صور الشهداء وألفة الموت

الكاتب:

3 أغسطس, 2014 لاتوجد تعليقات

كتبت الكاتبة والشاعرة القديرة سعدية مفرح مقالا في يوم الخميس ٣١ يوليو بصحيفة (العربي الجديد) بعنوان (شتات الصور ورعب العيون) تحدّثت فيه عن حفظها لصور شهداء غزة في جهاز الآيباد خاصتها وكيف أنها أصبحت تتفحّص تفاصيلهم في الصور، نفس الصور التي لم تكن قادرة على مشاهدتها من قبل. تقول الكاتبة في مقالها: “لم تعد الصور في الأيام الأخيرة ترعبني، كما كانت تفعل بي سابقاً. أصبحت أتفحصها جيداً، وأعتني بتفاصيلها. أمسح بنظراتي الوجوه والعيون، أتمهل قليلاً، وأنا أركز نظراتي على العيون، أحاول أن أقيس حجم الرعب الساكن فيها، قبل أن تتسلل الروح خارجاً، وأنبهر من قدرة العيون على الاحتفاظ بذلك الشعور المباغت بالنهاية الدامية غالباً.”
إن مقالة الكاتبة أجابت لي عن بعض الأسئلة التي لم تلبث تطوف في رأسي منذ بداية الحرب على غزة عن إمكانية تأقلم أهل غزة مع تجرّع الموت في كل لحظة وبكافة الأشكال. كنتُ أفكر كيف يمكن لمَن يحتضر مليون مرة وهو يرى أبناءه وإخوانه وأصدقاءه وأقاربه يلفظون أرواحهم، يبتلعهم الركام أو تبعثر أوصالهم القذائف، كيف يمكن أن يحافظ على برعم حياة وحيد لم تمسَسه نار! أليس العجز عن حماية الأحبة هو الموت بعينه! أوليست شهادة أولئك على أشلاء أحبتهم أكثر وجعا من تمزّق الأشلاء ذاته، فالشاة لا يضرها سلخها بعد الذبح! لكنهم وبالرغم من ذلك لا زالوا قادرين على الحياة، لأن غريزة الوجود تتجسّد فيهم في أقوى صورها كلما كانت مهدَّدة أكثر!
تتجسّد في حياة كل فرد من أفراد الفلسطينيين عظمة الإنسان في قدرته على التعايش مع الموت بل والتآلف معه بالرغم من بشاعة وجهه! إن ألفة الموت هذه هي ما كانت تتحدث عنها سعدية مفرح في مقالها وهي ما جعلها قادرة على تفحّص تفاصيل أشلاء الشهداء وتعّد قطرات الدم في صورهم وترعى أنفاسهم الهاربة. إن ألفة الموت هي نتيجة طبيعية لمن كان الموت جزءا من حياته اليومية، وهي ليست دليلا على التبلّد ولا حتى عَرَضاً من أعراض الحِياد مع الموت، بل هي شكل من أشكال الصمود والمقاومة للإبقاء على فتيل ‘حياة’ أخير!
أما بالنسبة لألفة الموت ورائحة الدم وتفاصيل الأشلاء من خلال تجرّعها اليومي عبر الصور، فلابد من الحذر من الشعرة الرفيعة التي تفصل بينها وبين السقوط في بئر الإحباط وكراهية الحياة والحنق على العالم. فالشعور بالعجز أمام مأساة الفلسطينيين والخجل من بطولاتهم اليومية في الصمود أمام الحياة والموت على السواء من السهل أن يقودنا- نحن الذين نتفرج على الحرب خلف شاشاتنا- إلى حالة من الانهزامية والشعور بالعبث! إن تسرّب شعور الهزيمة واللاجدوى إلى نفوسنا هو ما سيجعلنا ضحايا جدد للحرب على غزة، وإن كنا لم نشارك فيها بأي شكل ولو شئنا ادعّاء غير ذلك! والمفارقة أن أولئك الذين يُقتَلون على الأرض بالرغم من قتلهم ليسوا ضحايا، فهم اختاروا الحياة بكرامة وَمَنْ يكون هذا خياره لا تُراوِده الهزيمة قط، لأنهم فضّلوا الوجود الحقيقي على الوجود غير الحقيقي! إن مراد الصهاينة على المدى الأطول هو ترسيخ شعور العجز والهزيمة في لاوعينا لنستمر في غيّنا ونعتقد بإمكانية تحقيق “السلام المزعوم”! إن هدفهم ليس قتل أجسادنا وتخريب بيوتنا واحتلال أرضنا، بل هدفهم زرع العجز في زوايا نفوسنا وقتل الأمل والحلم فينا وإجبارنا على العيش بإيعاز من الخوف فقط!
إذن ألفة الموت ضرورية من أجل الصمود والاستمرار، لكن لابد ألا نسمح لها أن تعيقنا عن تسخير عاطفتنا الإنسانية لخدمة ‘الفِعل’ من خلال تكريس الوعي بالقضية الفلسطينية خاصة في الأجيال الجديدة التي لم تشهد أي من الانتفاضات الفلسطينية الأولى. نحن لسنا بحاجة إلى ألفة الموت التي تقودنا إلى طقوس البكائيات والنَدْبيات التي لا تعود بنا إلا إلى بؤرة الهزيمة! نحن بحاجة إلى ألفة الموت التي يتسلّح بها الأطباء في غزة والتي تُمكّنهم من العضّ على وجعهم وسَدّ أنوفهم عن الدم من أجل تجميع الأشلاء والأعضاء المتناثرة وربط العروق المُتدليّة! إننا نحتاج العزيمة التي تجعلهم بالرغم من غصّهم بالبكاء وهول الفاجعة قادرين على أخذ جرعة نوم صغيرة ليعاودوا بعدها اجتثاث الألم من براثنه! نحن نحتاج أن نتعايش مع الموت لنجعله سببا دافعاً إلى الحياة!.
خاص بموقع “المقال”
Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق