فوسفين والحاجة لنقابة أطباء

الكاتب:

31 مارس, 2014 لاتوجد تعليقات

مؤخراً صدر فيلم “فوسفين” من إخراج عبد الرحمن صندقجي، وتم عرضه في المركز الطبي الدولي بجدة وهو فيلم يحكي عن قضية تبناها المركز من فترة وهي قضية مبيدات حشرية ممنوعة وتشكل خطراً على حياة الإنسان. هذه المبيدات أدت لعدة حالات وفاة في السنوات الأخيرة منها حالة الطفلين ميسرة ومسرة الشهيرة والتي نشرها المركز قبل بضع سنوات في كتيب صغير تمت طباعة مليون نسخة منه.

قبل أن أحضر العرض كنت متخوفاً من بعض النقاط. كنت أخشى من أن يكون الفيلم مجرد تناول سطحي لهذه القضية ولا يعدو عن كونه جهد توعوي آخر. فرغم أن القضية مهمة إلا أننا في النهاية نتحدث عن مبيد حشري قد يقتل في العام الواحد أقل من عشرة أشخاص، وهناك بلا شك قضايا صحية أكبر وأخطر. بالإضافة لذلك ليس من الجيد أن يصدر أي فيلم عن هذه القضية والقضايا المشابهة إذا كان سيركز على سرعة العلاج وتحسين الدواء واستقدام المزيد من الأطباء … إلخ، فالنقطة المحورية في هذه القضايا هي كيف نمنع وقوع الحالات أصلاً والنقطة الثانوية هي كيف نحسن الخدمة الطبية المقدمة حين تقع أي حالة. فـ “درهم وقاية خير من قنطار علاج”، أو بلغة الإقتصاديين فإن صرف بعض الملايين في جهود التي تهدف لخفض الطلب على الخدمات الصحية أفضل من صرف البلايين على أجهزة مكلفة واستقدام كوادر متخصصة بهدف تحسين العرض.

ثم حضرت الفيلم فوجدته قد تجاوز مخاوفي السابقة. كان الفيلم يطرح قضية الفوسفين (وبمهارات تحقيق صحفي مميزة) ويلتقي بأهالي الضحايا وبالمختصين الطبيين والقانونيين وغيرهم، وكنت تقرأ في الفيلم لغة مطلبية: المطالبة بتحسين الخدمات الطبية وخدمات الدفاع المدني وخدمات وزارتي التجارة والزراعة والمطالبة بإصلاح القضاء. بإختصار كان الفيلم يؤدي لما يجب أن يؤدي إليه كل طرح جاد لأي قضية مشابهة: المطالبة بمكافحة الفساد والمطالبة بالإصلاح، وهي المطالب الطبيعية التي سيتوصل اليها أي شخص مهتم بأي قضية مشابهة: حوادث السيارات التي يروح ضحيتها الآلاف كل عام ويتوقع أن تقترب من 10 آلاف حالة وفاة في عام 2019 )، حوادث العمل التي تجاوزت 65 ألف حادثة في عام واحد (اي بمعدل حوالي 180 حادث يومياً!)، التلوث، العنف الأسري، تعاطي الكحول والمخدرات، توفير الرعاية الصحية للمقيمين … إلخ، كلها قضايا متشابكة وتتقاسم مسؤوليتها عدة جهات. وقد كانت كارثة سيول جدة مثالاً لذلك حيث انصب الكثير من النقد وقتها على أمانة جدة رغم أن هناك جهات أخرى كثيرة من المحتمل أن يكون لها علاقة بالقضية مثل وزارة الشؤون البلدية والقروية والدفاع المدني والامارة والشركة الوطنية للمياه وغيرها، أو كما قالت حينها الكاتبة فوزية البكر أن “تركيز الغضب الشعبي على الأمانة سيجعل الأمانة تظهر وكأنها نقطة فاسدة في محيط من الصلاح، والحقيقة أنها جزء من نظام أكبر وجزء من فساد عظيم يعم غيرها من المؤسسات”.

كان من المبهج أن يتناول الفيلم هذه القضية من عدة زوايا ولم يحاول تحجيم وتبسيط القضية في جانب واحد فقط. لكن هل يمكن للفيلم أو للمركز الطبي الدولي أن يحدث أثراً على في التشريع أو التنفيذ أو القضاء على المستوى الوطني؟ على الأرجح لا. التغيير المنشود يتضمن تغيير في سن القوانين وفي كيفية تطبيقها وفي آليات الرقابة والعقاب وفي تحسين الخدمات القضائية وهذا ليس مسؤولية أي مستشفى ولا في طاقة أي مستشفى. فقضية مثل قضية الفوسفين هي نتيجة بيئة من القوانين والممارسات التي اتاحت لهذه الظاهرة ان تبرز، فهي ليست مجرد مشكلة معزولة بزغت من الفراغ. وقد بلغ تبسيط البعض للقضية أن حصروا مشكلة هذه المبيدات الحشرية في جنسية معينة من المقيمين في السعودية وكأنه لا توجد أي جنسية أخرى تشتري نفس هذه المادة! ثم كيف يفترض المرء أن المشكلة هي في المشتري – الذي قد يكون يجهل تماماً مخاطر هذه المادة – وليست مشكلة ناشئة من بنية سمحت بتوفر المنتج؟

ومن هنا أقول أنه إذا أردنا أن ننظر بجدية لهذه القضايا ونناقش تفاصيلها ستبرز لنا قضية محورية يتم تجاهلها مراراً دون مبرر وهي ضرورة تنظيم العاملين في القطاع الصحي والقطاعات الأخرى.

فكر فيها: كل قضية صحية يتم تناولها بشكل جدي ستؤدي للحديث عن آداء جهات أخرى غير طبية وبالتالي إلى مطالب بتحسين الخدمات المقدمة من هذه الأجهزة وتحسين التنسيق لديها والرقابة منها وعليها وتمكين القضاء من الفصل في النزاعات الناشئة عن هذه القضايا. ولا يمكن أن يطرح العاملون في المجال الصحي مطالبهم وآرائهم هذه إلا إذا كان هناك من يمثلهم ولا يمكن أن يكون هناك تمثيل دون انتخاب ولا يمكن أن يكون هناك انتخاب إلا إذا كانت هناك نقابة أو إتحاد (أو سمها ما شئت) للأطباء وآخر للممرضين وآخر للتقنيين وهكذا. ونفس الكلام ينطبق على المهندسين والمحاميين وسائر الوظائف.

قد يبدو هذا مطلباً بعيد المنال في السعودية لكن لا مفر من مواجهته، فنحن لن نعيد إختراع العجلة. الحاجة للإتحاد بشكل منظم حاجة طبيعية وسنجدها تعبر عن نفسها حتى لو منعت بالقانون، فعلى سبيل المثال برزت في السنوات الأخيرة عدة مرات من خلال اعتصامات خريجي التخصصات الطبية أو عمال بعض شركات النظافة أو معلمات محو الأمية أو المعلمات البديلات اللاتي أنشأن أيضاً “رابطة البديلات المستثنيات” التي تحدثت بإسمهن مؤخراً في الرد على قرارات من وزارة التربية والتعليم وغيرها من أشكال المطالب الجماعية. وبغض النظر عن تفاصيل مطالب هذه الفئات وغيرها إلا أنها دليل على أن النقابات العمالية شكل طبيعي من أشكال التنظيم في اي مجتمع ومن الصحي أن نسمح به. وقد صدر العام الماضي تقرير مهم من البرنامج الانمائي للأمم المتحدة ومنظمة العمل الدولية تحت عنوان “نظرة جديدة الى النمو الاقتصادي: نحو مجتمعات عربية منتجة وشاملة” وكان يركز على الحلول الشمولية ومنها دعوة التقرير لضرورة احترام الحرية النقابية كأحد سبل التنمية الشاملة واحد مقاربات التنمية الصناعية وركن من أركان الحوار المجتمعي الناجح القادر على تجنيب المنطقة الكثير من الإضطرابات، فـ” في سوق العمل يمكن ان يكون لتمثيل العمال واصحاب العمل لجهة الحرية النقابية والحوار المجتمعي أثار على الاقتصاد برمته. وفي الواقع، يعتبر الحوار الاجتماعي شرطاً أساسياً لضمان حسن سير الاقتصاد الكلي ]…[ وتزداد فعالية الحوار الاجتماعي بفعل الصفة التمثيلية لجمعيات أصحاب العمل والنقابات العمالية” حيث “لا يمكن ان يقوم حوار اجتماعي او تفاوض جماعي صحيح ما لم يسمح للعمال بتنظيم أنفسهم بحرية في منظمات مستقلة”. وذكر التقرير أن مشكلة التمثيل النقابي تزداد في الخليج حيث أن الكويت هي الدولة الخليجية الوحيدة التي وقعت على اتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم. وقد لاحظ تقرير حديث صادر عن مركز الخليج لسياسات التنمية وحمل عنوان الخليج 2013: الثابت والمتحول، أنه “وبشكل عام، تُعدّ الحرّيات النّقابيّة في دول الخليج شبه معدومة، رغم تنظيمها قانونيّاً في بعض الدّول، كما أنّ حقّ تأسيسها محصورٌ في غالب الدّول بالعمالة المواطنة، دون العمالة المهاجرة” ولذا فإن “أغلب دول الخليج تفتقر إلى تنظيماتٍ نقابيّة فاعلة قادرة على أن تلعبَ دوراً محوريّاً في الحوار الاجتماعي، وأن تكون عنصراً فاعلاً ومتفاعلاً بين أطراف العمل الأخرى، أو أن تكون قادرة على الموازنة بين رغبة الطّبقة التّجاريّة في زيادة أرباحهم على حساب الحقوق العماليّة”. وتعطيل إنشاء النقابات العمالية ظاهرة لها تاريخ طويل وتدخل ضمن ظاهرة تعطيل مؤسسات المجتمع المدني عموماً.

نظام اللجان العمالية الذي أقر في السعودية قبل أكثر من عقد من الزمان – رغم العيوب التي تعتريه – يمكن البناء عليه وتطويره، خصوصاً أن بعض اللجان العمالية الموجودة حالياً قد تقدم بمطالب مهمة مثل اللجنة العمالية في المؤسسة العامة لتحلية المياه التي طالبت بالحصول على بدلات مثل بدل الخطر وبدل الضرر والعدوى وبدل طبيعة العمل، وطالبت بتوفير وسائل السلامة والصحة المهنية. وفي التاريخ السعودي تجربة نضالية مميزة لها فضل فيما ينعم به موظفو أرامكو السعوديين اليوم. من سيدافع عن حقوق العمال أفضل من العمال؟ ومن يستطيع أن يعطينا تفاصيل المشاكل المختلفة والحلول المقترحة في أي مجال أفضل من العاملين فيه؟

والأمثلة كثيرة حول العالم لنجاحات حققتها التجمعات العمالية المختلفة سواء كانت طبية أو غير طبية. على سبيل المثال في كندا قامت 8 من الإتحادات والتجمعات الطبية المختلفة بالوقوف ضد قرارات الحكومة الفدرالية بتخفيض الإنفاق على الرعاية الصحية للاجئين وأسهم حراكهم في قيام 6 من أصل 10 مقاطعات بإعادة الإنفاق على صحة اللاجئين من ميزانية المقاطعة عوضاً عن الميزانية الفدرالية، كما نتج عن حراكهم دعوى قضائية في المحاكم الكندية شاركت فيها مجموعة أخرى وهي الإتحاد الكندي لمحاميي اللاجئين. وفي الستينيات من القرن المنصرم احتدم صراع سياسي في مقاطعة ساسكاتشوان الكندية حول إقرار التأمين الصحي الذي عارضه الكثير من الأطباء ولكن إتحادات التجار والفلاحين وقفوا مع خطة التأمين الصحي فساعد دعمهم في تحقيق الانتصار مما جعل ساسكاتشوان أول محافظة كندية تحصل على للتأمين الصحي الشامل. بعدها أدرك الأطباء وغيرهم أهمية إقرار هذه القوانين للرعاية الصحية ولم تمض 10 سنوات حتى كانت كل مقاطعات كندا قد حظيت بنظم الرعاية الصحية الشامل بناءاً على نموذج ساسكاتشوان. وهذه مجرد أمثلة على نجاحات حققتها النقابات لصالح مجتمعها.

من الواجب أن ننظم العاملين في القطاع الصحي وباقي القطاعات و إلا ما البديل؟ هل سنكتفي بالإغراق في جهود توعوية معزولة هنا وهناك لا تؤدي للتغيير الجذري؟ التغير الجذري المنشود هو التغيير الذي يقضي على المشكلة من أساسها وهو الذي يمكنه ان يوفر على الدولة ملايين الريالات والذي يمكنه أن ينقذ حياة الآلاف من الأبرياء.

خاص بموقع “المقال”

Twitter Digg Delicious Stumbleupon Technorati Facebook Email

لا توجد تعليقات... دع تعليقك

دع ردأً

يجب أن تكون مسجل دخول لإضافة تعليق