ليس كفرا مخرجا من الملة بل هو كبيرة من الكبائر، وتحكيمها واجب من أعظم الواجبات، ويرى أن الأصل تطبيق الشريعة، لكنه يُجَوِّز أن تُقدَّمَ سيادة الأمة على تطبيق الشريعة في هذا العصر-خاصة- الذي انتشرت فيه الثقافة السياسية الرافضة للاستبداد، والداعية لاشتراك مجموع الأمة في السلطة، وطريقة الحكم، وكتابة الدستور، واستقر من واقع التجربة أن  تحقيق سيادة الأمة أولا يؤدي للقضاء على الاستبداد، وينشر المساواة بين أفراد الأمة في حقهم في سياسة أمرهم، ويحقق الاستقرار لها، ويحافظ على السلم الأهلي بين طوائفها المختلفة الأعراق، والأديان، والمذاهب، ويقطع الطريق على كل مغامر يريد الوثوب للسلطة، والانفراد بها، ولا تتحقق مقاصد الشريعة من طلب الأمن، والحفاط على وحدة الأمة، ووحدة البلد، وقطع الطريق على الاستئثار بالسلطة، والقضاء على الاضطرابات التي تحصل بإلزام الناس بشيء دون مشورتهم فيدفعهم ذلك للإضرابات، والمظاهرات، والاعتصامات -كما استقرت عليه ثقافة العالم السياسية اليوم في غالب البلدان الإسلامية- مما يخل باقتصاد البلد، وأمنه، ويعطل مصالحه، لا تتحقق تلك المقاصد الشرعية العظمى اليوم إلا من خلال إشراك مجموع الناس في البلد الواحد بمختلف أديانهم، وطوائفهم، وأعراقهم بإقرار دستور البلد، ليكون معبرا عن جميع الشعب وقاطعا لكن من يزعم أنه مرغم على الخضوع للسلطة فيدفعه ذلك للتمرد، وإرادة إشاعة الفوضى، والاستعانة بالقوى الأجنبية.

وهذا الرأي هو من جنس ترك واجب من الواجبات لأجل مصلحة كبرى متحققة، وهو أمر مشروع يقرره الأصوليون، فقد ترك الرسول بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خشية من ردة فعل قريش القريبة العهد من الشرك، وترك قتل المنافقين الذين يسعون في تفريق صف الأمة وإضلالها؛ خوفا من الرأي العام أن يحصل لديه لَبْسٌ بأن محمدًا يقتل أصحابه، ومثل هذا كثير.
والقول بأن ترك تحكيم الشريعة من دون استحلال، أو اعتقاد أن غيرها أولى منها، أو مثلها  ليس بكفر هو قولٌ معروفٌ لدى طائفة ٍكبيرةٍ من العلماء قديما وحديثا (انظر الملحق المرفق بهذه المقالة).

 وتغليب القول بتكفير تارك الحكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل له، ولا يرى أن غيره أولى منه أو مثله إنما انتشر وساد، وأصبح هو القولَ الغالب لدى قطاع عريض من طلبة العلم-حتى إن بعضا منهم يغلو في إنكار القول بعدم الكفر، ويراه إرجاء (كذا!!)-  إنما حصل ذلك التغليب بعدَ أطروحات أبي الأعلى المودودي، وسيد قطب في شرك الحاكمية، ثم بداية من الستينيَّات الميلادية؛ ونتيجة لصعود (الحَرَكية الإسلامية) في مواجهة اضطهاد الدكتاتوريين، وملاحقتهم، وسجنهم، وقمعهم أصبح كثير من الإسلاميين يتشدد بالقول في هذه المسألة، ويرى كفر من لم يحكم بغير ما أنزل الله مطلقا سواء أذلك استحل أم لم يستحل؛ وسواء أرأى أن غير الشريعة أولى منها أو مثلها أم لم يرَ؛ لأن تلك المقولة أصبحت هي العلامة الفارقة بين الإسلاميين الحركيين الملاحقين من السلطات القمعية المستبدة، والإسلاميين التقليديين الملتحقين بحكومات أولئك المستبدين، ولو أن الخلاف في المسألة كان في أجواء غير ضاغطة، ما حصل فيها هذا التشدد الملحوظ لدى قطاع عريض من الإسلاميين الحركيين.

وبعض من أولئك القائلين بكفر من لم يحكم بالشريعة يفرقون بين الحكم بغير ما أنزل الله لشهوة مال، أو جاه، مرة أو مرتين أو مرات فلا يكفرونه، ومن شرَّع قانونا يخالف الشريعة، وألزم الناس به، وهو غير مستحل لذلك، ولا يرى أنه أولى من شرع الله أو مثله فيكفرونه، وقد ساوى الشيخ ابن عثيمين بين الصورتين، ورأى أنه لا يكفر في الحالتين إذا لم يستحل، أو يرى أن غير شرع الله أولى من شرع الله أو مثله، فقد ورد عليه سؤال من أبي الحسن المأربي عن تكفير الحكام في شريط بتاريخ1420هـ، فأجابه ابن عثيمين بعد الحمدلة بقوله: (( ففي هذا اليوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول عام عشرين وأربعمائة وألف استمعت إلى شريط مسجل باسم أخينا أبي الحسن في مأرب ابتدأه بالسلام علي فأقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته…، أما فيما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كما في كتابه العزيز، ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كفر، وظلم، وفسق، على حسب الأسباب التي بُني عليها هذا الحكم، فإذا كان الرجل يحكم بغير ما أنزل الله تبعًا لهواه مع علمه بأن الحق فيما قضى الله به؛ فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق وظالم، وأما إذا كان يُشَرِّعُ حكما عاما تمشي عليه الأمة يرى أن ذلك من المصلحة، وقد لُبِّس عليه فيه فلا يكفر أيضا؛ لأن كثيرا من الحكام عندهم جهل بعلم الشريعة، ويتصل بمن لا يعرف الحكم الشرعي، وهم يرونه عالما كبيرا، فيحصل بذلك مخالفة، وإذا كان يَعْلمُ الشرعَ ولكنه حكم بهذا، أو شرَّع هذا، وجعله دستورا يمشي الناس عليه؛ يَعْتقد أنه ظالمٌ في ذلك، وأن الحق فيما جاء به  الكتاب والسنة؛ فإننا لا نستطيع أن نُكفِّر هذا، وإنما نُكَفِّر من يرى أن الحكم بغير ما أنزل الله أولى أن يكون الناس عليه، أو مثل حكم الله عز وجل فإنَّ هذا كافر؛ لأنه مكذب بقول الله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.

الملحق:

ملحق بأقوال بعض العلماء قديما وحديثا بعدم كفر من ترك تحكيم ما أنزل الله وهو غير مستحل له (وهو جهد لبعض الباحثين، اطلعت عليه قديما وحفظته، ولا أعلم اسم جامعه، وهو في معظمه نقلٌ من كتب التفاسير لتفسير قول الله تعالى: (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون))، ويمكن الرجوع لتفسيرها لمن أراد المزيد والتوثيق).

أقوال العلماء المعتبرين في تحكيم القوانين:
(( الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:
فهذا بعض ما قاله علماءُ الإسلام المعتبرون على مدار القرون تسليم كف بكف وكابر عن كابر في تأويل آيات الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم القوانين.
1- حبر الأمة وترجمان القرآن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة:44] قال:”من جحد ما أنزل الله، فقد كفر، ومن أقرَّ به، لم يحكم به فهو ظالم فاسق“. أخرجه الطبري في «جامع البيان» (6/166) بإسناد حسن. «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للألباني(6/114(
وقال طاووس عن ابن عباس -أيضًا- في قوله: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾؛ قال: ليس بالكفر الذي يذهبون إليهأخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/522/574) بإسناد صحيح. «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للإلباني (6/114 (، وفي لفظ: “كفر لا ينقل عن الملة”. وفي لفظ آخر: “كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق”. أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/522/575) «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للألباني (6/114( ولفظ ثالث: “هو به كفره، وليس كمن كفر بالله، وملائكته، وكتبه ورسله”. أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/521/570) وإسناده صحيح.
العلماء الأعلام الذين صرحوا بصحة تفسير ابن عباس واحتجوا به
)
الحاكم في المستدرك (2/393)، ووافقه الذهبي، الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/64)  قال: صحيح على شرط الشيخين، الإمام القدوة محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/520)، الإمام أبو المظفر السمعاني في تفسيره (2/42)، الإمام البغوي في معالم التنزيل (3/61)، الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (2/624)، الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/190)، الإمام البقاعي في نظم الدرر (2/460)، الإمام الواحدي في الوسيط (2/191)، العلامة صديق حسن خان في نيل المرام (2/472)، العلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (2/101)، العلامة أبو عبيد القاسم بن سلام في الإيمان (ص 45)، العلامة أبو حيان في البحر لمحيط (3/492)، الإمام ابن بطة في الإبانة (2/723)، الإمام ابن عبد البر في التمهيد (4/237)، العلامة الخازن في تفسيره (1/310)، العلامة السعدي في تفسيره (2/296)، شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/312)، العلامة ابن القيم الجوزية في مدارج السالكين (1/335)، محدث العصر العلامة الألباني في “الصحيحة” (6/109).
قال فقيه الزمان العلامة ابن عثيمين في التحذير من فتنة التكفير (ص 68” : (لكن لما كان هذا الأثر لا يرضي هؤلاء المفتونين بالتكفير؛ صاروا يقولون: هذا الأثر غير مقبول! ولا يصح عن ابن عباس! فيقال لهم: كيف لا يصحّ؛ وقد تلقاه من هو أكبر منكم، وأفضل، وأعلم بالحديث؟! وتقولون: لا نقبلفيكفينا أن علماء جهابذة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم –وغيرهما- كلهم تلقوه بالقبول ويتكلمون به، وينقلونه؛ فالأثر صحيح.
2-إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة:241) قال إسماعيل بن سعد في “سؤالات ابن هاني” (2/192) سألت أحمد: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾، قلت: فما هذا الكفر؟ قال: كفر لا يخرج من الملة).
ولما سأله أبو داود السجستاني في سؤالاته(ص 114) عن هذه الآية؛ أجابه بقول طاووس وعطاء المتقدمين وذكر شيخ الإسلام بن تيمية في “مجموع الفتاوى” (7/254)، وتلميذه ابن القيم في “حكم تارك الصلاة” ( ص 59-60): أن الإمام أحمد  -رحمه الله- سئل عن الكفر المذكور في آية الحكم؛ فقال: “كفر لا ينقل عن الملة؛ مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه“.
3- الإمام محمد بن نصر المروزي المتوفى سنة:294 قال في “تعظيم قدر الصلاة” (2/520): “ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين؛ إذ جعلوا للكفر فروعا دون أصله لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما ثبتوا للإيمان من جهة العمل فرعا للأصل، لا ينقل تركه عن ملة الإسلامة، من ذلك قول ابن عباس في قوله: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾.
وقال (2/523) معقبا على أثر عطاء:-“كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق”-: “وقد صدق عطاء؛ قد يسمى الكافر ظالما، ويسمى العاصي من المسلمين ظالما، فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل“.
4-  شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري المتوفى سنة:310، قال في “جامع البيان” (6/166): وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب: قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرا عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصا؟!
قيل: إن الله تعالى عمّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به، هو بالله كافر؛ كما قال ابن عباس“.
5-  الإمام ابن بطة العكبري المتوفى سنة:387، ذكر في “الإبانة” (2/723): “باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملّة”، وذكر ضمن هذا الباب: الحكم بغير ما أنزل الله، وأورد آثار الصحابة والتابعين على أنه كفر أصغر غير ناقل من الملة.
6-  الإمام ابن عبد البر المتوفى سنة: 463، قال في “التمهيد” (5/74): “وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالما به، رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف، وقال الله -عز وجل-: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾، ﴿ الظَّالِمُونَ ﴾، ﴿ الْفَاسِقُونَ ﴾ نزلت في أهل الكتاب، قال حذيفة وابن عباس: وهي عامة فينا؛ قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر روي هذا المعنى عن جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم ابن عباس وطاووس وعطاء“.
7- الإمام السمعاني المتوفى سنة:510، قال في تفسيره للآية (2/42): “واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية، ويقولون: من لم يحكم بما أنزل الله؛ فهو كافر، وأهل السنة قالوا: لا يكفر بترك الحكم“.
8-  الإمام ابن الجوزي المتوفى سنة: 597، قال في”زاد المسير” (2/366):”وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا له، وهو يعلم أن الله أنزله؛ كما فعلت اليهود؛ فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلا إلى الهوى من غير جحود؛ فهو ظالم فاسق، وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس؛ أنه قال: من جحد ما أنزل الله؛ فقد كفر، ومن أقرَّ به؛ ولم يحكمم به؛ فهو ظالم فاسق“.
9- الإمام ابن العربي المتوفى سنة:543، قال رحمه الله في “أحكام القرآن” (2/624): ” وهذا يختلف: إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين“.
10- الإمام القرطبي المتوفى سنة:671، وقال في “المفهم” (5/117): “وقوله ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يحتج بظاهره من يكفر بالذنوب، وهم الخوارج!، ولا حجة لهم فيه؛ لأن هذه الآيات نزلت في اليهود المحرفين كلام الله تعالى، كما جاء في الحديث، وهم كفار، فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب النزول.
وبيان هذا: أن المسلم إذا علم حكم الله تعالى في قضية قطعا ثم لم يحكم به، فإن كان عن جحد كان كافرا، لا يختلف في هذا، وإن كان لا عن جحد كان عاصيًا مرتكب كبيرة، لأنه مصدق بأصل ذلك الحكم، وعالم بوجوب تنفيذه عليه، لكنه عصى بترك العمل به، وهذا في كل ما يُعلم من ضرورة الشرع حكمه؛ كالصلاة وغيرها من القواعد المعلومة، وهذا مذهب أهل السنة“.
11-  شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة :728، قال في “مجموع الفتاوى” (3/267):” والإنسان متى حلَّل الحرام المجمع عليه أو حرَّم الحرام المجمع عليه أو بدَّل الشرع المجمع عليه كان كافرا مرتدًّا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة:44]؛ أي: المستحل للحكم بغير ما أنزل الله“.

وقال في “مجموع الفتاوى” (7/312): “وإذا كان من قول السلف: (إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق)، فكذلك في قولهم: (إنه يكون فيه إيمان وكفر) ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملّة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ قالوا: كفروا كفرا لا ينقل عن الملة، وقد اتّبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة“.
12- الإمام ابن قيم الجوزية المتوفى سنة :751، قال في “مدارج السالكين” (1/336):” والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين: الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مُخيّر فيه، مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. إن جهله وأخطأه، فهذا مخطئ، له حكم المخطئين.”
وقال في “الصلاة وحكم تاركها” ( ص 72): “وههنا أصل آخر، وهو الكفر نوعان: كفر عمل. وكفر جحود وعناد. فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا؛ من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه.
وأما كفر العمل: فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده: فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبيِّ وسبه؛ يضاد الإيمان. وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة؛ فهو من الكفر العملي قطعا
.”

13- الإمام ابن أبي العز الحنفي المتوفى سنة:791، قال في “شرح الطحاوية”( ص 323):”وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرا: إما مجازا وإما كفرا أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعه، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا عاص، ويسمى كافرا كفرا مجازيا، أو كفرا أصغر. وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه؛ فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور.

14- الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة :852، قال في “فتح الباري” (13/120): “إن الآيات، وإن كان سببها أهل الكتاب، لكن عمومها يتناول غيرهم، لكن لما تقرر من قواعد الشريعة: أن مرتكب المعصية لا يسمى: كافرا، ولا يسمى -أيضًا- ظالما؛ لأن الظلم قد فُسر بالشرك، بقيت الصفة الثالثة”. يعني الفسق.
15- العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ المتوفى سنة:1293، قال في “منهاج التأسيس”( ص 71): “وإنما يحرم إذا كان المستند إلى الشريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر، وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهواؤهم، وكذلك البادية وعادتهم الجارية…فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها؛ فهو كافر، قال تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا: كفر دون الكفر الأكبر؛ لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة“.

16-  العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي المتوفى سنة: 1307، قال في “تيسير الكريم الرحمن” (2/296-297): ” فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرًا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه، وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد…﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ قال ابن عباس: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، فهو ظلم أكبر عند استحلاله، وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له“.

17-سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ المتوفى سنة : 1389، قال في “مجموع الفتاوى”(1/80) له:”وكذلك تحقيق معنى محمد رسول الله: من تحكيم شريعته، والتقيد بها، ونبذ ما خالفها من القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي من حكم بها [يعني القوانين الوضعية] أو حاكم إليها؛ معتقدًا صحة ذلك وجوازه؛ فهو كافر الكفر الناقل عن الملة، فإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه؛ فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقل عن الملّة”.

 18- سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز المتوفى سنة: 1420، نشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها (6156) بتاريخ 12/5/1416 مقالة قال فيها:”اطلعت على الجواب المفيد القيّم الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -وفقه الله- المنشور في جريدة “الشرق الأوسط” وصحيفة “المسلمون” الذي أجاب به فضيلته من سأله عن تكفير من حكم بغير ما أنزل الله -من غير تفصيل-، فألفيتها كلمة قيمة قد أصاب فيه الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين، وأوضح -وفقه الله- أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله – بمجرد الفعل- من دون أن يعلم أنه استحلّ ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من سلف الأمة.
ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾، ﴿…الظَّالِمُونَ ﴾، ﴿ …الْفَاسِقُونَ ﴾، هو الصواب، وقد أوضح -وفقه الله- أن الكفر كفران: أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان: أكبر وأصغر، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرهما من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفرا أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرا أصغر وظلمه ظلما أصغر وهكذا فسقه”.

19- محدث العصر العلامة محمد بن ناصر الدين الألباني المتوفى سنة: 1420، قال في “التحذير من فتنة التكفير” ( ص 56): ” … ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾؛ فما المراد بالكفر فيها؟ هل هو الخروج عن الملة؟ أو أنه غير ذلك؟، فأقول: لا بد من الدقة في فهم الآية؛ فإنها قد تعني الكفر العملي؛ وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام، ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- الذي أجمع المسلمون جميعًا -إلا من كان من الفرق الضالة- على أنه إمام فريد في التفسير.
فكأنه طرق سمعه –يومئذ- ما نسمعه اليوم تماما من أن هناك أناسًا يفهمون هذه الأية فهما سطحيًّا، من غير تفصيل، فقال رضي الله عنه: “ليس الكفر الذي تذهبون إليه”، و:”أنه ليس كفرا ينقل عن الملة”، “وهو كفر دون كفر”، ولعله يعني: بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين، وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين، فقال: ليس الأمر كما قالوا! أو كما ظنوا! إنما هو: كفر دون كفر…”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق