” و يا عروبة تجددي “

الكاتب:

1 أغسطس, 2013 لاتوجد تعليقات

 ” من السهل أن يجتمع العرب..

 سواء بعز عزيز / عبد الناصر أو بذل ذليل / مجموعة الإم بي سي”

سلطان العامر.

في كليشيهات ثقافية – قد تُدخل صاحبها لنادي المثقفين بعد قراءة روايتين و حضور أمسية شعرية – يردد مثقفون عرب عبارات من نوع ” الجماهير لا عقل لها “، و كأن مثل هذا الترديد لمثل هذه العبارات هي تذكرة السفر لعالم النخبة و المغادرة لمكان تلك الجماهير. بهذا الطموح ” ترفَّع ” هذا المثقف العربي أو ذالك عن تأييد خيار شعبي أو الوقوف في اعتصام أو تأييد دعوة إلى التظاهر، و حين تكون السلطة في مقابل الناس رفض بعضهم المساس بالسلطة في بلده ( بالرغم أنه لم تقم أية سلطة عربية بتحديث حقيقي يُحسب لها، أي أن حتى وصف المستبد المستنير لا يصدق عليهم ). كثيراً ما كانت الخيارات الشعبية خلف ظهر مثقفين عرب، في الثورة المصرية – على سبيل المثال –  كان المصريون يملئون الميادين ضد نظام مبارك بينما كان جابر عصفور يستلم وزارة الثقافة يوم 31 يناير !

أشار برهان غليون في كتابه ” اغتيال العقل ” إلى الصدع الذي جعل الثقافة العربية ثقافتين، واحدة شعبية و الأخرى نخبوية. المشكلة أن هذا التمايز لم يكن على أساس الأدوات النقدية و التحليلية التي يملكها المثقف فضلاً أن يكون على أساس اضطلاع المثقف بدوره الخاص تجاه مجتمعه و أمته بل كان – هذا التمايز – على أساس غريب هو أنه قد أصبح للشعبيين قضاياهم و مرجعيتهم و صار للنخبويين قضاياهم المختلفة و مرجعيتهم المغايرة. من الطبيعي أن تكون للمثقف آراؤه المستقلة و مواقفه المختلفة التي قد لا تحوز على شعبية كبيرة، و لكنها – أي هذه المواقف و الآراء – لابد أن تكون في مواضيع يهتم بها المجتمع و تشغل حديث الناس. غريبٌ أن يبتدع المثقف قضاياه الخاصة دائماً متكلفاً بها الإبتعاد عن ” عقل الجماهير الساذج ” و غريب أيضا أن تميل أراء المثقف و قضاياه التي يُعني بها مع رياح مكاسب الأقوياء يميل حيث مالت ( كتب مثقف عربي بحثاً عن فكر معمر القذافي ) و الأغرب من ذالك أن يظل هذا المثقف يردد على الناس أن هذا هو الواقع و ” بلاش حماس و أحلام وردية ” !

نذكر هنا أن الرئيس المصري أنور السادات أحدث أحد أكبر الانقلابات السياسية في الوطن العربي إن لم يكن الأكبر على الإطلاق، فقد أطلق بإصرار غريب مشروعاً سياسياً جديداً في المنطقة، كان لهذا المشروع عنوانان اثنان : الأول هو أنه لا جدوى من الحرب مع إسرائيل و أن هذا الكيان انتقل من الواقع إلى الشرعية، و الثاني أن كل مفاتيح اللعبة بيد أمريكا، أي أن واشنطن هي من يحدد ما هو الشرعي في المنطقة و من هو خارج عن القانون. كان هذا الانقلاب يتطلب مواجهة الإرث الناصري السابق له مباشرة الذي ملأ صداه المنطقة، هذا الإرث الذي بشر العرب بالتقدمية و العدالة الاجتماعية و الحرية و الاستقلال السياسي و الاقتصادي و بالطبع رفض إسرائيل و الهيمنة الغربية في المنطقة، و بالرغم من أن السادات وصف عبدالناصر في خطاب النعي ب ( أشجع الرجال و أغنى الرجال ) إلا أنه باشر عملياً في مخاصمة إرث سلفه فبدأ في التخلي عن التحالف مع السوفييت قبل حرب 73 و طالب بسيناء فقط و تصالح مع الإسلام السياسي و شرع في سياسات اللبرلة الاقتصادية و أدار ظهره للدعوات العربية المتكررة بإيقاف التطبيع مع الكيان … و في صورة صدمت العرب جميعاً ذهب السادات إلى عناق حميم مع مناحيم بيجن. و هكذا أخرج السادات أكبر قُطر عربي من الصراع الأهم في المنطقة، كان ذالك بالنسبة لإسرائيل أهم من النصر العسكري في 67.

و كما أن الخطاب الناصري تبناه مثقفون و مفكرون عرب كذالك فإن خطوة بهذه الخطورة في العقل السياسي المصري تحتاج إلى قوة السلطة الناعمة، أعني المثقفين ( تقل حاجة السلطة إلى القوة المادية كلما اعتمدت على القوة الناعمة ) و لأن التطبيع مع إسرائيل لم يكن هوى المصريين و العرب فلا بد من قول كلام ما عن عجز هذه الجماهير في إدراك مصالحها و اختيار مصيرها و عن خياراتها التي لا تجلب شيئاً سوى الضياع و الهلاك .. كان هذا ” الانقلاب الساداتي ” نقطة هامة في نشوء هذا المثقف ” الواقعي ! “، أو على الأقل في اكتسابه الزخم الأكبر. هذا المثقف الذي أخذ يصعد على حساب مثقف المواجهة و التمرد و نزعة الاستقلال، أي أن هذا المثقف ” النخبوي ” نشأ في لحظة سياسية، قد تكون من أسوأ لحظات التاريخ السياسي العربي الحديث .. لحظة القول لإسرائيل ” هاي فريند ” !

بدأ الترويج لهذا العهد الجديد على لسان السادات نفسه، العهد الجديد لمصر و المصريين حيث الازدهار الاقتصادي الموعود و الاستقرار و الرخاء ( لم يحدث ذالك لاحقاً ) و حيث معونة الصديق الأمريكي … و حيث إعادة التفكير في العروبة و الحذر من العرب و الفلسطينيين. و للولوج ” ثقافياً  وفكرياً ” إلى العهد الجديد تم الحديث عن العروبة بشكل مغاير عما كان عليه في أيام عبدالناصر، فقد فُتح النقاش حول القومية العربية بشكل سياسي متحيز و إن تدثر ذالك بالمعرفي و الإنساني و الوطني، فُتح النقاش حول القومية التي حُسم النقاش حولها لصالحها لدى الآخرين، تم الأمر بهذا الشكل لتُثبت حكمة الرئيس و جدوى و صحة خياراته السياسية. في بعض عناوين هذا الخطاب تُحمل القومية وزر الهزيمة و التراجع ( تخشى أن تسمع عبارة هُزم العرب لأنهم عرب ) بل قد يُطرح سؤال ( لماذا نقاتل إسرائيل أصلاً ؟! ) بل قد يتم الحديث عن ” الفلسطيني الشرير ” الذي لا جدوى من مد يد العون له. لم يكن الأمر على طريقة غسان كنفاني ” تغيير المحامين مع الحفاظ على القضية ” بل كان تغيير القضية و المحامين على السواء، المفارقة أن العرب بعدها أصبحوا بلا قضية حقيقية، و أصبح الجشع و الاستئثار و الانتهازية و التنافس الشرس و الكومبرادورية و قيم الاستهلاك و أخلاق السوق و اللبرلة الاقتصادية … عناوين العهد الجديد في أمة توصف بأنها ” أكبر قومية لم تنل حق تقرير مصيرها “. لقد وضع السادات أوزار الحرب لكن أنهار السمن و العسل لم تجر و لم يشرب منها أحد !

لدى مثقفي الانقلاب الساداتي –  و هم قد يكونون ليبراليين أو حتى إسلاميين بالمناسبة – قد تُعد فرحة الجماهير بتأميم قناة السويس سنة 56 و إعادتها للمصريين فرحة ساذجة، و سعادة العرب بالوحدة بين مصر و سوريا سنة 58 سعادة لا معنى لها، و تأييد الناس لحرب الاستنزاف بعد نكسة 67 فعل غوغاء … إنها الجماهير لا عقل لها و لا تجيد الاختيار.

بينما كان الفيلسوف الألماني فيتشه في ” نداءات إلى الأمة الألمانية ” يخبر الألمان أنه لا جدوى من الهروب إلى الأمام و أن عليهم أن يواجهوا قدرهم و يتمسكوا بألمانيتهم كي يتجاوزوا هزيمتهم الكبيرة أمام نابليون سنة 1807 تبارى مثقفون عرب في جلد العروبة في العرب، كان الخروج من العروبة لدى بعضهم هو الخلاص، ثبت في الحقيقة أن الخروج من العروبة شظى المنطقة و أدخلها في وحل ” سياسات الهوية ” و فجر الانتماءات الأولية و سيسها، ليس هذا فحسب بل أعاد رسم هذه المنطقة حسب تصورات الآخر و مصالحه على حساب العرب و مصالحهم سواءً كانوا مجزئين أو مجتمعين، و ليس أي آخر، بل الآخر الذي يريد أن يهيمن و يحتل.

إن كان هذا المثقف قد ثابر في شيء فقد ثابر في تجاهل واقعه و الهروب من استشكال حقيقي لهذا الواقع، لقد كان مثابراً في الترويج لهذا الواقع كما هو. لقد كان الربيع العربي أحد أكبر الظواهر التي أحرجت هذا المثقف. فهذا الربيع لم يدلنا فقط إلى أي مدى كان هذا المثقف متأخراً عن الشارع بل دل على أن هذا المثقف الذي خاصم العروبة لم يكن يعي ما يقول بل كان يتحدث بأحلامه و آماله لا بقراءة الواقع دون تحيز. في التسعينيات الميلادية اندلعت في اندونيسيا ثورة شبابية أطاحت بالرئيس سوهارتو ( جنرال عسكري حكم اندونيسيا قرابة ال30 عاماً )، سقط سوهارتو لكن هذا السقوط مر كخبر سياسي عابر في المنطقة العربية التي يحكم كثير من أقطارها عسكر دون مشاريع، و في ال2009 اندلعت في إيران الانتفاضة الخضراء ( اعترض موسوي على نتائج الانتخابات الرئاسية ) و التي قُمعت بعنف، لم يحدث شيء عربياً و بدت الساحة العربية ( التي زُورت فيها الانتخابات مراراً إن أُقيمت أصلاً ) عصيةً على أي رياح تغيير تهب عليها من خارجها. لكن ما إن نجحت ثورة تونس و هرب رجل الأمن الذي كان يحكمها إلا و انتشرت روح جديدة في الوطن العربي و أُطلقت دعوات للثورة في أقطار عربية أخرى، كانت مصر التالية حيث كان يتسمر الملايين من العرب أمام شاشة الفضائيات من يوم 28 يناير إلى 11 فبراير و أبصارهم صوب التحرير الذي ارتفعت فيه أعلام الدول العربية على رقعة كبيرة واحدة و بشكل خاص ارتفع كثيراً علم فلسطين و كأن فلسطين هي محطة هذا الربيع الأخيرة. و إبان هذه الثورة أيضاً كان النشطاء التونسيون عبر مواقع التواصل الاجتماعي يُسدون النصح لنظرائهم المصريين في كيفية مواجهة الأمن، لاحقاً قدم المصريون و التونسيون النصح لليبيين في الأيام الأولى للثورة الليبية، بدأ الحديث وقتها عن أحجار الدومينو العربية التي بدأت في التهاوي. لقد دل الربيع العربي أن للعرب في أقطارهم المختلفة ظروفاً متشابهة و لهم أيضاً وجدان واحد و آمال و تطلعات مشتركة. و أنهم حقيقة واقعية يمكن تخيلها لا خيال يبنيه الوهم.

من الثورة العربية الكبرى إلى الحرب في فلسطين إلى حقبة عبدالناصر إلى الربيع العربي لم يكن الشأن السياسي وحده هو الذي يوحد العرب، بل إن صوت الأغنية و عزف الموسيقى و مسلسلات رمضان و برامج المسابقات … كانت أيضاً تجمعهم و تجعل بينهم حديثاً مشتركاً.

أصبح معروفاً ضيق كثير من المواطنين العرب بمجموعة الإم بي سي و مضمون بثها ( يُطلق على ذراعها الإخبارية العبرية بدل العربية، و تُطلق دعوات لمقاطعتها ) و يتحدث الكثير عن أجندتها بل عن مالكيها و كادرها الفني و الإداري. هذا موقف، و الموقف لا يجعلنا قادرين على إنكار ضخامة حضورها و كثافة مشاهدتها و أثاره و تأثيرها في المجتمعات العربية.

بثت الإم بي سي 1 على شاشتها قبل شهر رمضان النسخة الثانية من البرنامج الغنائي الشهير ” محبوب العرب “، يشارك في هذا البرنامج مطربون شباب من مختلف الدول العربية و لجنة تحكيم من فنانين عرب و يقوم المشاهدون العرب بالتصويت لمطربهم المفضل، حظي البرنامج بمتابعة واسعة و كان موضوعاً ثابتاً في مواقع التواصل الاجتماعي. حدث الأمر بهذا الشكل و كأن خصوم العروبة لم يجدوا سوى العروبة لترويج بثهم و جلب المشاهدين و الكسب المادي.

لم يكن محمد عساف ( الشاب الفلسطيني الذي فاز بالمسابقة ) و لا منافسيه كادراً في حزب قومي و لا رجالاً من العهد الناصري بل كانوا شباباً في أوائل العشرينيات من أعمارهم ( مواليد أواخر الثمانينيات و أوائل التسعينيات ) أي أنهم بلغة أخرى ( جيل فيس بوك و تويتر ) إلا أنه حين صعد لمنصة الاستديو بعد إعلان فوزه بالمسابقة غنى و غنوا معه ” يا عروبة تجددي ” … الأغنية التي تضمنت كلماتها كلمات عن الأقصى و فلسطين و مواجهة المعتدي و وحدة العرب و صحوتهم … لم تكن كلمات الأغنية مفهومة فقط للمتابعين العرب بل كانت قريبة من وجدانهم و آمالهم.

إن الفنون و الآداب – و منها الغناء – ليست حالة ترف و لا ترفيه و ليست نشاطاً مخصصاً لوقت الفراغ. الأمم و الشعوب تهرب إلى فنونها في أحزانها و تُعبر بها عن أفراحها و تودعها كثيراً من ذاكرتها و تاريخها و تستعيد منها في لحظاتها الحاسمة وقوداً و زاداً لها، و حين غنى محمد عساف / الشاب العشريني ” يا عروبة تجددي ” أخبر العرب أن العروبة لم يحن وداعها أبداً.

 خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق