إشكاليات حول هوية الدولة السعودية

الكاتب:

1 أكتوبر, 2011 لاتوجد تعليقات

على إثر تحالف الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب في منطقة الدرعية خرجت نسخة الدولة السعودية الأولى عام 1744 م للعلن. بسطت الدولة الفتية نفوذها على معظم رقعة الجزيرة العربية، ممتدةً شرقاً وغرباً، فاتحةً لبعض المناطق قسراً أو طوعاً. لم يعب تلك الهوية القبلية الدينية الجديدة في حينها غير عدوانية تفسيرها الديني الغير مراعي للتباينات الثقافية والدينية الموجودة في شبه الجزيرة.

شكلت تلك الهويّة المركبّة من عنصري القبيلة والدعوة الدينية (الوهابيّة)عصبيّة نموذجية للتوسع والاستحواذ، فطالما كانت القبيلة رمزاً للوحدة، وكانت الرسالة الدعوية مفتاحاً إيديولوجياً لاستيعاب الشرائح الاجتماعية، عبر تقديم ذاتها كحامية ومعززة للإيمان الإسلامي في موازاة مجتمع الكافرين. انطلقت إذاً تلك الهويّة من المركز نحو توحيد الأطراف الغير خاضعة لسلطانها السياسي، ولا المتوائمة مع ثقافتها الدينية، وكطبيعة أي دولة سلطوية جديدة سعت لتمركز السلطة في المركز، ونشر ثقافة الأغلبية منذ البداية بحصر عناصر القوة في يدها بانتداب أمراء الأقاليم، ورُسل الهداية التي أُرسلت للوافدين على “دين الدولة الجديد”. تجدر الإشارة إلى أن تسميّة الأغلبيّة والأقليّة هنا لا تعني عددية محددة بقدر ما هي تُشير لتركز أغلبيّة عناصر القوة في يد فئة واحدة. هذا السلوك في تعاطي المركز مع الأطراف، وكذلك في انبعاث الهوية لم يكن فريداً في نوعه، فكثيرة هي الدول التي نشأت تاريخياً على أساسً ديني أو قبلي، أو الاثنين معاً.

لقت هويّة الدولة الجديدة مقاومة شرسة من الهويات المتعددة والجزئية التي كانت حاضرة في مناطقها قبل قيام الدولة، والتي لم تنسّجم أو تتسّق مع الحالة الحديثة التي حاول المركز فرضها عليهم، فطالما كانت كل مقاطعة مستقلة بذاتها سياسياً وثقافياً واقتصادياً، إلا أن المشروع الجديد فرض معاييره الخاصة عبر الترهيب أو العلاقات الزبائنية لضمان الولاء التام، ومارس عملية تنحية منظمة لشتى التباينات الثقافية والسياسية والدينية.

تصرفت الدولة الحديثة إزاء الهويات المتعددة كتهديد محتمل لوجودها أو لسلطتها في الأطراف، وقد تعاملت معهم على هذا الأساس عبر برامج إستراتيجية وسياسات منظمة من خلال استخدام كل الوسائل المتاحة كالتعليم والجيش والجهاز الإداري وغيرها لمحاولة طمّس التباينات الثقافية بين السلطة السياسية في المركز وبين الأطراف، والتأكد من إضعاف الأطراف وتعزيز سطوة المركز من أجل ضمان استمرارية الهيمنة، وهو في الحقيقة برنامج متكامل وغير عفوي. تاريخياً كانت الأطراف في الجزيرة العربية تتفوق على المركز، إن اقتصادياً بتوفر الواحات التي يزرع فيها النخيل كما في الإحساء أو اقتصادياً وإدارياً كالحجاز التي تحتضن المدينتين المقدّستين والتي جلبت لها أهميةً دولية و ثقلاً تجارياً وسياسياً، كما عُرفت الحجاز بتطّور جهازها الإداري الذي حظي بهيكليّة سياسية موحدة منذ قرون وقد استفادت منه الدولة في بداياتها.

إن ما يجعل نقاش هويّة الدولة السعودية نقاش جوهري وحاسم هو ليس تجدد سؤال الهويّة فقط، ولكن التحديات التي تعصف بالمنطقة بعد هبات الربيع العربي وتهدد وحدة كياناتها السياسية تفرض ذلك، زد عليه وظيفة الدولة التي تغيرت كثيراً في القرن الماضي عما كانت عليه في القرون السابقة، فالدراسات الفلسفية والسياسية المعنية  بالدولة ووظيفتها لم يُصيبّها العقمّ عن معالجة الدولة القبليّة أو الدينيّة، بل تجاوزتها لتُنجب دراسات نقدية حول الهوية القومية والدولة المدنية في أكثر الدول ديمقراطية في العالم.

 وبناءً على ما تقدم فأن الهوية القبلية الدينية التي احتكرت الامتيازات لطبقة من البشر طيلة المائة سنة الماضية قد استبدلت وظيفة السلطة من القيام بحفظ النظام العام، وبإقرار العدل والمساواة بين البشر، وبناء دولة الرفاه، إلى زجّ الشريعة في غير مكانها، و مراقبة سلامة إيمان المواطنين، والتأكد من ديمومة شرعية النظام السياسي. هذا الإصرار على مواصلة الحفاظ على هويّة التأسيس أحدث نوع من التخبط في تحديد آلية مناسبة لتطوير النظام السياسي، وأيضاً لمهام السُلطة التي يُنتظر منها تحديثٌ مُستمر، وهو خطأ مركب ناتج عن سعي محموم لتطويع النمو الطبيعي لجسد الدولة ليتناسب مع تركيبة الهويّة التاريخية، والتي ليس في مضامينها أيّ مدلول على أيّ جهّد لتحديد  موقع الفرد أو المواطن في هرم الدولة، و لا على استيعاب فائض الهويات السعودية التي تفجّرت في العقدين الماضيين فأصبحت ” هم ” و” نحن” تستخدم بكل سلاسله على نحو غير مسبوق.

يمكن بسهولة ملاحظة ذلك الارتباك في رسم المعالم الأساسية لشكل الدولة من خلال انتخاب بعض رموز السلطة لتعريف ملتبس لها بوصفها”  بالسُنّية السلفية”، والذي يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول محتوى هذا التعريف، وهو بلا شك في جانب ما يشكل انحداراً خطيراً، من السعي لبناء الهوية القومية، إلى التقوقع في هويّة طائفيّة، وارتداداً للجزئي على حساب الكلي الجامع، وهو بذلك يفوت الفرصة بعد ما يقارب القرن على ميلاد الدولة لأيّ محاولة تجديد في زمن” فائض الهويات، ونقص المواطنة” كما يسميه وجيه كوثراني

تناقض أخر يضاف إلى سلسلة التناقضات التي تمسّ جوّهر الهوية يتمّثل في الخطاب السياسي الجديد، الذي يسعى لمحاكاة خطاب الإمبراطورية الأمريكية في ضرورة خلق عدو خارجي- إيران في حالة السعودية- يُمكّن الهوية القومية من صناعة عصبية تركز على حماية حدود الدولة والمجتمع المُهيّمن عليه من الاختراق، وبالتالي إغفال عناصر التشرذم الكامنة في الداخل، والانخراط في تشييد أسوار إيديولوجية تحمي الكيان، لكن هذا الخطاب ستهدف أول ما أستهدف مذهب الأغلبيّة السكانية لدولة “العدو المفترض” وليس قوميته، مما ساهم في تمزيق النسيج الاجتماعي، وخلق حالة توتر شبه دائم، وأصل لعزلة الأقليات نتيجة شعورها بالاستهداف. في هذه الحالة، وفي حالة تعريف الدولة ” بالسُنية السلفية”، تتفسخ الهويّة فتفقد أهم وظيفة لها؛ وهي تهيئة الشعب للتضحية بالنفس من أجل مصلحة الكيان المشترك.

على العكس من ذلك نجد الخطاب الإيراني الذي يركز على القومية والإثنية معاً، فمسمى “الجمهورية الإيرانية الإسلامية” يتحاشى الإشارة للطوائف والقبائل؛ لكي يستوعب الأغلبية الساحقة من المجتمع الإيراني في هويّة قومية موحدة يوجهها نحو العدو الخارجي، الذي قد يكون غير إيراني تارة، وغير إسلامي تارات أخرى، المهمّ فيها إنها هويّة غير فئويّة أو طائفيّة كما هو حال السعودية، وإن كان الدستور الإيراني يحتوي فقرات طائفية وأيضاً سلوك النظام وتصرفاته في كثير من قضايا المنطقة بها حس طائفي.

الخلاصة النهائية، إن كيميائية الهويّة السعودية لم تفلح في تركيب هويّة استيعابية لفائض الهويات، بل إن السياسة المتبعة طيلة العقود الماضية أعلت قيمة الهويات الجزئية ومكانتها على حساب الهوية القومية، لذا فإن أي نجاح تصبو إليه السلطة في بناء هوية وطنية يستوجب تطوير فكرة الوطن والمواطن قبل أي شيء أخر، من خلال إعادة تشكيل شبه شامل لمكونات الهوية الوطنية، كي يتمكن الوطن من إيجاد تجانس سياسي وثقافي وديني وتلاحم إنساني يستوعب مكوناته.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق