ليبيا تنزف، والليبيون يُصوّرون جثة القذافي!

الكاتب:

2 نوفمبر, 2011 لاتوجد تعليقات

استوقفتني كثيراً اللحظة التي قبض فيها الثوار على القذافي، حيث كانوا يجروّنه كبهيمة وهو يصرخ “حرام عليكم”. لقد استوقفتني هذه العبارة ليس لأن القذافي كان يطلب الرحمة من الثوار، بل لأن تعابير وجهه كانت تدلّ فعلاً أنه يشعر بأن ما يفعلونه به “حرام”. والسؤال هو: كيف لطاغية لم يتورّع عن أن يعيث في الأرض فساداً في كل لحظة من عمره، أن يشعر بالظلم حينما يُلاقي بعضاً مما كان يُذيقه لضحاياه ليلاً نهارا؟

نفس الشيء رأيناه في محاكمات صدّام حسين الذي كان يستميت فيها للدفاع عن نفسه، حتى أنك تكاد تصدّق أنه كان يؤمن فعلاً أنه لم يرتكب أي جريمة في حق أي كائن حي. لم يُحاول صدّام أن يعترف بجرائمه أو أن يُظهر ندمه عليها أو على الأقل أن يُبرر أفعاله و يطلب الرحمة من أحد، حتى في لحظة إعدامه. بل كان صدّام يتقمّص دور الشهيد بحِرفية مذهلة، الشيء الذي جعل الكثيرين يتعاطفون معه خاصةً حاملي شعارات القومية العربية. وهكذا أطلق صدام شهادته الأخيرة بثبات ويقين مخيفين، تاركاً لحظاته الأخيرة لغزاً مستعصياً على الجميع.

هنا تتجلّى بعض الصفات المشتركة بين الشخصيات الديكتاتورية، وأهمها القدرة على إيهام النفس باحتكارها للحق والحقيقة، وعزل النفس عن أي واقع يُمكن أن يتعارض مع هذه الحقيقة المُختلَقة. لذلك نجد أن تلك الشخصيات تُحيط أنفسها بمجموعة من الناس تؤكّد وتعزّز رؤيتها للواقع الخاص بها، فيشكّل هؤلاء الأشخاص جداراً عازلاً بين الدكتاتور وواقع الناس. وهكذا يعيش الدكتاتور في ذلك المجال البصري والعقلي الضيق جداً، إلى أن يصدق الكذبة وربما ينسى أنه مَن اخترعها من الأساس.

استيعاب هذا الجانب من شخصية الدكتاتور يُلقي الضوء على دور بطانة الدكتاتور في تضخيم أناه وتعزيزنظرته الأحادية ونزعاته السادية. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر عن طبيعة المجتمعات العربية وقابليتها لتفريخ شخصيات دكتاتورية وسادية أكثر من غيرها. فالصورة النمطية للرجل ومقاييس الرجولة في العالم العربي هي إلى حد كبيرغير بشرية، وتضطر الرجل إلى أن يعيش حياته بشخصية مزدوجة. هذا عدا أن العلاقات الاجتماعية والإنسانية في المجتمعات العربية لا تقوم على الندية، بل على موقع كل شخص في هرم السلطة. وهكذا يستبّد القوي بالضعيف، ويستبّد الضعيف بالأضعف. هذه الطبيعة الاستبدادية للعلاقات الإنسانية هي ما يخلق حالة من العداء الأبدي بين قمة الهرم وقاعه، فلا يعود الضعيف ُيوفّر فرصة الاستبداد بالقويّ، إذا حدث وسقط القوي من قمة الهرم إلى قاعه.

هذا ما حدث مع سقوط القذافي ورغبة الليبيين في الانتقام منه ومن جثته. فمشاعر الغضب تجاه القذافي هي ردة فعل طبيعية، لكن تلك الرغبة في الانتقام والتشفيّ من جسد عاجز يتنازع عليه الذباب أمرٌ مختلف وله مدلولات سلبية كثيرة. التحرّر من الاستبداد هو رغبة في سيادة القوانين وتحكيم العدالة الاجتماعية. أما الرغبة في الانتقام بطبيعتها تنبع من الشعور بالعجز عن تحقيق العدالة، وبالتالي محاولة فرضها بالقوة، لكنها قوة غير مشروعة لأنها لا تستند إلى أي قانون.

تحقيق العدالة بالقوة ودون الرجوع إلى القانون هو شكلٌ آخر من أشكال الاستبداد، وهو صيغة أخرى للظلم الذي بذل الليبيون أرواحهم لأجل إنهائه. لا أحد يستطيع إنكار وحشية ما قام به القذافي في حق شعبه، لكن معاملته بالمِثل لا تنمّ عن رغبة الليبيين في سيادة دولة المؤسسات والقوانين التي ثاروا من أجل تحقيقها.

لم يكن الليبيون بحاجة لأن يعرضوا جسد القذافي على القادم والآتي، صحفيين وغيرصحفيين. فصاحب الحق ليس بحاجة إلى التمثيل بجسد المستبّد لإنصافه. الحق هو غاية المقهور والعدالة هي مبتغى المظلوم. والسؤال للثوّار هنا: لماذا يلتفتُ الأب إلى العدو الذي حاول قتل ابنه، إذا كان العدو قد قُتِل وطبول الحرب قد أُخمِدَت، في حين أن جسد ابنه لايزال ينزف؟

خاص بموقع “المقال”

 

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا يوجد مقالات ذات صلة

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق