مقاومة الدستور بحجة “دستورنا القرآن والسنة”

الكاتب:

12 نوفمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

هذه الجملة هي من أكثر الجمل تكراراً في النقاش السياسي السعودي: “دستورنا القرآن والسنة”، وهي جملة جميلة لكنها مضللة في الوقت ذاته.

يعد الدستور وثيقة قانونية مثله مثل كل الوثائق القانونية الأخرى، ويتميز عنها بأنه الأسمى رتبة مما يعني أن أي قانون أو قرار حكومي يعتبر لاغياً إذا تعارض مع الدستور (أو مع أي قانون أسمى منه) لذلك تنشئ العديد من الدول محكمة دستورية يمكن أن يعترض فيها الشعب على قانون أو إجراء ما بحجة أنه يتناقض مع الدستور، مما يجعل الأجهزة التشريعية أكثر حرصاً في سن للقوانين.

وهذا الدستور قد يعتبر التجسيد العملي لفكرة العقد الاجتماعي الذي يتم بموجبه التعاقد بين الشعب وبين الموظف الحكومي الذي يبايعونه على ترأس إدارة شؤون البلاد، فيصبح الدستور المرجع بينهما في حال حصول النزاع أو الخلاف في أي قضية.

والذي يحصل في السعودية من استعمال لجملة “دستورنا القرآن والسنة” هو مجرد تمييع للأسس القانونية التي يجب أن تقوم عليها الدول وإلغاء لأي تطبيق حقيقي لفكرة العقد الاجتماعي، وتعطيل لمسألة أساسية لا تكتمل الدول إلا بها، وكل ذلك من دون حجة.

فإذا نظرنا للناحية النظرية نجد أن العبارة غير عملية ولا يمكن الاستناد عليها في حالات التشريع أو التنفيذ أو التقاضي، فهي بالتالي لا تؤدي الوظيفة القانونية المطلوبة من الدساتير، وأنا أعلم أن الكثيرين حين يقرؤون هذا الكلام سيحسبون أن كاتبه علماني لا يريد تطبيق الشرع ولكن الحقيقة عكس ذلك، فالدستور مجرد وثيقة قانونية مثل كل الوثائق الأخرى الموجودة فعلاً في السعودية، فلماذا لا نلغي مثلاً نظام المرافعات ونقول أن نظام المرافعات عندنا هو الكتاب والسنة؟ لماذا لا نعترض على إصدار نظام العمل والعمال ونقول للعمال ولأرباب العمل أن الإسلام كفل حقوقكم وبالتالي القانون الذي ينظم عملكم هو الكتاب والسنة؟ لماذا لا نقول لأجهزة الضبط أن تعاملكم مع المشتبه بهم والموقوفين لن يتم بعد اليوم بناءً على نصوص نظام الإجراءات الجزائية وإنما بناءً على الكتاب والسنة؟ هل لأننا ضد الإسلام؟ أبداً، ولكن لأسباب بسيطة جداً، فهذه الطريقة في وضع القوانين غير عملية البتة، فهل سيحفظ العامل مثلاً كل نصوص الكتاب والسنة وتفاسيرها قبل أن يعمل؟ وهل نلزم السجين أن يلم بالفتاوى والآراء الفقهية قبل أن نسجنه؟

وهنا تكمن نقطة أخرى مهمة وهي غياب الإجماع عن الكثير من القضايا الفقهية فما المرجع في هذه الحالة؟ لا يمكن أن يكون المرجع هو الكتاب والسنة مرة أخرى لأن الفقهاء الذين اختلفوا في هذه الأحكام كان الكتاب والسنة مرجعهما أصلاً، وبالتالي حين نواجه قضية ذات طابع اجتهادي سندخل هنا في أزمة واضحة قد تؤدي لكارثة فرض رأي فقهي واحد فقط على كل المواطنين بسطوة القانون وقوة الدولة وأجهزتها (وهي كارثة تحصل في السعودية كثيراً وفي العديد من القضايا).

وهذه الأزمة تتجلى في السعودية من مظاهر مختلفة خصوصاً مع احتكار الدولة شبه المطلق للمؤسسات الدينية كالحرمين والمساجد والأوقاف والدروس الشرعية والمناهج الشرعية في المدارس والجامعات وهيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء … إلخ. ومن الحالات الواضحة لهذه الأزمة حادثة الشيخ الشثري عضو هيئة كبار العلماء الذي تمت معاقبته ومهاجمته في الإعلام بشكل مبالغ فيه لأنه قال رأيه الشرعي في مسألة من مسائل الدولة، فلم يكن ذلك الهجوم اعتداءً على حرية الرأي فقط بل كان عقاباً له على أدائه وظيفته التي هي إعطاء الرأي الشرعي في القرارات الرسمية! فالرسالة التي وصلت للكثيرين هي”إما أن لا يرد العالم على هذه الأسئلة، وإما أن يجاوب الجواب الذي تريده الدولة وبالتالي يصبح مجرد ديكور.

فمن ناحية نظرية نجد أن جملة “دستورنا القرآن والسنة” ليس لها تطبيق حقيقي واضح على أرض الواقع، فنحن لا نرجع للقرآن وكتب الحديث وكتب التفسير كلما استجد أمر، وكذلك الدولة لا تفعل ذلك.

إن وضع الدستور ليس مخالفاً للتشريع الإسلامي فالدستور مجرد أداة والمهم هو كيفية استعمال هذه الأداة، فهل يعقل أن تتناقض المصلحة الشرعية مع أن يكتب دستور بشكل متقن ينص على أن الشريعة هي مصدر التشريع في الدولة ويتم من خلال الدستور توثيق آليات تطبيقه وكيفية تعديل مواده؟ بل أنا أجزم أن المصلحة الشرعية تقتضي كتابة الدستور.

وليس كل من دعا لوضع الدستور يصبح علمانياً بالضرورة كما يتصور البعض، بل نجد الإسلاميين حول العالم اجتهدوا في وضع رؤية دستورية لبلدانهم، وها هم إسلاميو تونس ومصر يضربون مثلاً عملياً على ذلك بعد أن سقطت الديكتاتورية في بلدانهم.

ومن العجيب أن السعودية قد أصدرت فعلاً وثيقة قانونية اسمها “النظام الأساسي للحكم” مكتوبة بنفس أسلوب كتابة الدساتير، والنظام ينص على محورية الكتاب والسنة! مع ملاحظة أن النظام الأساسي للحكم لا يجب أن يعتبر دستوراً بالمعنى المطلوب وذلك لأنه صدر من الدولة دون أن يصوت الشعب عليه.

ومما سبق يصبح واضحاً أن النضال لأجل الدستور ليس مجرد ترف ثقافي ولا مجرد حراك علماني، بل هو ضرورة وطنية ملحة.

هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية التطبيقية فيجب بحث مدى موائمة القوانين السعودية والقرارات السياسية والاقتصادية للكتاب والسنة.. وتلك حكاية أخرى طويلة.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق