احتكارية الإعلام ووحدة المنبرية

الكاتب:

14 نوفمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

في السعودية، هرمنا من بعض السجال. ومن دوائر للمناكفة بلا ثمر أو ربيع. إحدى السجالات المستمرة تدور بين المنبر الإعلامي الثقافي، والمنبر الديني في البلد. البعض من السلفيين والصحوة يردد أن الإعلام مختطف، وأن الصحافة لا تتيح لهم مكاناً كغيرهم. والمثقفون، يرون أن لا مساحةً معتبرة لهم في المجتمع، لأن “المنبر” الوحيد الذي تم دعمه ليتغلغل في المجتمع هو للإسلاميين، والشارع لا يكاد يصغي لـ”صوت” أحد سوى الواعظ أو الفقيه!.

هذا المقال، لا يمارس نفي هذه الافتراضات، بل فقط يحاول أن يضيف نظرة لهذا الموضوع من مستوى آخر.. فهل صحيح أن المثقف لدينا معزول عن المجتمع بسبب احتكار الإسلاميين للمنبرية، أم أنه السبب الرئيس في مثل هذه العزلة؟!.. وهل حقاً أن الإسلاميين لدينا محرومين من أماكن للكتابة؟.. أم أن لديهم مشكلة مع “الكتابة والفكر” قبل أن يكون لديهم مشكلة مع مكانهما؟!.

* * *

يشعر المثقف بعدم تأثيره في المجتمع، وهو يخطئ حين يلوم غيره في هذه المسألة. فهو المسؤول الأول عن عدم وجود مساحة تفاعلية واسعة بينه وبين المجتمع. ذات مرة كتب أحدهم يوصي القارئ :”إذا قرأت شعراً ولم تفهمه فلم الشاعر ولا تلم نفسك”. بمعنى أن الشاعر هو الذي فشل في الوصول إليك، وإيصال فكرته. وهكذا وظيفة المثقف. فالنجاح في اختراق المجتمع هي أحد أهم مهام وظيفته، ومن دون النجاح فيها، سيظل مفقوداً كمثقف. فـ غرامشي يرى أن “كل الناس مثقفون، لكن ليس كلهم يؤدي وظيفة المثقف في المجتمع”.

وفي مجتمعاتنا ليس هناك من دور استثنائي وخاص للمثقف والكاتب يجعل المجتمع يهفو إليه، ويقف عند عتبة رأيه. فتاريخياً، الخطاب الثقافي الفكري الناقد ولد لدينا خارج النسق. فكما يرى الجابري في كتابه “المثقفون والحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد”، فإن المثقفين في الحالة العربية يظهرون وكأنهم لا يرتبطون بمرجعية، ولا يستندون على أصل. فهم يعانون من أزمة وضعف في الامتداد الثقافي، والتأثير الشعبي. لذا تتصعب مهمة المثقف اليوم في أن يكون جزءاً أصيلاً في الملعب الاجتماعي، والخطاب الثقافي السائد.

وما يزال المثقف، الذي يطلب من المجتمع الاحتفاء به، محبوساً في دوائر عزلته. ومنها أنه حبيس لغة تنظير مثالية لا تجول إلا داخل نفسها فقط، وأنه حبيس وظيفته “الأميرية” ككاتب، التي لا تختلف عن الوظائف الحكومية كما يقول نزار. وإضافة لذلك، سيطرة الحكومة على الإعلام ورقابتها عليه، ساهمت في تعميم حس زائف للثقافة والكتابة، جردهما من وظيفة النقد. وكل هذه الارتباطات “المعيقة” للمثقف تعود إلى انعزاله عن الواقع التجريبي وقراءة الواقع بطريقة متجددة. والمنظومة الثقافية العربية في عمومها متباعدة عن التجريب.

والدور “الاعتباري” المهم الذي ينتظره بعض المثقفين لأنفسهم، هو دور كلاسيكي انتهى زمنه. وانتظارهم له هو انتظار لما لا يأت. وعند الغرب انتهى هذا الدور للمثقف بعد منتصف القرن العشرين مع أيام سارتر وراسل، وذلك بعد قرن من ولادة المثقف بمفهومه الحديث.

هذا ما يؤكده المفكر علي حرب في كتابه “أصنام النظرية وأطياف الحرية”، وهو الكتاب الذي حاول حرب من خلاله، مع كتابه الآخر “أوهام النخبة”، أن ينقد  دور “المثقف البطل”. وقد تركزت مناقشته أن المثقفين يحتاجون إلى تجديد “العدّة” الفكرية التي لديهم من أجل التواصل بفاعلية مع الواقع. فالواقع على الأرض قد يكون متحركاً ومُحايثاً، بينما المثقف لايزال يتكئ على أدواته ونظرته المعتادة التي يكررها مرة بعد أخرى.

هناك اليوم واقع جديد، يليق بالمثقف أن يتعرّف إليه، ليجد مكانه، ويتعرف صورته الجديدة والفاعلة. فكما يقول حرب “في عصر المعلومة، لم نعد نحن رسل الحقيقة والهداية، بل مجرد وسطاء بين بعضنا البعض، أفراداً وجماعات أو حقولاً وقطاعات…”(أصنام النظرية، ص60).

في السعودية، حين يتوقف المثقف أو الإعلامي أمام الخطاب الثقافي السائد اجتماعياً، ويجد أنه خطاب رجل الدين أو الواعظ، فهو قد يرى أن هذا نتيجة تدبير محكم طويل الأمد، أو خطط مؤسساتية. ومن الأفضل له لو تأمل الموضوع من جهة أخرى، وهي قصوره عن تقديم نفس ما قدّم صاحب الخطاب السائد، من تماهى مع الشارع وتفاني في خدمته وغير ذلك..

في دراسة له بعنوان “المثقفون والمثقفون الدينيون في جمهورية إيران الإسلامية” لامس الباحث “يان ريشار” بعضاً من هذه الفروق بين الفئتين وقال “الكاتب والبروفسور والسياسي والصحفي وعالم الاجتماع الذين تلقوا تعليمهم في الجامعة، وتمرّسوا في اكتساب المعارف وفي التفكير المجرّد حول العلم وفي إجادة اللغات الأجنبية لا استعمال الرموز، كل هؤلاء يواجهون عقبة لا يستهان بها: فهم لا يتمكنون، نظراً للتباين بين اللغة الأدبية واللغة المحكية، من العثور تلقائياً على اللهجة الملائمة، وسرعان ما يتحوّلون إلى متحذلقين، لا بل إلى مفّوهين يثيرون الضحك، لعجزهم عن ربط المقول عضوياً بالمعيش”.

* * *

وعلى الطرف الآخر، وجدت أكثر من إسلامي عبروا كيف أنهم محرومين من أماكن للكتابة ومن الوصول إلى الإعلام. وهذا أمر حتى لو افترضنا صحةً نسبية له، لا يُفترض أن يجعلنا نغفل عن بُعد آخر في المسألة، وهو أمر البعد عن الكتابة “الناقدة” المزدهرة قبل البعد عن مكانها!.

 أحد الوعّاظ المشهورين اشتكى مرة أن الصحف لا تتيح له مكاناً للكتابة، وحقيقة لا أعرف ماذا كان لديه ليقوله لو أن الصحف أفردت له المكان؟!. فلو كان الزمان غير زمان الانترنت لربما صدقنا مسألة حرمانه، ولكن الإنسان الآن يستطيع أن يقدم ما لديه في أي مكان عبر الانترنت، الذي تنتشر فيه المقالات أكثر من انتشارها في الصحف. ومع ذلك لا نجد له شيئاً عبر الانترنت يستحق الإشارة. وهذا متوقع، فالكتابة الوعظية الوصائية التي تهدف لتلقين الناس فقط، هي كتابة انحسر مكانها منذ زمن.

لقد اقتبس علم الاجتماع من علم البيولوجيا مقولة: أن الحاجة إلى “الوظيفة” هي من يقوم بخلق “العضو” الذي يؤديها. والإسلاميون بنسختهم “السائدة” في السعودية لا يوجد لديهم إلحاح على حاجة وظيفية جديدة تمارس النقد والتجديد والتغيير، لذا آلة الكتابة كعضو ناقد لديهم لا يوجد لها وهج ولا بروز. ولا أتجاهل بالطبع وجود أفراد وشباب إسلاميين ذوي قدرات ناقدة وكتابات إبداعية محلقة، لكن هؤلاء لايمثلون أيّاً من الأنساق السائدة حتى الآن.

فلننظر لرموز الصحوة المعروفين من عقود سابقة وحتى الآن، من منهم يترقب الشباب صدور مقاله وعمله الفكري الجديد؟! (ناهيك عن السلفية). الأغلبية الساحقة منهم تكتب في مواطن لا تثير شيئاً جديداً ولا تتطلب تغييرا. والمشاركة في الشأن الفكري لديهم قد تأخذ شكل ردة فعل، أو تسجيل موقف، أو إعادة إنتاج لما تم تقديمه في السابق.. وليست نخبة، تلك التي تردد على الناس ما يعرفونه مسبقاً!.. هكذا، ليس من مادة فكرية جديدة ومواكبة للواقع المتجدد، ومع ذلك يبقى المكان مشغولاً بمن تعارف المجتمع على كونهم نخبة!. والمسائل الفكرية الملّحة كالدولة المدنية والمسائل الحقوقية وغيرها، نجد لها مواكبة واجتهاداً من نخب داخل المحيط العربي والإسلامي، أما لدينا فلا يبرز نسق تجديدي واجتهادي، وحتى الربيع العربي إلى الآن لم يجعلنا نشاهد هذا النفـَس التجديدي المواكب ممن يسمون رموزاً.

قال لي أحد أساتذتي مرة “الكتابة الحقيقية هي تلك التي يختلف حولها العقلاء”. أي أن نصف القرّاء قد يكونون معك ونصفهم ضدك، وهذا يعود إلى أن ما تكتبه له قيمة جدلية، ويصارع للإثبات أو النفي، والحذف أو الاضافة. الناس لا تنتظر من يخبرهم يما هو معلوم عندهم، ولا توجد قيمة حقيقية في الكتابة فيما لا يختلف حوله الناس. العالم مليء بتحديات مستجدّة، وهناك جدلية مستمرة وطرق شك ونقد تغيير لابد أن يتبناها الفكر ليسقط أي أفكار متخلخلة لا تستحق البقاء..

البنية الفكرية المغلقة لاتعزم سوى على ترديد ما لديها وحمايته. فكر الإسلاميين لدينا يغلب عليه التنظير والمثالية، ومن الصعب أن تجد تحولاً ومراجعة واعترافاً بالقصور والخطأ. هذا الفكر المثالي يغلب عليه النزوع إلى ما ينبغي وما يُفترض. السلفي أو رجل الدين يريد أن تسمعه وتلتقط فقط ما يقدمه لك، وفنون الحوار وأدبيات الآخر التي تستخدم، ليست في أحيان كثيرة إلا تقنية وتكتيك، من أجل أن يُحبب ما لديه لك، ويقنعك بذلك (تكتيك الواعظ)، أمّا وراء ذلك، فهو غير مستعد لتغيير ما لديه، لأن المعرفة لديه هي مسلّمة انقضى أمرها.

هناك فرق بين المثالي والتشخيصي، وهو فرق يقع فيه الكثير، سواء مثقفين إسلاميين أو غيرهم. ذكر المفكر مالك بن نبي مرة أن : تشخيص أمراض المجتمعات مهمّة المفكرين، والنهوض بها مهمّة التربويين. وقول بن نبي قد لا يقبل التعميم والصحة (كما هي انطباعاتي هنا)، ولكنه يلفت انتباهاً لفروق فعلية تنتج من تداخل الخصائص والمسارات، فالمفكرين وروّاد الحركات الاجتماعية دورهم الأساس يكمن في لفت الانتباه إلى مواطن “العلل”، وإظهارها إلى السطح، وليس بالضرورة أنهم من يقدم الحلول لها.. وإحلال مسار مكان آخر، وإشغال محل نخبة فكرية منتظرة بنخبة أخرى (وعظية أو فقهية)، قد يعطّل مسألة الثقافة والفكر كلها.. والقصور في مسألة الكتابة هي إحدى المواطن التي تتيح لنا تأمل الفرق.

من الأولى أن يعود كل فريق إلى ذاته ويعمل على تطويرها، عوضاً عن لعب دور “المسلوب”. ومن حسن الحظ، الإعلام التفاعلي الجديد وعالم الانترنت يتيحان المساحة لتوسعة الأدوار وتجديدها. فبعد الربيع العربي، كم من مثقف معروف، يصارع للعودة إلى لغة الشارع، التي اتضح كيف أنها صاحبة السقف الأعلى، والأثر الأمضى!. والمثقف الديني الذي كان يستهلك نفسه في التحفظ والممانعة وردات الفعل، أصبح لا يستطيع الابتعاد عن ساحة إلكترونية مفتوحة تساعد كثيراً على إثارة الجدل، وتجدد المواقف.

مزيداً من الفكر الواقعي التجريبي والنقد الذاتي والاستنارة المنفتحة، ستساعد كثيراً على الاقتراب والنجاح. ليس بالضرورة، اقتراباً من بعضنا، أو تقارباً  في طرق تفكيرنا، فلا مشكلة لو لم نتقارب في ذلك، وإنما اقتراباً من خدمة الإنسان والحقيقة، إن كان هذا ما نزعمه.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق