الشبيبة السعودية: من موضة الأيديولوجيا إلى صرامة النقد

الكاتب:

27 مارس, 2012 لاتوجد تعليقات

في معرض الكتاب الأخير الذي أقيم بالعاصمة الرياض اصطحبت معي مجموعة من مؤلفات الشباب السعوديين, التي صدرت من دور نشر مختلفة, المجموعة التي ابتعتها شملت أسماء جديدة -نسبيًّا- على الساحة معظمها بدأت نشاطها الثقافي قبل مدد قصيرة, أسماء كبدر الإبراهيم وعبدالله المالكي ونواف القديمي وعلي الظفيري وشتيوي الغيثي وشايع الوقيان وحمد الراشد وغيرهم. هذه الأسماء زاحمت الأسماء الكبيرة والمخضرمة، التي يمتد نشاطها منذ عقود طويلة, ولا تختلف لكونها أسماء جديدة وشابة فحسب وإنما طريقة الكتابة تغيرت حيث تضمنت بحث هموم هذا العصر ومشكلاته تحديدًا، عوضًا عن وراثة مشكلات الأجيال الماضية.

لماذا قلت الأجيال الماضية؟ لأننا اعتدنا قراءة مؤلفات كثيرة من نتاج الثمانينيات والتسعينيات والألفية الجديدة, تغلب عليها سمة التعسف الأيديولوجي وليس النقد المعرفي الرصين والجاد, مؤلفات من قبيل (وجاء دور المجوس) و(ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) و(حراسة الفضيلة) فضلا عن آلاف الكتيبات الصغيرة التي تقطر منها الأدلجة السوداء, على حين احتوت المؤلفات المختلفة عن هذه الموجة الأيديولوجية الجامحة, نزعات ذات تمرد سطحي وبدائي على الموجة السائدة, أقرب للانفلات الغريزي وليس الاحتكام لمنطق التحليل العقلي, مؤلفات أتت حينًا على شكل مناظرات سطحية بين علماني حليق ومطوع كث اللحية, أو روايات باهتة فنيًّا ومضمونيًّا تختزل عادة في سرير جنسي ومشروب كحولي, أو فتيات وفتيان المدن السعودية وهم يعيشون قصصًا خيالية تنتمي لأقليات مخملية أرستقراطية جرى تعميمها على أنها حياة مجتمع بأسره وحظيت بمباركة رموز كنا نظنها رموزا ثقافية وإذا بها تكيل المديح لمن لا يستحقه.

إن هذه المؤلفات الجديدة خالفت هذه النزعات الأيديولوجية التي باتت تقليدية ومستهلكة تمامًا, وطرحت هذه الكتب أسئلة جديدة على ذهنية المتلقي السعودي: أسئلة تخص شرعية العلاقة بين الديني والسياسي وتتناولها من منظور جذري وحساس, وأسئلة أخرى تناقش كثيرًا من العادات الاجتماعية الجارية التي أخذها كثيرون مأخذ البديهة ولم يعملوا عليها عقولهم تحليلا وتأملا, وأيضا أسئلة حول مواضيع فلسفية وفكرية تعد نقلة نوعية في التأليف السعودي, بجانب المؤلفات التي تتفاعل مع مفكرين عرب آخرين وتقدم قراءة إيجابية وبناءة لكثير من الرموز الفكرية في العالم العربي, ومؤلفات أتت على هيئة يوميات ومذكرات للثورات العربية بمنظور من رآها وعايشها عن قرب من مثقفينا السعوديين.

ولا أخفي أن هذا الاتجاه الجديد في النقد قد بعث بداخلي شيئًا من العزاء, فقد كنت أحادث الأصدقاء في السنوات المتأخرة حول نفاد الإبداع في تأليفنا المحلي فيما يخص الشأن الفكري والنقدي والفلسفي, وكون معظم المواضيع المطروقة لا تمت لواقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي إلا بأوهى الصلات! فأحدهم يسرد فصولا مطولة حول فتوى فقهية لا تكاد تملك أية قيمة تذكر في عصرنا الحالي, وآخر يتكلم عن نظرية فلسفية لمؤلف غربي مجهول لا ليقدم لها نظرة نقدية متفاعلة وإنما ليفرضها فرضا على أناس لا يدركون منها إلا أقل القليل, وآخر يكتب في رواياته الغرامية قصص حب خيالية هي أقرب للترجمة والنقل وليس بغرض مقاربة الواقع كما فعل كثير من الأدباء المحنكين.

إن كثيرا من مشاكلنا الحساسة والحيوية أهملت لمصلحة قضايا أيديولوجية عالقة منذ قرون طويلة, مشاكل حقيقية همشت من أجل استعراض القدرة على الحفظ والتأصيل التاريخي والمبارزة اللغوية المجوفة على حساب الحقيقة الأرضية والواقعية، القلة ناقشت كوننا كائنات نفطية ستفنى بمجرد نضوب الزيت الأسود أو حتى إيجاد مصدر للطاقة منافس له، القلة ناقشت مفهوم السلطة لدينا وكونه مفهومًا أحادي التطبيق والاتجاه، القلة حاولت ترسيخ المنهجية العلمية في النقاش على صعيد الأدوات والتطبيقات وكون المجتمع يفتقر لهذه المنهجية وبات يلجأ للحكم المسبق ويستقي أفكاره مستعينا بالدعاية الإعلامية الممجوجة، القلة بحثت في الفلسفة والفكر وعلاقتنا مع العالم الخارجي ضمن رؤية أصيلة وإبداعية.

وجاءت هذه الطفرة التأليفية هذه السنة لتلغي في ذهني التصورات القديمة, وترسخ بذهني قناعة جديدة وهي أن الشبيبة الآن بدأت تتململ من الكساد القديم الذي لوث العقول والأجساد معا، وشمرت هذه الشبيبة عن سواعدها لتنظف أجواءنا الثقافية مما التصق بها من غشاء حجب الحقيقة وأضل الفكر عن طريق النقد والمساءلة, وهذه المؤلفات ليست كافية بالطبع فنحن بحاجة لمزيد من الاجتهاد الذي لا ينتهي طالما أننا سنبقى في جدلية الواقع والفكر وازدواجية العلاقة بين العقل والمادة, إلا أنها في خاتمة المطاف مؤلفات تنبئ عن فجر جديد في فكرنا السعودي, فجر الفكر الناقد, والشبيبة المسؤولة التي أنيط بها تأمل مستقبلها الخاص, ومستقبل الأجيال القادمة التي لم تولد بعد.

خاص بموقع “المقال”.

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

عن طريف السليطي

كاتب في جريدة المدينة باحث في الفكر والفلسفة
زيارة صفحة الكاتب على تويتر

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق