في دعوى النجاح المبهر

الكاتب:

24 يوليو, 2014 لاتوجد تعليقات

كتبت غادة بن عميرة مقالة[1] ردا على نعوم تشومسكي الذي كان قد انتقد[2] -في مواضع عدة- حركة BDS لمقاطعة إسرائيل. عرّجت الكاتبة على كثير من النقاط، لكني أظن أنها لم تتناول جوهر ما يدعو إليه تشومسكي من نقد، واستخدمت في سياق ردها استشهادات بعضها غير دقيق والآخر ليس مؤثرا على جوهر الخلاف. لست هنا مؤيدا تماما لتشومسكي، لكني أجدها فرصة سانحة للتعريج على بعض الإخفاقات المنتشرة ليس في التعاطي مع القضية العربية-الصهيونية فحسب بل مع النشاط السياسي عموما والحكم بنجاحه.

من الصعوبة بمكان فهم طرح تشومسكي للقضية الفلسطينية دون استحضار منطلقاته الراديكالية، فالأناركي الأشهر في العالم تشومسكي يرى أساسا أن كيانات الدولة الحديثة كلها فاقدة للشرعية لأنها قائمة على الهيمنة والقهر والتراتبية، ومن هذا المنطلق تشترك إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية في فقدانها للشرعية عنده، لكن قد لا تكون هذه الكيانات متساوية عنده في الإجرام. هذا الطرح الرديكالي ليس عند تشومسكي فحسب، فمن تعرّض للأطروحات الإسلامية الراديكالية يجده مألوفا. يتناول عبد الله العروي في كتابه “مفهوم الدولة” العلاقة المضطربة بين الدول التي قامت على امتداد التاريخ الإسلامي وبين فقهاء السياسة الشرعية الذين عاصروها. ذلك الاضطراب جعل الفقهاء يمنّون أنفسهم بخلافة ستعود لا محالة “على منهاج النبّوة” مع اعتقادهم أن تلك الخلافة لن تعود دون معجزة ربّانية، فدفعتهم لتبرير “تحصيل المصالح وتقليل المفاسد” المرحلية ببرغماتية.

ترجمة مثل هذه الرؤى الرديكالية إلى أهداف مرحلية ومشاريع عملية -مع الإقرار بقصورها وبإشكالاتها الجذرية- معضلة حقيقية، وهي تقود أحيانًا إلى العجز عن التصرف بل قد تكون ظلا للإغراق في الواقعية والرضى بما تمليه المرحلة الراهنة وشروطها، ذلك الإغراق الذي لن يقود إلا لإعادة إنتاج الواقع المرير بإجحافه وظلمه وإجرامه، وأظن أن بعض ما يطرحه تشومسكي عن فلسطين واقع في هذه المعضلة، إلا أني أظن في ذات الوقت أن له تساؤلات أخرى وجهية عن الحملة سأعرج عليها تباعا.

كان تشومسكي ممن دعموا جهود المقاطعة الأولى لإسرائيل[3] قبل أن تتوحد تحت مظلة حركة BDS (حركة المقاطعة ونزع السلاح والعقوبات الدولية) في 2005 وقبل أن تُحدّد أهدافها الثلاثة، وهي: 1) إنهاء احتلال الأراضي العربية التي احتلت بعد عام 1967، وهدم جدار الفصل العنصري، 2) رفع التمييز عن مواطني إسرائيل العرب، 3) احترام حق العودة. تتبنى الحركة في تحقيق أهدافها هذه وسائل نباذة للعنف وتؤكد تمسكها بالقانون الدولي.[4] كل مشروع سياسي وحراك حقوقي له عمودين رئيسين: الأهداف والوسائل. ليس ضروريا أن تكون الأهداف حلولا جذرية للمشكلات لتستحق الاحترام -وواضح هنا أن أهداف BDS أبعد ما تكون عن الحلول الجذرية-، لكن من الضروري أن توجد علاقة معقولة ما بين أهدافها ووسائلها. هل المقاطعة العالمية، ونزع السلاح، والعقوبات الدولية ستحقق هذه الأهداف الثلاثة في نظام دولي تهيمن فيه الولايات المتحدة؟ هذا محل البحث.

تستشهد الكاتبة على “نماذج النجاح المبهرة لهذه الحملة” بعدة أمثلة: استثناء الاتحاد الأوروبي لكرة القدم إسرائيل من استضافة مباريات موسم 2014-2015 من دوري أبطال أوروبا، لكن في الحقيقة لم يكن للمقاطعة العالمية علاقة بما جرى (لأن الملاعب الكبرى في تل أبيب، وتل أبيب تعتبر قانونيا تحت السيادة الشرعية لإسرائيل)، بل إن صواريخ المقاومة هي التي أثمرت.[5] استشهدت أيضا ب”إغلاق مصنع اسرائيلي للمشروبات الغازية”، لكن ما جرى لم يكن إلا إغلاق فرع لشركة إسرائيلية في بريطانيا [6]، أما أكبر مصانعها فلا يزال قائما في مغتصبة في الضفة بل إن الشركة طردت في شهر رمضان الجاري 60 عاملا عربيا اعتصموا احتجاجا على رداءة الطعام.[7] تستشهد الكاتبة أيضا ب”نجاحهم المشهود في دفع الإتحاد الأوروبي للموافقة على مقاطعة المنتجات الاسرائيلية”، لكن ما حدث فعليا كان أشد قصورا بكثير: أولا لم تكن كل المنتجات بل الدواجن فقط، ولم تكن الدواجن الإسرائيلية حتى بل الدواجن التي في المغتصبات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية (تقول صحف إسرائيلية أنها تشكل أقل من 5% من منتجات إسرائيل[8]). ثمة خطوة أخرى كثيرا ما يستشهد بها وهي الإرشادات التي أصدرها الاتحاد الأوروبي في يوليو 2013 لتقييد التعامل المستقبلي مع المغتصبات غير القانونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية،[9] لكن من الضروري التنبه إلى أن هذه الإرشادات -وإن كانت أكبر خطوة دولية- إلا أنها غير معنية بما تفعله الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بل تشمل مبادرات الاتحاد نفسه فقط، وأنها ستعزز وتشرعن استمرار مساهمة الاتحاد بمئات ملايين اليوروات لبقية المغتصبات في “إسرائيل الشرعية”.[10]

كل دولار لا يصل إلى المغتصب مكسب، لكن الإغراق في الجزئيات والإيمان بالآلية الدولية هو الخسارة التي ستصرف الأنظار عما ينهي الاحتلال.

تقول الكاتبة:

أن يكون استردادك لحقوقك صعبًا لا يعني ضرورة التخلي عنها، أو أن يكون خصمك متجبرًا لا يعني ضرورة التنازل له.

لكن نقد تشومسكي لم يقترح قط التنازل عن الحقوق.

تحاول حركة BDS تشبيه نفسها بحركة التحرر في جنوب أفريقيا التي شهد نظامها العنصري في آخر مراحله مقاطعة دولية ونبذا عالميا، وألمحت الكاتبة إلى أن مساعي مقاطعة جنوب أفريقيا التي امدت لعقود هي التي قادت في نهاية المطاف إلى هذا النبذ، وكأن فلسطين -إن طال بها الأمد- ستنتهي إلى ما انتهت إليه جنوب أفريقيا. التأمل في تجربة جنوب أفريقيا مفيد فعلا لفهم دور النظام الدولي والنشاط العالمي في دعم حركات التحرر وما آلت إليه الأمور هناك علّنا نستنبط شيئا من جدواها لكي لا نقع في مغالطة الخلط بين الأسباب، ولكي لا تُبذَل الجهود فيما قد يعود بخيبة أمل.

يحكي نيلسون مانديلا في مذكراته “رحلتي الطويلة من أجل الحرية” عن موقف المنظمات الدولية من نضاله:

لم يخطر ببالي الحصول على جائزة نوبل، فحتى في أحلك سنوات جزيرة روبن رفضت منظمة العفو الدولية تبي قضيتنا لأننا رفعنا السلاح وهي منظمة لا تدافع عمن تبنى استعمال العنف.

الولايات المتحدة من جهتها أبقت نيلسون مانديلا في قائمة الإرهاب حتى عام 2008[11]، والرئيس الأمريكي رونالد ريغان نقض عام 1986 العقوبات على النظام العنصري[12] ورئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر وصفت عام 1987 المؤتمر الوطني الأفريقي الذي ترأسه مانديلا بأنه “نموذج على المنظمات الإرهابية”.[13]

لو كان مانديلا مرتهنا لمؤسسات الدولية (حقوقية كانت أو سياسية) ومعولا عليها وساعيا للفت انتبهاها والحصول على دعمها وتقديرها فنبذ النضال المسلح، لما كان له موقف معتبر حين بدأت المفاوضات. ينقل مانديلا واحدة من محادثاته مع أوائل الوسطاء الأوروبيين عام 1986:

قلت لداش بكل صراحة إننا في الوقت الراهن لا نملك القدرة على هزيمة الحكومة في ميدان المعركة ولكن بإمكاننا أن نجعل حكمها للبلاد أمرا في غاية الصعوبة.

انتهت الأمور في جنوب أفريقيا لتسوية سياسية أنهت التفرقة العنصرية المكتوبة في الصعيد السياسي، وحافظت عليها تماما -بفضل التدخل الدولي- في الفضاء الاقتصادي. تحكي نعومي كلاين في كتبها المهم “عقيدة الصدمة” ما جرى من انتقال في جنوب أفريقيا:

جرت المحادثات حول إنهاء مرحلة الفصل العنصري على محورين غالبا ما تلاقيا: الأول كان سياسيا والثاني اقتصادي. وبطبيعة الحال، تركزت الأنظار كلها على القمم العالية المستوى بين مانديلا وف.و. دي كليرك، قائد الحزب الوطني. […] اتضح للحزب الوطني مع تقدم المحادثات السياسية أن خصمه سيستحوذ قريبا على البرلمان بأكمله فبدأ حزب النخبة في جنوب أفريقيا يصب طاقته كلها على المفاوضات الاقتصادية. فشل البيض في جنوب أفريقيا بردع السود عن السيطرة على الحكومة لكن حين وصل الأمر إلى الثروة التي جمعوها أيام الفصل العنصري فإنهم لم يكونوا مستعدين للتخلي عنها بسهولة.

تواصل نعومي كلاين سردها للسيادة المنقوصة لدولة جنوب أفريقيا -بفضل سياسات العولمة التي فرضتها المرحلة الانتقالية- بالحديث عما نتج عنها من انهيار العملة والفقر المدقع وارتفاع معدلات التشرّد والبطالة، وبقاء الأموال المنهوبة والقصور العصرية والمصانع المنتجة في أيادي البيض كما كانت. ليس نموذج جنوب أفريقا شاهدا على جدوى التدخل الدولي، بل على العكس تماما، وعلى نفس المنوال فتحرير فلسطين لن يأتي من العقوبات الدولية المتعذرة أصلا في النظام الدولي المجرم الذي يعطي الولايات المتحدة حق النقض، والتضخيم من أهميته يسلب الأنظار من لب المسألة إلى قشرتها ويدعو لتكرسيه مرجعًا، وهنا يمكن الضرر.

واحدة من الردود[14] التي نشرتها صحيفة The Nation على مقالة تشومسكي كان للاتحاد المُنظِّم للمقاطعة الأمريكية الاقتصادية والثقافية لإسرائيل وفيه يتجلى ذات الإشكال إذ يستشهد ردهم مرارا بالقانون الدولي لتعريف “الفصل العنصري” تارة، ثم معنى “حق العودة” ولزومية توصيات الجمعية العمومية للأمم المتحدة تارة أخرى. تقود هذه المنهجية لمثل هذا التبني الساذج للآلية الدولية، وتكون عائقا أمام التقييم الموضوعي لجدوى حراك معين. لم يكن نقاش تشومسكي عن التفسير القانوني لقرارات الأمم المتحدة، بل أثر تلك القرارات عمليا على تحرير فلسطين.

ينطبق ذات الأمر على تضخيم أهمية التغطية الإعلامية الغربية لما يجري في فلسطين إذ يستسلم هذا الموقف للافتراضات الباطلة التي تدّعي أن الإعلام الأمريكي (الخاضع لرأس المال) يمكن أن يُعوّل عليه أولا في نشر الحقيقة، ثم أن انتشار حقيقة العدوان عند الجماهير الغربية أصلا يعني أنها ستترجم لقرارات حاسمة تضرب المشروع الاستعماري من جذوره. ثمة شواهد أوضح من أن تسرد على القوى البنيوية التي تحدد بوصلة الطرح الإعلامي الأمريكي، وعلى عدم الارتباط أصلا ما بين استطلاعات الرأي العام الأمريكي والسياسات التي تتبعها الحكومة الأمريكية.

ترى الكاتبة أن

أخطر ما تقوم به اسرائيل ليس فقط حملات الإبادة البشرية المستمرة، بل خطرها الأعظم يكمن في محاولاتها الدائمة لمحو الوجود الفلسطيني من التاريخ عبر تزييفها المستمر للتاريخ والثقافة الفلسطينية والتي نراها كثيرًا في محاولاتها اليائسة في نسبة كل ما هو فلسطيني لها لتضفي على وجودها الاستعماري بعض الشرعية التاريخية والجغرافية

وإن كنت أتفق تماما مع خطر محو الذاكرة، ومُكبِرا للجهود العربية على هذا الصعيد، إلا أني أرى ضرورة التنبه إلى أن أهميتها إنما تكون للأمة العربية والإسلامية، وحين إذ فاستراتجية الحفاظ على الذاكرة الشعبية لن تكون مقتصرة على المقاطعة، بل قد لا تكون المقاطعة العالمية أهم مكوناتها بل بث الانتماء ونشر الرواية العربية بين العرب أنفسهم وتنظيم حملات التضامن العملي للضغط على الأنظمة العميلة المشاركة في العدوان. هنا تحديدا تكمن أهمية استحضار الأهداف المرحلية لأن ذلك سيساعد على تركيز الجهود فيما يحققها بدلا من الركون للمؤسسات السياسية الدولية المتواطئة، وإن كانت جعجعتها أعلى.

يكمن الإخفاق الأجسم الذي لم تشر إليه الكاتبة عند تشومسكي -ومثله إدارود سعيد- أنهما -وإن كانا يؤكدان على أهمية معركة الذاكرة- إلا أنهما يرفضان النضال المسلح. يقول تشومسكي في مقابلة عام 2008:

لطالما كان رأيي أن القيادة الفلسطينية تعطي إسرائيل والولايات المتحدة هدية كبرى حين تلجأ إلى العنف وتتمسك بخطابات الثورة […] اليوم مثلا لا شيء ترحب به قاذفات إسرائيل أكثر من صواريخ القسام لأن النسبة والتناسب للموت [بين الطرفين] يمكن أن يصعدا إلى ما لا نهاية (وأن يعتبر جميع الضحايا “إرهابيين”). أتفق تماما مع أصدقائي الذين عندهم اتصال مع القيادة الفلسطينية (وتحديدا: إدوارد سعيد، وإقبال أحمد) أن النضال النابذ للعنف له فرصة أكبر في النجاح، وأعتقد أنه لا يزال كذلك بل أنه يحمل في طياته الأمل الوحيد للنجاح.[15]

يقول إدوارد سعيد:

كل ما قلته يعارض بشدة عسكرة المشهد. لا يوجد حل عسكري […] أعارض الاحتلال العسكري تماما كما أعارض الوسائل العسكرية.[16]

كلاهما يدعو بغموض إلى “إجبار الولايات المتحدة” على إيقاف الدعم عن إسرائيل، مع أن كليهما أيضا يؤكد أن آلية اتخاذ القرار فيها أبعد ما تكون عن الديمقراطية، ومن هنا تحديدا يظهر العجز عن ترجمة المواقف الراديكالية إلى مشاريع عملية ليتحول إلى شعارات فارغة.

ليست الموازنة بين الرؤى الراديكالية والمشاريع العملية أمرا سهلا، وليس النقاش -ولن يكون النقاش يوما- عن المقاومة وزوال إسرائيل، بل عن معايير النجاح المبهر، وضرورة أن نحررها من المنظومة الدولية ووسائلها وأن نحافظ على النقد الذاتي وأن نكبر في ذات الوقت للمقاومة انتصاراتها.

(هذه المقالة حُرّة: يحق لك نسخها وتعديلها دون حاجة لإذن شريطة أن تنسبها إلى مؤلفها وأن تبقيها حُرّة)

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق